بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
على مشارف حي الجمالية العريق، حيث تتشابك الحياة في أزقة القاهرة الفاطمية، خرج إلى الدنيا طفلٌ قدره أن يُضحك الناس ويبكي في خفاء الليل اسمه (عبد الفتاح القصري).
كان ذلك عام 1905، والمدينة تتغير مع بدايات القرن العشرين.
(عبد الفتاح) ابن التاجر الميسور، لم يكن يتخيل أحد وقتها أن هذا الطفل المرفه، الذي تعلم في مدرسة (الفرير) الأجنبية، سيصبح يوما ما (حنفي) الزوج المقهور الذي ستضج البيوت بضحكاته رغم كل الألم الذي عاشه.
كان والده يطمح أن يتسلم (عبد الفتاح القصري) تجارته ليصبح رجل أعمال محترمًا بين التجار في باب الشعرية والموسكي.
لكن (عبد الفتاح القصري) الصغير كان يهرب خلسة إلى مسارح الحسين، يراقب العروض، يحفظ كل كلمة ونغمة من وراء الستار.
الفن كان يجذبه مثل مغناطيس سريّ، يعاكس به جاذبية التجارة والثراء.
الطريق إلى المسرح.. الحلم الأول
أصرّ (عبد الفتاح القصري) على خوض طريقه الخاص، فانضم إلى فرق الهواة، ووقف للمرة الأولى على خشبة مسرح صغير في القاهرة.
لم تكن البدايات مبشرة، بل كانت هزيلة، فالتمثيل لم يكن (مهنة شريفة) في نظر أهل زمانه، لكنه، كما يقال، كان يمتلك سرًّا خاصًا: تلك القدرة على انتزاع الضحك دون مجهود.
في إحدى ليالي القاهرة، شاهد (نجيب الريحاني) مسرحية لـ (عبد الفتاح القصري).
كان (الريحاني)، بشاربه الشهير وذكائه الحاد، لا يفوت موهبة حقيقية. قال له: (تعال عندي، الجمهور عاوز يشوفك).
في فرقة (الريحاني)، عرف (عبد الفتاح القصري) طريق النجومية، لم يكن بطلًا بالمعنى التقليدي؛ فلم يمتلك وسامة (يوسف وهبي)، ولا صوتًا طاغيًا كزكي طليمات. لكنه كان يملك ما هو أثمن: (روح خفيفة كنسمة)، وحضورًا يسبق الحوار.
مع دخوله السينما في ثلاثينيات القرن الماضي، صار وجه (عبد الفتاح القصري) جزءًا لا يتجزأ من الشاشة الفضية.
شارك في أفلام (الريحاني)، ثم مع (إسماعيل ياسين) لاحقًا، ليشكل معه ثنائيًّا كوميديًّا خلدته ذاكرة المصريين.
وقف (عبد الفتاح القصري) في الصفوف الثانية، لكنه كان يسرق الأضواء بعبارة ساخرة أو نظرة دهشة ارتسمت على وجهه بتلقائية مذهلة.
مشهد من (ابن حميدو) صار أسطورة:
كلمتي لا يمكن تنزل الأرض أبداً.. (حنفى) خلاص هتنزل المرة دي.
لم يكن المشهد مجرد أداء، بل كان انعكاسًا للحياة التي عاشها.
المأساة التي أطفأت النور
في أوج مجده الفني، وبينما يضحك الملايين من مشاهدته، كان عبد (الفتاح القصري) يعيش وراء الكاميرات مأساة حقيقية.
لم يكن الزواج بالنسبة له استقرارًا؛ فقد تزوج أكثر من مرة، وكانت زوجته الأخيرة نقطة النهاية في رحلته.
أحبها كطفل صغير يبحث عن الأمان، لكن القدر أراد أن تكون هي الجرح الأكبر في حياته.
خانته زوجته مع ابنه بالتبني، ذلك الشاب الذي ظنّه امتدادًا له في الحياة.
لم يكن الأمر مجرد خيانة، بل طعنة في كرامة الرجل الذي لم يمتلك في الدنيا سوى قلب طيب وابتسامة كبيرة.
بين ليلة وضحاها، أجبرته زوجته على التنازل عن كل ممتلكاته.
خرج من بيته إلى غرفة فقيرة بحي السيدة زينب، مجردًا من كل شيء، لا يملك إلا ذكرياته وأفلامه التي تملأ شاشات السينما، وفي تلك اللحظة، زاره المرض.
كان على خشبة المسرح يؤدي دوره المعتاد، حين صرخ فجأة:
(أنا مش شايف حاجة !)
الجمهور انفجر ضاحكًا، ظنوا أن (عبد الفتاح القصري) يضيف ارتجالًا ساخرًا إلى دوره، لكن الحقيقة كانت مريرة: (القصري) فقد بصره تمامًا.
وحده في الظلام
في غرفة ضيقة، جلس عبد الفتاح القصرى على سرير حديدي قديم.
كان الراديو صديقه الوحيد، وصوت أم كلثوم يملأ المكان كأنه عزاء دائم لحياته.
زارته الصحافة يومًا لتسأله:
هل تشعر بالوحدة؟
فرد ضاحكًا رغم ألمه:
الوحدة إيه! أنا معايا أصوات الناس اللي بحبها.
لكن الحقيقة أنه كان وحيدًا؛ الأضواء التي أحرقت شبابه رحلت، وبقي هو في الظل.
المشاهد الخالدة.. والخلود الأبدي
ورغم الألم، لم يمت (عبد الفتاح القصري) في ذاكرة الناس.
من يستطيع أن ينسى مشهده في (سي عمر)، حين وقف مع (شرفنطح) يملأ الشاشة بالحياة؟
من يستطيع نسيان عباراته الساخرة التي حفظها المصريون وتوارثوها كأنها أمثال شعبية؟
في فيلم (لو كنت غني)، جسد شخصية العامل البسيط الذي يسقط ضحية الطمع، وفى هذا الفيلم كانت جملته الشهيرة أيضا يا صفايح الزبدة السايحة.. يا براميل القشطة النايحة).
وفي (سكر هانم)، وقف بين كوميديا الموقف ليفجر قنابل من الضحكات من خلال المنافسة مع الفنان (حسن فايق) للفوز بقلب سكر هانم (زوزو ماضى),
رحيل.. وخلود
في 8 مارس 1964، أُسدل الستار على حياة (عبد الفتاح القصري.. رحل وحيدًا، بعد أن فقد بصره وصحته وأمواله.
لم يسر خلفه سوى قلة، لكن مصر بأكملها كانت تودعه دون أن تدري.
هل مات (عبد الفتاح القصري)؟
لا.. لا يموت الفنان الذي رسم الضحكة على وجوه البسطاء، لا يغيب الرجل الذي تحوّلت كلماته إلى جزء من ذاكرة شعب.
(كلمتي لا يمكن تنزل الأرض أبداً)، قالها ساخرًا، لكنها كانت نبوءة.
صوته وصورته لا يزالان يسكنان البيوت، يطرقان الأبواب مع كل فيلم قديم يُعرض على الشاشة.
الضحكة الممزوجة بالدموع
(عبد الفتاح القصري) لم يكن مجرد ممثل، بل كان مرآة لحياة الإنسان المصري البسيط؛ ضحك رغم الألم، وحلم رغم الخذلان.
كانت حياته كوميديا سوداء، بطلها رجل أضحك الناس حتى حين فقد نور عينيه.
في تلك الغرفة الفقيرة، حيث جلس وحيدًا، كان (عبد الفتاح القصري) يعرف أن أفلامه ستبقى، وأن صوته سيظل حيًّا.
ربما ظلمه الزمن، لكننا حين نراه اليوم، نعرف أنه انتصر على الموت بالضحك، وأنه سيظل (حنفي)، الرجل الذي لا يمكن أن يسقط من ذاكرة مصر.
رحل عبد الفتاح القصرى، لكن ضحكته باقية.