بقلم الدكتور: كمال زغلول
لم يكن في اليونان فن تمثيلي، ولكن كان هناك طقس معبدي، عبارة عن تراتيل عن (ديونيسيس)، الذي هو في الأساس (المسرح) الأوزيريسي المصري، وعندما ظهرت الديمقراطية في أثينا، أصبح (ديونيسيس)، معبودها.
وكان الطقس تراتيل يقوم به كاهن مع الجوقة، يقص حياة (ديونيسيس)، ومع ظهور (ثيسبيس) طور في النص الطقسي ، ووضع حوار بسيط داخل النص في جزء من النص.
وعندما أتهم بالتجديف على الآلهة ، قال أننا نلعب لعبة، واستخدم الأقنعة في (المسرح)، وقد اعتبر (ثيسبيس) أول ممثل في التاريخ الفني ، بينما في أثينا لم يطلق لقب ممثل على من يقومون ، بإلقاء الحوار (بل سمي المجاوب).
فهو ليس بممثل أصلا، يعتمد على تمثيل الشخصية بالإيماءة والحركة والإشارة على (المسرح)، فهو لا ينوب عن الشخصية، بل يلقي أشعار أطلق عليها صفة الحوار، لأنها في النهاية شخصيات مؤلفة.
وظهرت بعد ذلك التراجيديا في (المسرح)، في صورة نصوص حوارية بين بشر، وهنا انتقل النص إلي مرحلة الحديث عن فعل أشخاص، وليس آلهة.
وكان عرض هذه التراجيديا ثابت لا تغير، يتكون من أولا: المقدمة (البرولوج)، ثانيا: المشهد الحواري (ويطلق عليه تمثيلي)، ثالثا: المخرج (الأكسودوس)، رابعا: غناء الجوقة.
وينقسم إلي (المدخل، البارودوس)، المنشد (الأستاسيمون)، وهذا يعني أن مؤلفي (المسرح): (سوفوكليس، وأيسخيلوس، ويوربيدس)، كانوا يؤلفون نصوصهم وفق هذا العرض، الذي هو في أساسه طقس.
بمعني أنه لا يوجد تجديد ولا إخراج ، فشكل النص في (المسرح) الأدائي خضع لعرض الطقس فقط، والمجاوب هنا (الذي يطلق عليه خطأ ممثل، ليس مطلوب منه إلا أن يؤدي الحوار مرتدينا قناع، يعبر عن شكل الشخصية (غاضبة، مرحة.. إلخ).
فهذا المجاوب، مهمته فقط إلقاء الشعر التراجيدي في صورة مفخمة (والذي أطلق عليه الحوار) وهي طريقة تستخدم في الطقوس، وإن كانت تراجيديا (المسرح)، تتحدث عن أفعال البشر، ولكنها في أساسها مرتبطة بالدين.
شخصية تيريسياس (الكاهن أو العراف)
فالإلهة تعاقب البشر على أفعالهم، ولذلك يظهر في معظم نصوص (المسرح)، شخصية تيريسياس (الكاهن أو العراف)، فهو الوسيط بين الآلهة والبشر، ولهذا كان للتراجيديا وظيفة وهي التطهير، وهو طقس المراد منه تطهير الإنسان من الذنب.
وعندما نري ما يسمي بـ (المسرح) اليوناني سوف نجد به مذبح، وظيفته تقديم القرابين، وعلى ما يبدوا أن هناك جزء مفقود في التراجيديا، كان يحدث في نهاية العرض، خاص بطقوس التطهير، التي يقوم بها كاهن.
فأديب مثلا ، كان الكاهن يرد عليه عينه بحكم أنه تطهر من الذنب، ونرى أن (ميديا) بعد قتلها أبنائها، وعروسة زوجها (جيسون الجديدة)، تتطهر من الذنب، وترفعها الآلهة، في عربة إلى أعالي، وتعفوا عنها برغم بشاعة ما فعلها، وبهذا تطهرت.
ومن معنى التطهير ننتقل إلي (أرسطو)، الذي يقال عنه أنه وضع القواعد في (المسرح)، والتي سار عليها النقاد، وراحوا يمجدونه، ولكن ما أغفله النقاد خاصة الغرب، هو أن (أرسطو) عندما وضع مؤلفه فن الشعر لم يتحدث عن الفنية الجمالية لفن الشعر.
بل أخضع الشعر لنظرية المحاكاة الطبيعية، وحول النص في (المسرح) إلي مادة طبيعية، كالخشب والمعادن، والشعر ما هو إلا صناعة، وكل صناعة لها مادة، كالخشب للنجارة ، والحديد للحدادة، وكل منتج له صورة (مثل السرير، والسيف، والحربة.. إلخ).
فعنده اللغة مادة، وحدد مادة الشعر بالأوزان، وصورته بالمعنى، وبهذا فإن المؤلف يحاكي الطبيعة، فهو يستخدم مادة الوزن ، كما يستخدم النجار لمادة الخشب، فالشاعر يخرج عمله في صورة تراجيديا، والنجار يخرج عمله في صورة سرير.
وهذه المحاكاة الطبيعية هى أساس فلسفة (أرسطو) عن فن الشعر، الذي حار النقاد في محاولة فهمها، وعندما حول (أرسطو) النص في (المسرح) إلي مادة، وصف صورة النص وهى الحبكة، للتطابق مع نظريته، أخرج التراجيديا من مفهومها الديني إلي فهم صناعي.
ولهذا أسقط المشهد المسرحي التي تؤدي به التراجيديا، وهو في أساسه مرتبط بفكرة التطهير للبشر من إثم الفعل، وقال أن التطهير يحدث من الشفقة والخوف على مصير البطل.
نظرية (أرسطو) في المحاكاة
فهل قرأ ناقد من النقاد نص تراجيدي، وحدث له تطهير؟، الإجابة للنقاد.. ولكن أخطر ما في نظرية (أرسطو) في المحاكاة، هو أنه لا يوجد شخصية تمثيلية في النص التراجيدي، بل يوجد فعل لشخصية.
ويقول ذلك (أن التراجيديا لا تحاكي الأشخاص، ولكنها تحاكي الأفعال)، ومعنى ذلك أن الفعل هو ما يحدد السعادة أو الشقاء في حياة البشر ، وبدون الفعل لا يوجد تراجيديا.
وعن حوار هذه الشخصيات فيخبرنا (أرسطو): (أن فكر الشخصية ويعني به القدرة على قول ما يمكن قوله أو القول المناسب في الظروف المتاحة، وهو يعني الحوار، فهذا الحوار كان الشعراء القدامى يجعلون شخصيتهم تنطق بلغة السياسيين، والمعاصرين جعلوا الشعراء ينطقون بلغة الخطباء.
إذا فهو ليس كلام تمثيلي، بل هو مركب من الخطابة، وإذا مثلت نص تراجيدي لا يمكن تمثيله بالطريقة التي مثل بها المصري القديم، فهو حوار مركب بلغة الخطابة، والمجاوب يقوله في لغة خطابية.
ولن أسهب أكثر من ذلك، بعد تلك الإبانة، ومما سبق نستطيع تكوين صورة عن التراجيديا ، ونقول بأنها طقس في أساسها ، تحول من قصة إله ، إلي قصص بشرية، تهتم هذه القصص بأفعال الإنسان والتطهير منها.
فجمهور (المسرح) يعرف الفعل، وعلى المؤلف الصانع، أن يجد طريقة لتطهير الشخصية من ذنبها ، والجمهور يرفض أو يستحسن، طريقة التطهير الخاصة بالفعل، فهل هي عفو أم عقاب؟
وعلى هذا نجد أن (المسرح) المصري القديم هو مسرح حديث جدا، استخدم فن التمثيل بمهارة فائقة، وننوه بأنه فن منفصل، لذلك تكون مصر أولى الدول التي صنعت المسرحية، ومثلتها في صورة عرض مسرحي، يصور شخصية ممثلة في أحاسيسها ومشاعرها، وبالحركة والإيماءة (في صورة تمثيلية).
وبهذا نجد أن فلسفة (أرسطو)، كانت تريد الخروج إلي المادية التي جلبت وبال على فنية (المسرح)، وهي ليس لها أي علاقة بالمسرح، أو بفن التمثيل، بل هى في أساسها نص طقسي، تحول بعد أرسطو إلي نص حواري يريد أن يبرز وجه نظر ما، أو فلسفة.
ونكتفي بهذا حتى لا نطيل، وننوه أن النقاد قالوا أن (المسرح) المصري طقس، وهو عرض تمثيلي، وقالوا عن الطقس اليوناني مسرح، وهو عرض طقسي، وهذا هراء وتحيز وسرقة لمصر القديمة.
وننوه بأن (المسرح) أساسه فن تمثيلي، وظهر بمصر القديمة، ومن الخطأ أن تعلم فن التمثيل، عن طريق نصوص التراجيديا، أو ما شاببها من (المسرح) الغربي، فالتمثيل علم مختلف تماما، وهذه النصوص ليست نصوص تمثيلية.