بقلم: محمد حبوشة
له في الشعر (محيا وممات)، آمن الشاعر الراحل (بدر بن عبد المحسن) بالشعر قدرا ومهدا للسكينة وفلسفة في الابتكار، وصديقا مغرورا يحرضه على صوغ قصائد تضاهي بجمالها روعة ما كتب، فتمنحه الرغبة في تجاوز نفسه أحيانا، كما قال سابقا في إحدى لقاءاته.
غير أن رحيله أشعل مواقد الجمر في دم الشعر بالنسبة لجمهوره العريض، ومحبيه الذين أيقظت قصائده جذوة العشق في قلوبهم (صبابة وجوى وحنينا).
توفي الأمير السعودي الشاعر المعروف (بدر بن عبد المحسن)، السبت في العاصمة الفرنسية باريس، عن عمر ناهز 75 سنة، بعد معاناة مع المرض ورحلة طويلة امتدت لعشرات السنوات في عالم الشعر، حقق خلالها كثير من الإنجازات في مختلف مجالات الكلمة الشعرية (فصحى وعامية ونبطية ومغناة).
وبرحيله يلقي الوقت قوافل حزنه على كاهل الشعر، فالشاعر الراحل يجيد ببراعة معهودة راكمتها خبرة السنوات كتابة عبقرية الدهشة، وما الشعر إلا تلك العبقرية.
رؤيته للحياة تلخصت في قصائده، إذ يقول: (كل الأرض.. ما تحمل تعب مشوار.. كل ما دعاني الشوق للقلب الأول.. ألقى مكان القلب في الصدر تنهيد).
امتازت قصائد (بدر بن عبد المحسن) بجمالية الأفكار البكر، إذ تتمتع بترف المعاني فضلا عن اختبار أطراف الفكرة وتجويدها وتقليب أوجهها حتى يجود على الشعر بفيض إبداعه، حسب رؤية النقاد والشعراء.
ولد الشاعر الأمير (بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود)، الملقب بـ (مهندس الكلمة)، في الرياض في الثاني من إبريل عام 1949.
ودرس مراحله الإبتدائية بين السعودية ومصر، والمتوسطة في كلية الملكة فكتوريا في الاسكندرية، ودرس المرحلة الثانوية في الرياض، كما استكمل دراسته في بريطانيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية.
وعاصر الشاعر الراحل، بعض الشعراء البارزين في السعودية، منهم (محمد العبد الله الفيصل، وخالد الفيصل، وخالد بن يزيد، ومحمد بن أحمد السديري، وعبد الرحمن بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود)، وغيرهم الكثير.
نشأة الشاعر (بدر بن عبد المحسن)
نشأ الشاعر السعودي (بدر بن عبد المحسن)، في بيت علم وأدب حيث كان والده محبا للأدب، كما أنه شاعر مبدع ولديه مكتبة ضخمة تضم العديد من الكتب، وكان مجلس والده حافلا بالعلماء والأدباء وكبار المفكرين الذين عاصرهم بدر وهو لا يزال صغيرا.
تحولت أبيات (بدر بن عبد المحسن)، إلى كلمات أغنيات لعدد من أشهر المطربين في المنطقة العربية؛ من بينهم (محمد عبده، طلال المداح، عبد الكريم عبد القادر، كاظم الساهر، عبادي الجوهر، عبد المجيد عبد الله، صابر الرباعي، راشد الماجد، هاني شاكر، أنغام، أحلام، أصالة، سميرة سعيد)، إضافة إلى عدد كبير من نجوم الغناء العربي.
وكان (بدر بن عبد المحسن) أحد أبرز الشعراء في السعودية والمنطقة العربية، إذ أثرى الشعر العربي الحديث بإنتاج غزير ومتنوع ما بين شعر الغزل، والفخر والرثاء، والفخر علاوة على اشتباكه مع الواقع الاجتماعي والسياسي في البلاد حتى أن البعض لقبوه بأنه (من أبرز رواد الحداثة) في عالم الأدب العربي.
وتولى سنة 1973 رئاسة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، وعين رئيسا لتنظيم الشعر بالسعودية، وتم تكليفه لعدة سنوات بكتابة الأوبريتات الافتتاحية لعدة مهرجانات محلية أبرزها مهرجان الجنادرية.
أنتج (بدر بن عبد المحسن) خمسة دواوين هى: (هام السحب، وشهد الحروف، ورسالة من بدوي، وما ينقش العصفور في تمرة العذق، ولوحة.. ربما قصيدة).
إقرأ أيضا : (بدر بن عبد المحسن).. رحيل فارس الأغنية الخليجية، الذي عانقت كلماته حناجر معظم المطربين العرب
ولقد فهم (بدر بن عبد المحسن) المعادلة الصعبة، وفك رموزها، واكتشف سرها، وهو لم يحتفظ بها لنفسه، لكن لم يستطع أحد من الشعراء المجايلين، أو الذين أتوا بعده، مجاراته فيما يحسن، في الفن الذي يعرف دروبه ليل نهار.
فهو البدر في ليله، الشمس في نهاره، فظل نسيج وحده، كل شيء واضح لديه قبل القصيدة، أثناءها، وبعدها، وكذلك ما يريده من الشعر في النهاية، فهو جلي واضح، نستدل على هذا من تجربته، ومما حققه ووصل إليه.
وهو مسرحي من الطراز الأول، فلو كانت القصيدة أو الأغنية مسرحا، لكان من أفضل من يعرف أسرار الخشبة، والديكور، والإضاءة، وحركة الممثلين، فهو الرائي وهو الكاتب والمخرج.
فهو دائم السعي لكي يكون الأفضل، وفي هذا السياق يقول الأمير الشاعر (بدر بن عبد المحسن) عن نفسه: (أنا دائما أتخيل القصيدة في شكلها النهائي، وأعرف موضوعها، وأتخيل الأغنية، أتخيل كل عمل فني أنجزه، لكن ربما قادني عملي عليه إلى عوالم أخرى، أكثر اختلافا وجدة).
الفن لديه متشابك متكامل
ومن هنا عمل (بدر بن عبد المحسن) على تنويع ينابيعه المعرفية وتجديدها، فالفن لديه متشابك متكامل، ولا يمكن للشاعر أن يبقى في عقول وأحاسيس الناس، وأن يخلد بلا ثقافة متنوعة راسخة، وعمل دؤوب على بناء المشروع الشعري.
لذلك نراه قد قرأ التاريخ، بل هو مولع به، وقرأ الأدب العربي قديمه وحديثه، والشعر (شعبيه وفصيحه) والرواية، كما قرأ الفن التشكيلي العالمي مبكرا بعينين تعرف قيمة الألوان، ويشعر بسعادة وسكينة وراحة عندما يرسم، وشاهد الأفلام العربية والعالمية.
وكم سافر ويسافر، وتجول في البلدان، فعرف ثقافات وحضارات الشعوب، لكنه قبل ذلك عرف وطنه، وتاريخ وطنه، وأهل وطنه، عاداتهم ولهجاتهم وتراثهم، آلامهم وآمالهم.
أنجز مهندس الكلمة الأمير الشاعر (بدر بن عبدالمحسن)، تجربة متكاملة بالكلمة واللون من خلال القصيدة الغنائية المطعّمة بروح حداثية، نقلت الأغنية المحلية من وصفيتها وتقليديتها الكلاسيكية إلى فضاء أرحب؛ لتجري على اللسان العربي من المحيط إلى الخليج بانسيابية وكأنها أغنية كل وطن وكل إنسان.
لم يقتحم (بدر بن عبد المحسن) ميدان الشعر (عادة الفنان المرهف الحس) بالثقة المفرطة في النجاح والقبول، بل كان وجلا وهو يعتمد التجريب، بتفكيك النص العامودي إلى التفعيلة، ويدخل من الجمل العادية ما يجعلها أكثر فتنة، وتغدو غير عادية (ليت الشوارع تجمع اثنين صدفة)، فالحساسية من التحديث يعده التقليديون اعتداء سافرا على قناعات راسخة.
ولم تكن (المرأة) في قصيدة ولم تكن (المرأة) في قصيدة (بدر بن عبد المحسن) جسدا يحتضن نهم شوق عابر، بل هى الإنسانة وشريكة الحياة والعمر، وقدم العاشق بصورة مغايرة، وخطب ود الأنثى بحس مرهف (حبيبتي ردي سلامي للهوى)، و(حبيتها حبيبتي يا حلم/ ياللي أعرفك اسم/ وجو تصوره الحروف وأتخيله).
وإن اقتحم منطقة بجرأة، فلا يتجاوز مفردات (ريانة العود)، و(هلي الجدايل ظللي عن الشمس/ وداري جبيني عن لهيب السموم)، جسدا يحتضن نهم شوق عابر، بل هى الإنسانة وشريكة الحياة والعمر.
والحقيقة أنه عندما حضر الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن إلى المشهد الغنائي السعودي كان ذلك المشهد متألقا وناجحا، سواء على مستوى المطربين أو الملحنين أو حتى على مستوى شعراء الأغنية.
ناجحه مع الفنان (طلال مداح)
الأمر الذي صعب مهمة النجاح على أي قادم جديد إلى هذا المشهد، لكن (بدر بن عبد المحسن) سجل حضوره فيه بتعاونه الناجح مع الفنان (طلال مداح) بأغنية (عطني المحبة).
ويحار المرء عند استعراض تجربته الشعرية، وربما الجميع بأن هنالك شيئا ما مختلفا في هذا النجاح الغنائي، وأن في الأسلوب الشعري الذي يكتبه البدر تفاصيل ورؤية عاطفية غير مطروقة، وأن هنالك نكهة جديدة أضيفت إلى الأغنية السعودية.
هذه البدايات تجعلنا نقول إن تجربته في الأغنية السعودية كانت تجربة شعرية مستقلة، ناضجة ومختلفة عن السائد محليا؛ لأن الكلمة المغنّاة في الأغنية السعودية حينها، كانت ذات صورة شعرية بسيطة تتوافق مع ذائقة تلك المرحلة.
وبقدوم (بدر بن عبد المحسن) اختلفت الصورة الشعرية، حيث جعل العاشق في أغنية (عطني المحبة) متطلبا مستجديًا بهذه الصورة (عطني في ليل اليأس شمعة، سمعني كلمة فيها حنانك، تفرش دروبي فرحة عشانك).
وهذه الحالة الجديدة من الخيال الشعري الشاسع قابلها خيال موسيقي يتماهى معها، فأصبح بين المطربين والملحنين (بدر بن عبد المحسن)، ذلك التناغم والانسجام الإبداعي الذي أثرى المشهد الغنائي.
ولم يكتف (بدر بن عبد المحسن) بتلك البدايات بل رفع سقف الخيال الشعري في الأغنية حتى وصل إلى خلق صور شعرية جديدة، من مثل: (قمرا ورا الليل الضرير، يدخل قمر أحبابنا مدري أنا من وين، البارحة على وجهك سريت، يوم مد لها يده، كانت الرجفة لقا، ودعت فيها الشقا وتركت بين الأصابع عطرها).
ولأن للأغاني الوطنية التي كتبها (بدر بن عبد المحسن) خصوصية فريدة في أفئدة السعوديين، فلا يمكن أن يحضر دون استرجاع أعماله الخالدة، فقد حلق بهم (فوق هام السحب)، وتحدث بحميمة عالية عن (صوت الأرض).
هذه الأرض التي يراها من منظورين؛ الأول يمثل الكوكب الذي يعيش عليه البشر، والثاني هو أرض الوطن الذي يزهو به الشاعر دائما، كان لـ (بدر بن عبد المحسن) حضور مهم في الأغنية الوطنية السعودية عامة وفي قصائد البدر خاصة.
حيث تأخذ صورته شكل الرمز الوطني: (يا هل التوحيد والدين العزيز حدثونا.. ووصفوا عبد العزيز حدثونا عن أبو تركي العظيم.. حدثينا عن أبونا الفارس الشهم الكريم).
ويتماهى الخطاب الشعري في الأغنية الوطنية مع الخطاب الرسمي، لذا نجد في كثير من قصائد (بدر بن عبد المحسن) المعاني التي تعزز الثوابت الوطنية، وتؤكد على الدفاع عن العقيدة الإسلامية: (في يدنا كتاب الله، وفي يدنا الحسام، إخوان من طاع الله في حرب، وسلام الله معك يا بلادي).
تعاطى بذكاء في نصه الغنائي الوطني
وقد تعاطى بدر بن عبد المحسن في نصه الغنائي الوطني بذكاء مع الإعلام الخارجي الذي كان يحاول استغلال بعض التفاصيل الحياتية ليرسم صورة مزيفة عن الوطن والمواطن السعودي.
فتناول الشاعر (بدر بن عبد المحسن) التفاصيل نفسها باعتزاز وفخر: (من على الرمضا مشى حافي القدم يستاهلك، ومن سقى غرسك عرق دمع ودم يستاهلك، ومن رعى صحرا الضما إبل وغنم يستاهلك).
والمفردات مثل الرمضا/ حافي القدم/ صحرا/ الظما/ إبل.. تمنح الأغنية السعودية لونها المحلي الذي يكرسه الشاعر (بدر بن عبد المحسن) في نصه بكل اعتزاز، فيسلط الضوء على ثقافة المكان بكل مكوناته، فهذا الإنسان الذي عاش الحياة بصعوباتها.
هو الإنسان الذي يشعر بأن هذا الوطن فوق هام السحب، إن للبدر في كتابته للقصيدة الوطنية حكايات، فهو يكتبها مرة بإحساس الشاعر فنجد الجماليات حاضرة (فوق هام السحب، حدثينا يا روابي نجد).
وأحيانا يمزج إحساس الشاعر مع الإنسان الذي يقرأ المشهد بوعي كقصيدة سيوف العز، وعندما تتطلب اللحظة الوضوح الشعري والوطني في المواقف نجده يكتب قصيدته (عوافي) حيث انتصر للوضوح في الشعر وفي لغة الخطاب وفي الموقف.
إن هذه التجربة العميقة برغم انحيازها إلى الحداثة الشعرية، إلا أنها لم تخلق حالة من الرفض، ولم يتوجس منها المتلقي، وذلك لأنها مثلت نموذجا للقصيدة المدهشة، فهو يكتب الشعر بأشكال شعرية مختلفة.
ولكن تتجلى الأسئلة في طبيعة تلك النصوص، فهل لعامل الشكل أثر في مضامين القصائد؟، وهل يبدو كلاسيكيا وهو يكتب القصيدة النبطية؟، أم إن حداثته تظل حاضرة في تلك القصائد؟
هذه التساؤلات تقودنا إلى الاعتقاد بأنه ينتصر لروح المغامرة ولكتابة المعنى وللصورة الشعرية المبتكرة دون أن تكون له طريقته النمطية في الكتابة، لذا نجد تجريبه هو ما يحسم الأمر.
ففي أغنية (قصت ضفايرها) بدأ القصيدة بهذه الواقعية عن الحبيبة المتخيلة بذكر التفاصيل بدقة، فهى قصت (ضفايرها) وتلبس خاتمَ عقيقٍ، وتقرأ لها كتابا يظن أنه كتاب شعر.. قصت ضفايرها.. ودريت/ البارحة.. جاني خبر.. أدري لبست خاتم عقيق.. وتقرا لها كتاب عتيق.
وفي أغنية أخرى نجده يلعب دور السارد (آخر لقانا في الخريف/ تذكري الثوب الخفيف/ والبرد… يوم خفتي علي من البرد/ وأمطار الخريف).
تجارب شعرية وجدت صداها
إن هذه التجارب الشعرية وجدت صداها عند المتلقي عموما وعند صناع الأغنية على وجه الخصوص، فتفاعل معها الملحنون والمطربون، وترجموا تلك القصائد إلى أغانٍ رائعة استقبلها الجمهور وتآلف معها.
لقد أسست قصائد (بدر بن عبد المحسن) لتيار شعري تأثر به كثير من الشعراء وكتبوا قصائدهم على غراره، وهو تيار اتسم بحالة الاستمرارية الطويلة المفعمة بالإبداع المتواصل والمتألق.
فأغلب قصائد (بدر بن عبد المحسن) التي غنيت من مطربين مختلفين، استطاع فيها البدر الحفاظ على نكهة نصه ولم يستسلم لإغواء الأغنية في كتابة النص الغنائي، وحاول في بعض الأغاني التجريب.
فذهب (بدر بن عبد المحسن) إلى كتابة قصيدة التفاصيل اليومية مثل: (في الشارع، عتمة ونور، زحمة، وإشارات المرور، ولكن تلك التجربة وإن كانت محدودة إلا أنها أغرت الجيل الشاب من الملحنين.
فنجد الملحن عزوف يخوض مغامرة موسيقية في تلحين أغنية (أعلق الدنيا)، والتي تغنت بها الفنانة (أصالة)، كما أن عبادي الجوهر كان أول من غامر في تلحين النص الغنائي المشبع بالرموز وذلك في أغنية (على الميهاف).
والتجريب كان حاضرا كذلك في أغنية (أرفض المسافة) لبدر بن عبد المحسن) وعند (طلال مداح) نجد أغنية (الاختيار) وأغنية (ليلكم شمس)، وليت الهوى وانتي كذب)، وفي أغنية (خواف) والتي لحنها محمد شفيق يعيد طرق هذا الجانب ولكن بصياغة شعرية مختلفة (تكذب علي وأكذب عليك).
أما عندما يتحدث (بدر بن عبد المحسن) عن الفراق وعندما يصبح أمره سهلا فهو يستحضر هذه المفردة بهذه الصورة (أسهل من الكذبة على شفة طفل)، أما في صوتك فهو يمنح المفردة حالتها الاعتذارية (عنك الصبر كذبه، وفيك العمر موعود).
وفي أغنية (لا تقول ودعتني) والتي تغنى بها كل من (محمد عبده وعبادي الجوهر) بلحنين مختلفين، فهو يتعاطى مع قلب العاشق بهذا اللوم الشفاف (أو خان بي قلبي الكذاب)، ومع عبد المجيد عبد الله في أغنية (لا تعلمني) كان استحضار مفردة الكذب في شكلها الصريح لا تعـلمني ولا تكـذب عـليّ.
يمضي شعريا في استثمار مفردة ما
و(بدر بن عبد المحسن) قد يمضي شعريا في استثمار مفردة ما، فمثلا مفردة (جيتك) يستحضرها في كل مرة بشكل مختلف، ففي أغنية (جمرة غضى) لمحمد عبده نجد (جيتك من الإعصار، جفني المطر والنار).
وفي أغنية (تخيل) والتي تغنى بها عبد المجيد عبد الله (جيتك من الأرض البعيدة في قلبي شجن، في دمعي قصيدة)، أما في أغنية (صوتك يناديني)، فيقول: (جيتي من النسيان ومن كلّ الزمان اللي مضى، واللّي تغير).
نلاحظ في الحالتين الأولى والثانية أن استحضار(بدر بن عبد المحسن) مفردة (جيتك) كان مقرونا بأشياء محسوسة، (الإعصار) في الأولى وفي الثانية الأرض البعيدة، أما عندما استحضر ذات المفردة على لسان الحبيبة فقد أصبح التعبير أكثر كثافة، لذا نجده يقرنها بشيء لا محسوس هو النسيان (جيتي من النسيان).
وكذلك في أغنية (ما تمنيتك) منح تلك المفردة حالة الشروق (جيتني مثل الشروق، اللي محى عتم الليالي)، وإذا ما انتقلنا إلى مفردة أخرى هى مفردة الطريق نلاحظ أن البدر يوظفها بابتكار في أغنية قصت ضفايرها (أحفظ أنا حجار الطريق، اللي يودي لبيتها).
ولكن في أغنية (صدقيني) التي غناها (عبد الله الرويشد) ينقض الحالة السابقة بحسب متطلب النص فيقول: (كل ما في الدنيا أعرفه إلا بيتـي والطريق)، ومع (طلال مداح) في أغنية (عندك أمل) يمنح الحب هذا التصور الحميمي ويجعل من الطريق دلالة على المسار الذي سيأخذ هذا الحب زمنا طويلا (أنت حبيبي، والهوى صحبة وطريق).
ولكن (بدر بن عبد المحسن) في أغنية (قادر الله)، التي غناها (طلال مداح) نجد مفردة (الطريق) تلعب دورا تصالحيا في الالتقاء، ولا ندري هنا هل مفردة الطريق تأخذ معناها المكاني أم هي تعبير مجازي عن الحلول الوسط التي تجعل الطرفين على حالة من التفهم: (قادر الله يا الغضى نلتقي في وسط الطريق).
وإذا كانت مفردة الطريق في الأغاني السابقة تحضر في حالة تفاؤلية فإنها في أغنية (أبعتذر) تصبح ذات شكل حزين يشير إلى النهايات (أبوعدك، كان الطريق بيبعدك، بامشي الطريق).
وفي النهاية عندما نقول إن (بدر بن عبد المحسن) حالة شعرية متفردة وإن له خياله الشعري الخلاق، فلا نقول هذا من باب المحاباة بل لأن الأمثلة والشواهد كثيرة تعزز هذا الرأي.
فمثلا نجد هناك صورة شعرية متشابهة تطرق لها العديد من الشعراء وهى كتابة الحب أو كتابة اسم الحبيب، فنزار قباني يقول: (أنا أحبك فوق الغيم أكتبها)، وفيروز كانت تغني: (كتبت اسم الحبيب: ع الحور العتيق ــ ع الرمل الطريق).
الخيارات المتعددة والمدهشة
كان لـ (بدر بن عبد المحس) تلك الخيارات المتعددة والمدهشة: (كتبت اسمك على صوتي، كتبته في جدار الوقت، على لون السما الهادي، على الوادي، على موتي وميلادي).
وفي حالة أخرى تكتب الأديبة مي زيادة: (القليل من الحب كثير ولكن القليل في الحب لا يرضيني، الجفاف والقحط واللاشيء خير من النزر اليسير)، لكن (بدر بن عبد المحسن) له قناعته ويخالف مي زيادة التي ترضى بهذا القليل من الحب، فيقول في هذا الشاهد الشعري: (التفت يمي وهو عجل وقال، لذة الحب في الشي القليل).
كتب (بدر بن عبدالمحسن) في أحد الأيام هذا البيت الشعري عن قصيدته التي ولدت وراء باب وجدار (يطرب لها الساري ويسـري بها الطار/ وتزهر بها عقب المحول الشفايف.
لقد تنبأ بثقة الشاعر (بدر بن عبد المحسن) أن شعره سوف يكون ذاكرة المجتمع، حاضرا في تفاصيل الحياة، ففي إحدى مباريات الدوري الإسباني، التي جمعت (أتلتيكو مدريد بريال مدريد)، كان المطر يهطل.
ما مثل صورة شعرية استشهد فيها المعلق (علي الكعبي) بمقطع من إحدى قصائد (بدر بن عبد المحسن): (يا ماطر الليل، لا تاقف بوسط السماء، إما انهمر فرقا وإلا تقطع وصل)، هذا الاستحضار من المعلق المثقف (علي الكعبي) يخبرنا بأن شعر (بدر بن عبد المحسن) قريب من الوجدان وقريب من الذاكرة.
لذلك في مشهد آخر عندما يأتي موسم الأمطار نجد الأغلبية تستحضر هذا البيت (همس النديم اللي يعاتب نديمه، صوت المطر كنه تعاتيب خلان)، بل إن كثيرا من جمله الشعرية صارت من مفردات الحياة: (أبعتذر عن كل شي إلا الهوى، صوتك يناديني، أرفض المسافة، يا جريح البارحة كيف طبت اليوم؟، جمرة غضى أبحترق).
وفي مواقع التواصل الاجتماعي صارت عبارات البدر أيقونات للاقتباس، وهذا يدل على أن شعر (بدر بن عبد المحسن) قد توغل عميقا في ذاكرة الفن والناس والمجتمع، وهذا هو مجد الشاعر.
تكريم الشاعر (بدر بن عبد المحسن)
جدير بالذكر أنه كرم الملك سلمان بن عبد العزيز، الشاعر الأمير (بدر بن عبد المحسن)، بوشاح الملك عبد العزيز، عام 2019 عن إجمالي أعماله التي كان من بينها الكثير من الأعمال الفنية الوطنية التي شارك في كتابتها.
كما كرمته منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو) عام 2019 أيضاَ تزامنا مع اليوم العالمي للشعر، على إسهاماته الشعرية والفنية والثقافية الفريدة التي أنتجها على مدار أربعين سنة.
وكرمته الهيئة العامة للترفيه في السعودية عام 2019 في ليلة كان عنوانها (ليلة الأمير بدر بن عبد المحسن: نصف قرن والبدر مكتمل)، وأعلن رئيس مجلس إدارة الهيئة (تركي آل الشيخ) تسمية المسرح المبني خصيصاً لهذه المناسبة بمسرح الأمير (بدر بن عبد المحسن).
وفي مارس2021 أعلنت هيئة الأدب والنشر والترجمة عزمها على جمع وطباعة الأعمال الكاملة للأمير بدر بن عبد المحسن تنفيذاً لتوجيه وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وذلك تقديرا لإسهاماته في الحراك الإبداعي السعودي خلال خمسة عقود من الزمن.
وفي مارس/ آذار 2023 كرم في ختام مهرجان القرين الثقافي في دولة الكويت في دورته الثامنة والعشرين باختياره شخصية المهرجان.. رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما أمتعنا بكلماته الرائعة التي ستظل راسخة في الوجدان العربي.