رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(محاسن الخطيب).. أن تُقتل فنانة جريمتها الرسم!

(محاسن من غزة.. صامدة بالشمال).. هكذا عرفت نفسها الفنانة الفلسطينية الشهيدة (محاسن الخطيب)
أحمد الغريب

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب

أنا (محاسن الخطيب) من شمال غزة من محيط معسكر (جباليا) المنكوب.. من حمدت ربها مليون مرة على أنه ظل البيت واقف، ومسحت دموعها وخوفها ومسحت الغبار والرمل عن أجهزتها وقعدت تحاول تكمل حياتها وتستر نفسها وأهلها.. بستقبل أعمالكم ما تترددوا الحرب ما ضيعت جمال رسماتي بل زادتني قوة وإصرار.

هذا المنشور كان هو أخر ما كتبته الفنانة التشكيلية الفلسطينية الشهيدة (محاسن الخطيب) عبر منصة (إنستجرام)، قبل أيام قليلة من استهداف العدو الإسرائيلي لها في الغارات على (جباليا) وقبل ساعات قليلة من استشهادها، يوم 19 أكتوبر الجاري.

قامت بتحميل عمل فني لتخليد ذكرى الشاب الشهيد (شعبان الدلو)، الذي أحرق حيا عندما تسببت غارة جوية إسرائيلية في اندلاع حريق في مجمع مستشفى (الأقصى) حيث يقيم النازحون.

وفي منشور آخر تضمن مقطع فيديو للحريق، كتبت (محاسن الخطيب): (شفنا الناس بتولع شفنا الناس محدش قاعد يساعد شفنا الناس بتموت قدام عينيا.. الرحمة من الله علينا).

تبدلت من رسوم طفولية مستوحاة من شخصيات (ديزني) والفنانين المفضلين، إلى نقل جحيم الواقع في غزة

صامدة بالشمال

(محاسن من غزة.. صامدة بالشمال).. هكذا عرفت نفسها الفنانة الفلسطينية الشهيدة (محاسن الخطيب) على حسابها عبر منصة (إنستجرام)، ذلك الحساب الزاخر بالرسوم والأعمال الفنية التي رسمتها أنامل الشابة الصغيرة خلال السنوات الماضية.

والتي تبدلت من رسوم طفولية مستوحاة من شخصيات (ديزني) والفنانين المفضلين، إلى نقل جحيم الواقع في غزة خلال العام الماضي، حتى كان آخر عمل لها يحمل عنوان (نحن نحترق)، والذي علقت عليه (محاسن الخطيب) قبل استشهادها بساعات، وقالت: (قل لي ما شعورك عندما ترى أحدا يحترق).

تركت الفنانة الإنسانة (محاسن الخطيب) قبل رحيلها وخلال حرب الإبادة على قطاع غزة أثرا فنيا وطنيا خالدا، وقدمت أعمالا فنية رقمية تلامس واقعنا وجراحنا وحريتنا، وشاركت في محطات مهمة من معارض وأنشطة مؤسسة (رواسي فلسطين) الوطنية.

وبرحيلها فقدت فلسطين شخصا مبدعا ومتألقا في إيصال رسالة شعبه وقضيته عبر أعمالها الفنية، بعدما ارتقت شهيدة من جراء استهداف طائرات الاحتلال لمنزلها في شمالي غزة، حيث بقيت صامدة ترفض التهجير والنزوح.

نشرت (محاسن الخطيب) خلال السنوات الماضية البهجة بأعمالها الفنية، حتى في اللحظات الحالكة كانت ترسم الابتسامة بنشر يوميات أسرتها تحت القصف وظروف الحرب القاسية، لكن آخر ما نشرته الفنانة الفلسطينية قبل استشهادها حمل الكثير من الألم والذي وصفته بـ (ليال صعبة).

كانت رمزًا للصمود والمثابرة طيلة سنوات حياتها

لسنا أرقاما!

استشهاد (محاسن الخطيب) التى كانت رمزًا للصمود والمثابرة طيلة سنوات حياتها لم يمر هكذا بل كان له بالغ الأثر على جمهور متابعوها داخل فلسطين وخارجها، الذين نعوها بأسى، قال أحدهم: (نعرف أن حياتهم الحقيقية بدأت الآن وراحتهم وسعادتهم ابتدت بعد استشهادهم.. الله يتقبلهم وينتقم من كل من ظلمهم).

وكتبت إحدى المتابعات: (قرأت أنك كنت في شمال غزة، وجئت لأتفقد حسابك وما زالت القصص فيه، فموتك عذب لدرجة أن صدى صوتك الرقمي لا يزال ينبض بالحياة!.. بالأمس فقط قمت بنشر قصص عن أحدث أعمالك الفنية! واليوم رحلت.. إنه لأمر غريب أن تكتشف فنانة، وفي نفس الوقت تكتشف أنها ماتت ظلما.

وكتبت متابعة أخرى: المبدعة (محاسن الخطيب) بالجنة بإذن الله.. آخر رسمة رسمتيها ما كنتي بتعرفي أنك حتكوني بعده!.. والله نحن مش أرقام يا عالم افهموا حسبنا الله ونعم الوكيل).

يقول آخر: (كانت كثيرًا ما تتحدث عن الفن، فتقول إنه مسلي لروحها لأنه يبعدها عن مشاعر الخوف والقتل والدمار والتجويع المحيطة بها، كل رسائلها صمود وتحدي، حتى في رسوماتها، وكانت تحكي أنها تريد أن تكون مشهورة، والآن فلتكن مشهورة في الدنيا والآخرة).

رحلت (محاسن الخطيب) لتنضم إلى قائمة من عشرات الشهداء من العاملين في المجال الثقافي والفني

الحرب على الثقافة

رحلت (محاسن الخطيب) لتنضم إلى قائمة من عشرات الشهداء من العاملين في المجال الثقافي والفني، منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة.

إذ استشهد منذ السابع من أكتوبر الماضي الفنانة البصرية ومعلمة الفنون الجميلة (هبة غازي إبراهيم زقوت)، والشاعرة والروائية (هبة أبو ندى)، والشاعر والروائي والناشط المجتمعي (عمر فارس أبو شاويش)، والكاتبة والممثلة المسرحية (إيناس السقا).

والعازف والكاتب والصحفي والمصور الفلسطيني (يوسف دواس)، والفنانة التشكيلية (حليمة الكحلوت)، والمخرجة (ولاء سعادة)، والشاعر والروائي (سليم النفار)، والكاتب والمؤرخ (ناصر جربوع) الشهير بـ (ناصر اليافاوي).

والفنان التشكيلي (محمد سعد الدين الزمر)، والكاتب (أحمد الكحلوت)، والكاتبة والمؤرخة (رهف حنيدق)، والمغني (صلاح الفيشاوي)، وغيرهم.

لم يقف الأمر عند حد استهداف البشر.

بل سعت يد البطش والعدوان الإسرائيلي المستمرة منذ 7 أكتوبر لتمزيق النسيج الثقافي للحياة الفلسطينية في غزة. لتطال الحجر من قبل البشر بتدمير مركز (رشاد الشوا) الثقافي ومتحف (القرارة)، وكذلك عشرات المؤسسات والمراكز الثقافية كلّياً أو جزئياً.

فضلا عن المساجد والكنائس التاريخية، والمتاحف، والجداريات، ودور النشر والمطابع، والاستوديوهات وشركات الإنتاج، والمكتبات العامة، والمباني التاريخية، والمواقع التراثية، والمقامات الدينية.

العدوان الإسرائيلي المتواصل الذي ألحق ندوبًا بالمجتمع الفني والأدبي في غزة، عبر عنه وزير الثقافة الفلسطيني، الدكتور (عاطف أبو سيف)، في تقرير الوزارة الأخير عن الأضرار التي لحقت بالقطاع الثقافي في غزة، بقوله: (لطالما كانت الحرب على الثقافة في صميم الحرب التي يشنّها المعتدون على شعبنا).

(أبو سيف)، زاد على ذلك بقوله: (ما يحدث في غزة هو عملٌ متعدد الطبقات يذهب أبعد بكثير من التدمير المادي للمعالم الأثرية أو قتل الأفراد. وتندرج هذه الممارسات في إطار عمليات تدميرية أوسع تقوّض إرث المجتمع المحلي وهويته ووجوده، مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات رمزية ونفسية على الفلسطينيين ليس في غزة فحسب وإنما أيضًا في العالم بأسره”.

يمكن فهم الإبادة الثقافية على أنها (إبادة قائمة بذاتها)

أجندة سياسية إسرائيلية

كما يعلم الجميع فإن هذا الدمار، المادي والرمزي على السواء، ليس محض صدفة بل يصبّ في مصلحة أجندة سياسية إسرائيلية أوسع نطاقًا تتمثّل في (طمس الهوية الفلسطينية) والذاكرة الجماعية، ما قد يندرج في إطار (الإبادة الثقافية).

وغالبًا ما تُدرَس (الإبادة الثقافية) باعتبارها أحد مكوّنات الإطار الأوسع للإبادة، فقد اشتمل هذا المصطلح، منذ ابتدعه المحامي البولندي (رالف لمكين) في عام 1944، على ممارسات غير القتل.

إذ إن الإبادة تتضمن الجهود الهادفة إلى (طمس ثقافة المجموعات المستهدفة ولغتها وجوانبها الدينية)، وليست الإبادة حدثًا فجائيًّا؛ بل إنها مسار منهجي مؤلّف من العديد من المراحل المترابطة، على النحو الذي أشار إليه باحثون كثر.

كذلك يمكن فهم الإبادة الثقافية على أنها (إبادة قائمة بذاتها)، ويجب النظر إليها أيضًا بوصفها جزءًا من هذه العملية الأوسع نطاقًا.

فالقضاء على الفنانين والمظاهر الثقافية والأدبية الغنيّة في غزة هو في حد ذاته عملٌ من أعمال التجريد من الإنسانية، ومرحلة أساسية في الإبادة، بما يصبّ في إطار الأمثلة الأكثر شيوعًا التي ظهرت خلال الحرب، مثل نعت السياسيين الإسرائيليين للمدنيين الفلسطينيين بأنهم (حيوانات بشرية).

ومن ثم كانت الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بموجب اتفاقية جنيف، تسليطا للضوء على دمار (الذاكرة والسجلات الرسمية للفلسطينيين في غزة)، بالإضافة إلى (ذكريات الأفراد وتاريخهم ومستقبلهم، ورغما عن هذا يتواصل الاستهداف الأعمى، دون أن يردعه أحد).

سيظل ذنب (محاسن الخطيب) الوحيد أنها اختارت الرسم لتعبر به عن مقاومتها للاحتلال والعدوان، لم تدرك يوما ما أنها ستنضم لقائمة الشهداء وأن يد الغدر ستطالها لتنال منها وتعاقبها على قرارها المضي قدما فى التعبير عن (نكبة غزة) برسومات بسيطة جذابة.

لكنها جسدت من خلالها وبقوة حجم الكارثة الفلسطينية وهولها، وأخيرا: ستبقى ألوانكِ خالدة ترسمُ لوحة الحرية حتى يشاء الله بزوال الاحتلال.. تقبلك الله من الشهداء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.