بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
ليس كل الحب (روميو وجولييت)، وليست كل المشاعر رومانسية، وليست كل العلاقات الوجدانية ينبغي أن تنتهي بالزواج، فالحب مفهوم واسع شامل ممتد، ليست له حدود.
ولكننا بمفاهيمنا التقليدية وضعنا له حدوداً، ليتحول إلى مفهوم ضيق لا يتجاوز حدود علاقة رومانسية بين شاب وفتاة، وأسقطنا منه حب الآباء والأمهات لأولادهم، وحب الأبناء لوالديهم.
وحب الإخوة، وحب الأصدقاء، وحب القرية أو المدينة أو الحي الذي نقيم فيه، وحب البيت، وحب الجيران، وحب النجاح والتفوق، وحب العمل، وحب المدرسة، وحب الايمان، وحب السلام والأمن والأمان، ويتوج كل هذا الحب حب الوطن الذي يجمعنا جميعاً.
وفيه ينبغي أن نعيش الحب بكل أشكاله ونحقق ذواتنا وأحلامنا ونحس ونتعاطف مع بعضنا، مشاعر بحجم الإنسانية، قيدناها وكتفناها، ونظرنا إليها أحياناً بعين الشك والريبة والازدراء.
رغم إدراكنا الكامل أننا لو أطلقناها وتركناها تأخذ مداها لتغيرت معالم مجتمعاتنا، بل وتغيرت ملامح هذا العالم الذي استبدل الحب بالكراهية والبغضاء، وكانت النتيجة صراعات وحروب وتدمير وقتل وفتن وعنصرية وأنانية تكاد تهلك الجميع.
هذه هي باختصار رسالة الأوبرا الشعبية (مش روميو وجولييت) التي يعرضها المسرح القومي منذ بداية الموسم الصيفي، عرض يتحدى به صناعه الانغلاق والتطرف والفساد والعنف، ويتحدى به المسرح القومي العشوائية التي أصبح محاطاً بها من كل جوانبه.
ليظل مركز إشعاع وإبداع وتنوير وسط بيئة تعتمد عشوائية التنظيم فوضوية المظهر صاخبة الصوت لا تليق به ولا بتاريخه ولا بدوره ولا تليق بالمباني المسرحية المحيطة به والتي غطتها أصوات الباعة الجائلين واقتحمت محيطها بضاعتهم البالية، واستسلمت لإرادتهم الأجهزة المعنية وتركتهم يختطفون واحداً من أعرق أحياء القاهرة بما يضمه من مباني تاريخيّة ومؤسسات حيوية.
تحدي (مش روميو وجولييت)
عرض (مش روميو وجولييت) يتحدى أيضاً قرار وزير المالية السابق، بعدم السماح بأي دعاية لعروض مسرح الدولة، من دون إدراك أن هذا القرار يقضي على المسرح ورسالته، ويكرس انتاج عروض مسرحية للكراسي الفارغة في صالات المسارح.
ورغم القرار فقد أعاد (مش روميو وجولييت) إلى المسرح القومي لافتة (كامل العدد)، بعد أن تحول مشاهدوه إلى مروجين له، كل من يشاهده ويستمتع بما وبمن فيه بصرياً ووجدانياً وفكرياً يدعو محيطه إليه ويتمنى أن يشاهده كل الناس.
وأن تصل رسالته لمن ينشد تغطية مساحة هذا الوطن بالحب والحرية والفهم الصحيح للمشاعر الإنسانية من دون تفسيرها شيطانياً بما يقتاد الجميع إلى فتنة مصطنعة لا تخدم سوى أعداء الوطن وأعداء نهوضه.
العرض ليس (روميو وجولييت)، ولكن مسرحية وليم شكسبير حاضرة فيها بقوة، وتدور حول يوميات مدرسة (الوحدة) الثانوية بحي شبرا العريق، حي المحبة والتعايش والشراكة بين المسلمين والمسيحيين.
والذي يعد عبر تاريخه النموذج في السمو بالعلاقات الإنسانية فوق الاختلافات الطائفية، والمدرسة ينقسم طلابها ومدرسوها بين المسلمين والمسيحيين، والعلاقات بينهم سوية بلا أي شوائب.
ونتيجة التغيرات الفكرية التي طرأت على المجتمع خلال العقود الأخيرة يفسر بعضهم علاقة الصداقة بين المدرس المسيحي المحترم (يوسف) والمدرّسة المسلمة الراقية (زهرة) على أنها علاقة عاطفية، فهما يجيئان إلى المدرسة ويذهبان منها سوياً بحكم علاقة الجيرة وبحكم أنهما تربيا سوياً على المحبة منذ الطفولة.
أزمة تهدد استقرار المدرسة ووحدة تلاميذها ومدرّسيها بعد سعي الانتهازيين المتطرفين لاستغلال الأمر لاشعال فتنة، ويجتمع مدير المدرسة الحكيم بالمدرّسين.
ليقرر أن الوسيلة لوأد الفتنة وإعادة المودة والمحبة بين التلاميذ هو تقديم مسرحية (روميو وجولييت) على مسرح المدرسة ويشارك فيها الطلاب جميعاً، المسلمين والمسيحيين ويدربهم عليها المدرّسون من الطرفين، ويتم اختيار طالبة مسيحية لأداء شخصية جولييت وطالب مسلم لأداء روميو.
إبداع (عصام السيد)
مسرحية (مش روميو وجولييت) ليست رسالة لتوسيع الأفق واستيعاب أن مفهوم الحب أكبر بكثير من الحب العاطفي فقط، ولكن أراد من خلالها صاحب فكرتها ومخرجها المتألق عبر تاريخه والمناهض دوماً للتخلف الفكري عبر أعماله المختلفة عصام السيد أن يقول إن المسرح هو الدواء الأنجح لمقاومة الفكر الظلامي.
وإن المسرح المدرسي هو الوسيلة الأمثل لتخريج أجيال متسلحة بالتنوير مناهضة للتخلف رافضة للعنف مستوعبة لبعضها البعض ناشرة للحب منتمية للوطن.
(عصام السيد) يريد هو وغيره من المبدعين الحقيقيين أن يجعلوا من إبداعهم سلاحاً لمواجهة التخلف الذي انتشر بيننا كما الوباء، وأن يجعلوا من فنهم علاجاً لأمراض المجتمع ومطهراً لجراحه، ولكنهم للأسف لا يلقون أدنى درجات الدعم.
بل يعانون عراقيلاً ومعوقات وآخرها منع الدعاية عن عروض مسرح الدولة وضعف الميزانيات، إجراءات تقتل الأحلام الكبيرة ولكن الفنانين الحقيقيين المؤمنين بدور الفن والطامحين إلى نهضة الوطن يتحدون ويواصلون الابداع والعطاء أملاً في غدٍ أفضل لنا جميعاً.
نعم (عصام السيد) هو صاحب الفكرة وهو المخرج والمايسترو الذي يقود وهو الذي حلم بهذا العمل منذ سنوات، ولكن المشاهد يدرك أن هذا العمل ليس فيه بطل أوحد، فكل من شاركوا فيه أبطالاً، تحس وأنت جالس في المسرح أن (مش روميو وجولييت) صرح فني بناه صناعه بالحب.
وحرصوا على تلوينه بألوان الفرح والبهجة، الموضوع ثقيل وقاتم، ولكن المعالجة جعلت منه موضوعاً سلساً ينعم صناعه بطاقة إيجابية، وقد نجحوا بإبداعهم الجمعي في نثر هذه الطاقة على رواد المسرح، ليخرج كل مشاهد ولديه أمل في الغد، وإدراك لضرورة أن تتضافر الجهود للقضاء على بقايا الأفكار الظلامية.
من نحيي وبمن نشيد؟، فالكل يستحق الكثير من التحية والإشادة، إبتداءً من (محمد السوري) الشريك في الإعداد، ومروراً بالعبقري صاحب اللغة الشعرية البسيطة اللفظ العميقة المعنى (أمين فؤاد حداد)، وصاحب الألحان المتفردة السلسة أحمد شعتوت، ومصمم الديكور المعبر للمدرسة.
ومكتب الناظر وقاعة البروفات، وبما فيه من مشاهد تعبيرية لحي شبرا وأهله وناسه، وما يتضمنه من إكسسوارات وكراسي تم استغلالها بشكل ممتاز في الاستعراضات والشجار، ومصممة الاستعراضات، ومصممتا الملابس بما فيها من تعبيرية رمزية وألوان مبهجة، ومصمم الإضاءة الذي أضفى على العرض رهبة وبهجة في آن واحد.
إبداع كل الفنانين
أما عن الفنانين فقد كانوا فرساناً امتطوا خشبة المسرح ليصولوا ويجولوا فيها تطريباً وتمثيلاً وتجسيداً لملامح شخصيات متناقضة الفكر والرؤى، جاهزة للاقتناع بالفكر المستنير حال وجدوا من يصحح لهم المغلوط ويضيء أمامهم الطريق المظلم.
يتقدمهم سيد الغناء المسرحي والدرامي (علي الحجار) بصوته القوي الذي يزداد قوة متحدياً العمر، أما (رانيا فريد شوقي) فقد كانت (زهرة) العرض رشيقة الحركة التعبيرية وواثقة الخطى وكاشفة عن موهبة في الأداء الغنائي ويكفيها أنها استطاعت تكوين ديو غنائي مع (علي الحجار) في بعض المشاهد.
(ميدو عادل) يرسخ موهبته التمثيلية والأدائية ويكشف عن نجم مسرحي وسينمائي قادم، و(عزت زين) فنان مخضرم وأداء حكيم لمدير حكيم، و(رانيا النشار) موهبة تحجز لنفسها مكاناً على الخريطة الفنية، والأوبرالية (أميرة أحمد) نجحت وتألقت غناءً وتمثيلاً، وباقي الفنانين كان كل منهم بطل في مكانه.
(عصام السيد) يضيف بهذا العرض إنجازا مهماً إلى سجله الحافل بالأعمال المتميزة، مؤكداً أنه القائد القادر على تجاوز التحديات، والذي يمكن أن يصنع النجاح ويتجاوز المعوقات بأقل الإمكانات.
والمسرح القومي تحت إدارة الفنان (أيمن الشيوي) يستعيد زمن (سميحة أيوب ومحمود ياسين) وغيرهما من الكبار الذين أداروا هذا الصرح وقدموا على خشبته أعظم الأعمال.