بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
استسلم والدى للفراش.. رقد والدي (محمود رضوان) تماما بعد أن أصيب بالشلل بسبب جلطة المخ التي هاجمته فجأه.. حاول مقاومتها بالكلام.. فتكسرت الحروف على لسانه متلعثما.
حاول مقاومتها بالوقوف.. فكان في كل مرة يفقد اتزانه ويسقط إلى أقرب كرسى.. كلما غادرت غرفته دخلت حجرتى التي أنام فيها.. أحاول التوحد معه.. فأتلعثم في الكلمات وأتهته، حتى أن الداور كان يصيبنى فجأة كما يصيبه.
كنت أحاول استدعاء ذات الشلل من مكامنه المجهولة لأشاركه ما يشعر به علنا.. لنتقاسم الألم والعجز فيخف الحمل عنه قليلا.. تهاجمني الكوابيس.. فتلتف مئات الأمتار من الحبال الغليظة حول ذراعى ..وساقى متحولة إلى ثعابين جاحظة العينين تعتصر روحي.
أو أتحرك على أرجل من الزجاج.. فتتهشم تحتى مع أول خطوة.. لأسقط متبعثرا على الأرض.. لأفزع من نومى منخرطا في نوبات بكاء.. كنت أتعرض في هذه الأثناء لحملة إبادة من مذيعة الراديو الشهيرة.
وقد تفرغت لي في محاولات لاتنتهى لاغتيالى معنويا.. بإيقاف برامجى معها ومع كل من أتعامل معهم من خارج الإذاعه.. والإيعاز للآخرين بإيقاف التعامل معى.. واغتيالى ماديا إلى حد تجويعي.
خاصة وأنى كنت قد تفرغت للشعر تماما.. تاركا كل مهنة تؤمن لى دخلا ثابتا.. كانت تعتقد أنها قادرة على كسر إرادتى.. والنيل من جبال كيانى الشاهقة ..
يتناهى إلى سمعى أنينه العالي في غيبوبته.. أشعرها رسائل منه.. يرسلها إلى، وهو على مشارف عالم آخر.. رسائل مشفرة…تحيلني معانيها إلي حطام.. من بين نبرات صوته.
تخرج يده غليظة تمسك بيدى الصغيرة.. طفلا يأخذنى معه إلى محل عمله.. كان أبى يعمل في مركز شرطة طلخا برتبة عسكري.. يجلس في حجرة التليفون.. يتلقي الإشارات.
شخصية أبى كانت قوية جدا
فيسارع بكتابتها منمذجة مستوفية البيانات.. ليسارع بإبلاغها إلى مأمور المركز.. كانت شخصية أبى (محمود رضوان) قوية جدا.. كنت أراه على مكتبه يحكم العالم.. فتنتشى كل خلية في جسدى الصغير والنحيف جدا بالفخر.
أعود معه من المركز لنمر علي كشك صديقه الديب.. فيحضر لي زجاجة كوكاكولا من تحت ركام الثلج.. و سندوتش عسل أبيض بالقشطه علي النوته.. و لأنه مسرف جدا – و قد أورثنى هذه الصفة إلى حينه – كانت تنتظرنا أكثر من نوته .. في مطعم الفول.
وتحت أرفف الجبن.. والبيض عند البقال.. و إلى جانب ساطور الجزار بضرباته المحببة التي يتناثر لها فتات اللحم برائحته الواعدة بمرقة ساخنة.
عند أول الشهر.. لا يتبقي من المرتب مليما واحدا.. وما يتبقى من ديون تتراكم منتظرة دورها في الشهر القادم ..
في إحدى الأيام.. رآني أبي (محمود رضوان) وأنا أرتدي البنطلون الذي قمت بقلبه عند الترزي.. لياخذ بعضا من مظهر البنطلون الجديد.. انتهزها أبى فرصة، فاصطحبنى معه إلي المركز، ليراني المأمور، وأنا أرتدي هذه الملابس التي تدعوه إلى الفخر بابنه.
عندما وصل المأمور الشاب فزع والدى واقفا يضرب الأرض بحذائه صارخا: (انتبااااه).. تنبه المأمور أثناء دخوله مكتبه بأن العسكري (محمود رضوان) يصطحب طفلا..ظن المأمور أنني صبي تائه، جاء به ليبلغ عنه.. فأشاح بيده – مش فاضي دلوقت – اتصرف انت .
إلتفت والدى ناحيتى.. يطالع إثر إهمال المامور لى على وجهى.. فلم يجد امتعاضا.. بقدر ما وجد من إمارات التفكير في مشهد وقوفه منتفضا أمام المأمور.. شدنى والدى من يدى لندخل إلى مكتبه ليخبره أنني ابنه إبراهيم.
قام المأمور مجاملا يقبلني وهو يردد: ما شاء الله.. ما شاء الله.. أخرج من جيبه الميرى نص فرنك.. وأعطاه لي.. أمسكت بالنقود في يدى الصغيرة دون مبالاة.. كنت مازلت غارقا في أفكارى.. مذهولا من الذي فعله والدى عند دخولنا مكتب المأمور أيضا.
أبوك عظم المأمور
فقد رفع والدى قدمه اليمني يضربها في الأرض.. محدثا بها ضجة شديدة.. أثناء قيامه بتعظيم سلام.. بعد خروجنا من المركز لاحظ والدى سيرى صامتا.
إلتفت ناحيتى ونحن نواصل سيرنا – طبعا – أنت بتستغرب أن أبوك عظم المأمور.. عارف ليه؟
لم أرد.. كنت أنظر إلى النقود في كفى الصغيرة أفكر في إلقائها في كومة قمامة صغيرة كنا نمر إلى جوارها..
بعظمه لأنه أكبر مني يا (إبراهيم )
قلت له محتدا – بس أنت أكبر منه في السن.
قال لي: المسأله يا ابني مش مسألة سن.. المسأله مسألة رتب.. أقولهالك إزاى؟.. شوف.. نفس المأمور ده لو دخل علي مدير الأمن.. هايعمل له نفس اللي أنا عملته..لأن رتبته أعلي منه.. عارف أنا لما أي غفير يدخل عليا.. بيعمل ليا نفس اللي أنا عملته للمأمور.. لو ما عملش ليا كده أجازيه .
كان يشعر بجملته الأخيرة.. أنه يحاول سكب مهدئ على جرحى.. وأنه يعيد في خيالى مكانته العالية..
أبي (محمود رضوان): اوعي تفكر يا (إبراهيم) أن ده ضعف.. دا قانون الحياة.. ربنا قال في كتابه الحكيم (ورفع بعضكم فوق بعض درجات).. عارف أنا من يومين ..كنت واخد متهم و باعرضه على المحكمة..و نسيت ودخلت علي القاضي وفى إيدي سيجارة.
ساعتها القاضي حكم عليا بـ 24 ساعه سجن.. لولا أني قولت له أني من عيلة (فؤاد سراج الدين)، فقال لي: تاني مره ما تعملهاش.
أفيق فجاة علي صوت أنين أبي (محمود رضوان) الضعيف المنتهى بآهة ألم: أين ذهبت (انتبااااه) التي كانت ترتج لها جدران قسم الشرطة.. ألاحظ السكون و اليبس الكاملين يلفان في إحكام تلك القدم التي كانت تهتز لها أرض قسم طلخا.
أتذكر أنه طلب مني أن أحقق له أمنيته في حصوله علي طقم أسنان.. فى الحقيقة لم أكن نسيت طلبه للحظة.. لكنني لم أستطع أن أحقق له هذه الأمنيه.. بسبب الحرب التي أعلنتها هذه المذيعة.. كانت تقسم أنها تحب والدى جدا.. وأنه أجمل الرجال اللذين شاهدتهم في حياتها .
أقف على باب حجرته مستندا إلى إطار الباب الخشبى.. آخذا أصابعى بين اسنانى أعضها وأنا أتأمله :
ما كانشي معايا..لاجل أجيب
عشانك طقم لسنانك
و لا .. تربة.. تجمع عضم جسمانك
لأن.. الست.. بنت الكلب.. حاصرتني
و خلتني.. أشيل الشنطه..
و أرجع.. طلخا.. من تاني
أعاني من طريق الحاجه و العوزة
وأمشي كل يوم في جنازه جوايا
وأبدأ م البدايه رحله مليانة
وجع مكبوت
لحد الموت ما دق البيت ونادى عليك
وشفت عنيك بتتبسم..
لأنك ماشي للملكوت
و.. كان جيب الجميع فاضي
وأنا مش راضي أسأل حد..
عن تعريفه تنجدني
ولا جميزه تسندني
دفنتك..
بس فين ما أعرفش.. تاه قبرك
نهايه عمرها ما تليق.. بشكل رهيب على صبرك
وبنت الكلب
لسه في جرحي شمتانة
لأن ماضيها.. قاللي صراحة..
مش إنسانة.. مش طاهرة
و طول العمر ..
عاشت في الحياه عاهرة
بتقطف كل يوم زهرة.. تدبلها
بخنجر شهوة.. تقتلها
ورغم بلوغنا.. أرزل عمر..
شايل ليها تار بايت بيندهني
وبيوجهني أكتب كل قصتها و أحكيها
وأقول ليها..
بأنك أسفل الكائنات..
برغم الشهرة..
والصوت اللي هز الدنيا بالأشعار
وأنك قلب ليل غدار
وأنك أحقر الناس اللي قابلوني
واني مستحيل ها قبل..
أشوفك تاني بعيوني
لأنك غولة..عطلتيني..
عن مشواري في الرحلة
وأنك.. وحلة.. غصبن عني..
دوست عليها في الضلمة
لأني كنت ساذج.. لسه مش عارف..
قانون المشي في الزحمة
مفيش عندي كلام..
أقدر أقوله في يوم
لأن الكل قال عنك..
بأنك ألف إبليسة..
مفيش جواها طيف رحمة.
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد