بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
(الجمالية) المسرحية من الأسس الرئيسية في بناء العرض المسرحي، وبدون هذه (الجمالية) لايصبح للعرض تأثير على الجمهور، ولكل عرض البنية (الجمالية) يرتكز عليها لكى يقوم بوظيفة التأثير على جمهور العرض المسرحي، وفق الفكرة الرئيسية التي يدور حولها العرض.
وفي مصر القديمة كان من أشهر عروضها المسرحية (عرض الأسرار)، ويذكر أن هذا العرض، استمرت مدة عرضه آلاف السنوات، والهدف من ذلك إحياء ذكرى الأزمنة الرئيسية الكونية، والتركيز على شخصية (أوزيريس)، الذي جعل منه الكهنة إلاها مزعوما.
وبالتالي يتيح العرض فرصة لكل دارس في الطريق المساري، لعبادة أوزيريس، أن يعيش أحداث وأسرار آلام أوزيريس، لأن العقيدة المصرية القديمة عند انحرافها، كانت تهدف إلي تأليه الإنسان.
وأن الشخص العادي من أفراد الشعب من الممكن أن يصير إله، إذا سلك مسار أوزيريس، وهذا المسار الأوزيري (نظام فلسفي كهني)، موضوع من قبل الكهنة الذين تلقوا الأسرار.
وهذا النظام الفلسفي الذي يعتمد على (الجمالية)، تم وضعه ليجيب على أسئلة تدور في عقل الإنسان (ذكر أو أنثى)، ومن هذه الأسئلة هل يمكن للإنسان أن يصبح إله؟
وسوف نجد الإجابة في عرض الأسرار: وهذا من خلال شخصية (نوت)، فهى أخبرت أوزيريس بطبيعته المزدوجة (إلهية ودنيوية).
وأخذت تعده وتؤهله لكي يخلف أبيه في حكم مملكته، وهذا ما كان يتم عرضه في مسرحية الأسرار: ونتخيله معا.
مشهد من مسرحية الأسرار
نوت: أنت ذو طبيعة مزدوجة .
أوزيريس: يستمع .. وماهي الطبيعة المزدوجة؟
نوت: أنت ذو طبيعة بشرية ، وطبيعة إلاهية؟
أوزيريس: يتنبه .. ماذا؟
نوت: نعم أنت تحمل الطبيعتين معا، وسوف تخلف جب في حكم مصر.
وفي هذا المشهد الذي يقدم تمثيلا في (الجمالية)، يضع المشاهد أمام الإجابة التي اخترعها الكهنة، وتتأثر حواسه، ويتم الاستقبال للإجابة، وتستقر في ذهن المشاهد ، فيتولد عن ذلك تأثر داخلي شعوري، ينعكس أثره في حياته، فيعتقد أنه يمكن أن يصبح إله، ويحتويه هذا الشعور النفسي الكاذب.
ويستعد لاستقبال ما يمليه عليه الكهنة من سلوك وطقوس، ومن تلك المشاعر الكاذبة التي تربت عليها النفس، تغلب تلك المشاعر على تفكير الفرد، ويتم الدخول في جدل فلسفي لكي يحاول إثبات صحة هذا المعتقد المصنع.
ومن هنا نجد خطورة فن التمثيل على الإنسان المتعلق بـ (الجمالية)، فكما توجد مشاعر صادقة حقيقية، توجد مشاعر خادعة كاذبة ، ولذلك يجب استخدام هذا الفن بحرص شديد .
ومن الأمور التي حاول العرض المسرحي المصري موضوعات خاصة بالمرأة، وهى مسألة الحمل، فهل تحمل النساء من رجل ميت؟، ونجد أن المسرح المصري قدم عرض خاص بإيزيس، محاولا الإجابة على هذه السؤال، من خلال نظام الأسرار ونرى هذا المشهد: من مسرحية خاصة بإيزيس
المرأة: ولكن كيف تعلمين أن ذلك الذى سوف تضعينه في داخل البيضة هو من أجل الإله السيد ووريث آلهة العناصر.
إيزيس: أنا إيزيس اكثر الآلهة شهرة وقداس ، إن الإله الذى بين أحشائي هو غرس أوزيريس.
(يتدخل [آتوم] ليؤكد أن في أحشائها غرس أوزيريس).
آتوم: يقول هذه التي حملت سرا، هى فتاة حملت وستضع دون تدخل من الآلهة حقا، وهذا يعني أنه غرس أوزيريس، وليحجم هذا العدو الذي قتل أباه عن تحطيم البيضة الصغيرة وليضمن الساحر الأكبر له الاحترام ولتطيعوا أيتها الآلهة ما تقوله إيزيس.
ومن المشهد السابق، نجد أن المرأة تسأل، لأن المرأة تعرف تمام استحالة هذا الأمر، ولا يعقل، والرجال كذلك، ولما كان نظام الأسرار عاجز عن هذه الإجابة لأنها مستحيلة الحدوث، لجأ إلي الاحتكام لآتوم (آدم أبو البشرية)، رأس التاسوع المصري. وبالطبع حكمه يخرص الجميع، فقد حكم ببراءة إيزيس، وهكذا يولد العرض المسرحي مشاعر كاذبة تخدم النظام الفلسفي الكهني المنحرف.
ولكن عند التعرض لهؤلاء الآلة المزعومة، ويتعرض العرض المسرحي لحياتهم كبشر، سوف نجد أنه يولد مشاعر صادقة، تعبر عن الإنسانية الحقيقة لهؤلاء الأشخاص، ومن الأمثلة على ذلك، مشاعر الأمومة عن إيزيس، وتلك هى الجمالية في المسرح.
مشهد لدغ حورس (مسرحية لإيزيس)
إيزيس: ها هو ذا حور قد لدغ، ابنك حور يا راع قد لدغ، لدغ حور، لدغ حور وارث وريثك الذى على مملكة شو، لدغ حور فتى خميس، الفتى المقدس لقصر الأمير، لدغ حور الرضيع الذهبي، الطفل الذى فقد أباه وهو في المهد، لدغ حور الذى كان قلقا في المخبأ والذي كان يخاف منذ كان في بطن أمه،
ما أشد لهفتي لأن أراه حيا، أنعم به من صديق ذاك الذى يرد إليه الحياة.
ولنتنبه إلى فزع الأم، ومشاعرها تجاه ابنها الذى لدغه العقرب، وقد أشرف على الموت، فهي تحاول إنقاذه، وتجزع، وهى مشاعر حقيقية تعرفها الأمهات، أو أية امرأة، فإذا ما فرغنا الكلام السابق من المعتقد الكاذب، نرى حقيقة مشاعر الأمة.
وها استغل، المؤلف للعرض المسرحي، المشاعر الصادقة، ليضفي نوعا من الصدق على المشاعر الكاذبة، التي سوف يتأثر بها الجمهور، فالنساء في هذا العرض لن يلتفتوا كثيرا لمسألة حمل إيزيس.
ولكن سوف يتأثرن بمسألة أخرى، وهى مشاعر إيزيس الأم لحماية ابنها، وهذا ما نلاحظه في مشهد آخر، مشهد من مسرحية إيزيس (عندما وضعها ست في جزيرة محاطة بالتماسيح).
إيزيس: أنا إيزيس التي حملت من زوجها وولدت الإله حور، لقد ولدت حور ابن أوزيريس وسط مناقع خميس، واغتبطت من ذلك جدا جدا، لأنى رأيت فيه ذلك الذى سوف يثأر لأبيه، لقد كنت أخفيه، وبدلت ملامحه مخافة أن يقتل، وهجرت مكاني أطلب رزقا حتى لا يحس العوز.
وكنت أمضى اليوم ساعية بينما ظل الطفل وحيدا، وعدت لأقبل حور، ووجدته أي حور الذهبي الجميل، ذلك الطفل الذى فقد أباه وهو في المهد، والذى بلل الأرض بماء عينيه ولعاب شفتيه وكأن قلبه هامدا وقلبه لا يحس، وكانت شرايين لحمه لا تنبض.
صرخت قائلة: وابؤساه ها هو ذا طفلي يهلك جوعا وثدياي هواء، وإن فمه ليبدوا فاغرا طلبا للغذاء. وا طفلاه لقد نضب المعين.
ومن هذا المشهد السابق، نجد مجموعة من المشاعر الصادقة في رحلة إيزيس ومعاناتها، وهذا ما سوف يؤثر في الجمهور، ولا ينتبه إلي حمل إيزيس من رجل ميت.
وهذا ما نراه أيضا عند مقتل ست لأخيه، فقد تأثر الجمهور بطريقة القتل، وحادثة قتل الأخ لأخيه، وتغاضى عن مسألة طبيعتين أوزيريس، وبهذا نرى كيفية التأثير على الجمهور في المسرح المصري القديم.
فقد استغل العرض المسرحي للتأثير على الجمهور من خلال المشاعر المتولدة عن العرض المسرحي، فقد استغل المشاعر البشرية الحقيقية، ليغطي على الأحداث الكاذبة، والتي تتولد عنها بالطبع مشاعر كاذبة زائفة، تماما كظاهرة السراب في الصحراء يرى الفرد الماء، وتتولد إليه مشاعر الحصول على الماء.
وعندما يذهب إليه لا يجد سوى الرمال، وبهذا نكون قد أوضحنا تأثير العرض المسرحي على المشاهدين لأغراض كاذبة.