بقلم: محمود حسونة
لا يوجد في الحياة سفاح واحد، بل العديد من السفاحين، كما أن بها الكثير من المحسنين والمنصفين والمبدعين والعلماء، تجمع الأرض على سطحها نماذج متناقضة ويستظل بسمائها أناس يسخّرون حياتهم للإفساد والقتل والتنكيل وآخرون مثل (سفاح الجيزة).
إنهم يكرّسون حياتهم للعطاء والبذل والتضحية من أجل إسعاد البشرية، ولكن الدراما يجذبها ما هو طالح أكثر مما يجذبها ما هو صالح اعتقاداً من صناعها بأن الأول فيه من عناصر الجذب والإثارة ما يفوق الثاني.
وهو اعتقاد خاطئ وخصوصاً أن الأعمال التي تناولت سير عظماء في هذه الدنيا حققت من النجاح ما لا يقل عن تلك التي تناولت حياة مجرمين، ورغم ذلك يواصل بعضهم البحث والتنقيب عن نماذج مشوهة لتقديمها درامياً، وكأنهم يصرون على نشر القيم الهدامة واستبعاد البناءة بحثاً عن مجد شخصي ونجاح زائف.
(سفاح الجيزة) الذي تابعنا حلقاته الثمانية خلال الأسابيع الماضية ليس أول عمل يتناول حياة سفاح، فقد سبقه تناول سيرة سفاحتي الاسكندرية (ريا وسكينة) عدة مرات سينمائياً ومسرحياً ودرامياً وبمعالجات ومستويات فنية عالية المستوى حيناً وهابطة أحياناً على مدى قرن مضى.
إقرأ أيضا : على عبد الرحمن يكتب: سفاح الجيزة.. ودراما العنف !
وفيلم (احنا التلامذة) الذي لعب بطولته عمر الشريف وشكري سرحان ويوسف فخر الدين وتحية كاريوكا وأخرجه عاطف سالم مأخوذ عن قصة حقيقية لأربعة من الشباب قتلوا صاحب بار في القاهرة عام 1953 وتمت محاكمتهم عسكرياً وإعدام اثنين منهما.
وفيلم (السفاح) الذي أخرجه سعد هنداوي ولعب بطولته هاني سلامة وخالد الصاوي عن سيرة سفاح قتل أسرة كاملة في المهندسين؛ أما درة الأعمال الفنية المأخوذة عن قصص حقيقية لمجرمين فقد كان فيلم (اللص والكلاب) عن رواية الأديب العالمي نجيب محفوظ وإخراج حسين كمال وبطولة شكري سرحان وشادية وكمال الشناوي عن حياة سفاح الاسكندرية محمود أمين عثمان والتي نشرتها الصحف عام 1960.
(سفاح الجيزة) وسعيد مهران
مثلما تعاطف الناس مع اللص (سعيد مهران) في الفيلم وألقوا بمسؤولية إجرامه على (الكلاب)، تعاطف البعض مع (سفاح الجيزة) في المسلسل الذي لعب بطولته (أحمد فهمي وركين سعد وباسم سمرة وحنان يوسف) وأخرجه هادي الباجوري عن سيناريو وحوار صلاح عز العرب.
والمستوحى من سيرة (سفاح الجيزة) الذي يدعى (قذافي فراج عبد العاطي)، والذي ارتكب كل أشكال الجرائم، نصب وتزوير وخداع وقتل أقرب الناس إليه بدم بارد، وكان يعيش في الجيزة ويتنقل بينها وبين الاسكندرية وانتحل عدة شخصيات، وتم القبض عليه ومحاكمته ليصدر الحكم بإعدامه والذي لم ينفذ حتى الآن.
(سفاح الجيزة) أبرز وحشية السفاح في أساليب قتله لضحاياه سواء بالضرب الوحشي أو بالخنق أو بالسم، ولكنه أصر على أن يصدر للناس ما يخلق بعض التعاطف معه، ومن ذلك تكرار مشهد قتل أمه لأبيه أمام عينيه عدة مرات في كل حلقة.
إقرأ أيضا : بهاء الدين يوسف يكتب: (سفاح الجيزة).. مسلسل مصري بنكهة أمريكية
وكذلك مشهد حبس أمه له في قفص حديدي وعنفها معه، ومقابل ذلك بقيت طوال الأحداث هي الشخصية الوحيدة التي يخشاها ويبرّها ويحاول كسب رضاها ووصل الأمر إلى تعريض حياته للخطر من أجلها في آخر حلقات المسلسل.
لا شك في أن الاجرام في (سفاح الجيزة) وراءه أسباب، وأن البيئة التي يتربى فيها الإنسان هي التي تشكل ملامح شخصيته، وأن من النادر أن ينجب مجرم أو مجرمة ابناً صالحاً.
ولكن إصرار المخرج على عرض مشهد قتل الأم للأب مراراً وتكراراً لا بد أن يخلق تعاطفاً لدى البعض مع السفاح، ناهيك عن إبراز ذكائه قد يدفع بعض الناشئة بالتمثل به، وذلك لا ينفي أن المجرم الذي ينجح في خداع كل من حوله بعض الوقت يتمتع بقدر من الذكاء ولكنه الذكاء الشرير.
كارثة (سفاح الجيزة) في الحوار
نعم كارثة (سفاح الجيزة) في الحوار الذي دار بين الضابط حازم والذي يجسده باسم سمرة والطبيب النفسي الذي استعان به للاستماع إلى اعترافات زينة (ركين سعد) لتحليل شخصية المجرم نفسياً في الحلقة قبل الأخيرة، عندما قال الطبيب للضابط (بيقتل وهو مش عارف انه بيقتل).
ليرد عليه الضابط (يبقى طلع منها) ليستكمل الطبيب (شخص عايش في عالم ثاني.. مغيب.. يتوهم حاجات لا تحدث.. يرى العالم بمخه ويصدق أنها الحقيقة)، حوار يدفع للتعاطف معه، ويوحي بأنه لا يستحق الإعدام.
ولا أعرف إن كان ذلك الحوار مقصوداً لتخفيف حكم الإعدام عليه، أم أنه غير مقصود، والغريب أن يأتي هذا الكلام عن شخص يحرص صناع المسلسل على إبراز ذكائه الفطري وقدرته على التلاعب بكل من حوله وقتل من يشاء منهم وهو لا يهتز له جفن.
إقرأ أيضا : بهاء الدين يوسف يكتب: موعد مع (السفاح) المفضل!
أي مجرم هو مريض نفسي، ومن يقتل زوجته وأقرب أصدقاءه مريض نفسي ومن يتلاعب بزوجته الأخرى وشقيقتها ويخادع أهل منطقته ويوحي لهم بأنه ابن البلد الشهم الملتزم فاعل الخير هو مخادع ينبغي ابراز عاهاته الاجرامية من دون تقديم أي مبررات درامية له.
عندما نشاهد مسلسل (سفاح الجيزة) بكل مفرداته الدرامية المقززة من دموية وأساليب فجة في القتل وتلاعب وهمي بمشاعر المحيطين به، نتذكر فيلم (اللص والكلاب) وما فيه من رقي في المعالجة ومتعة في المشاهدة ومشاعر فياضة، لندرك أن الصناعة تتطور ولكن أساليب المعالجة تتراجع، مما يؤكد أن لكل زمان فنه الذي يشبه أهله ويعكس سلوكياتهم ويتواءم مع مفردات حياتهم.
(سفاح الجيزة) والأكشن والرعب
من حق من يريد من صناع الدراما أن يجنح إلى العنف والأكشن والرعب، ولكن من حق المشاهد أن يعزف عن مشاهدة ما يجرح مشاعره ويؤذي حواسه، ورغم أن مسلسل (سفاح الجيزة) عن قصة حقيقية، إلا أننا عندما نريد أن نحكي حكاية، ينبغي أن نوصل المضمون من غير أن نثير اشمئزاز من يستمع إلينا أو يشاهدنا.
ورغم أن المنصة المنتجة والعارضة تنبه مشاهديها بمنع من لا تتجاوز أعمارهم 18 عاماً من المشاهدة، إلا أن القائمين عليها يدركون أن زمن المنع قد ولى، وأن الأجيال الناشئة تعرف عن الممنوعات في الفن وفي الحياة ما يمكن أن يفوق ما يعرفه أهلهم وذويهم، بما لديهم من معارف تقنية متفوقة.
المؤلف أراد أن يضيف ويحذف من القصة الحقيقية بما يضمن له جذب المشاهدين ولكن يبدو أنه شطح في الحلقتين الأخيرتين اللتين تعرضتا لهجوم من المشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي.
والغريب أنه أوحى للناس بوجود جزء ثان من خلال النهاية التي لم يستوعبها أحد، ولا أدري ما الذي يمكن أن يقدمه جزء ثان عن حكاية سفاح قتل ونصب وزور وتم القبض عليه؟!
(أحمد فهمي) قدم شخصيات (جابر ويوسف ومحيي وحسن) بأداء موحد، معتمداً على إبراز الغموض وبرودة الأعصاب مهما اختلفت المواقف التي يتعرض لها، ولذا جاءت شخصية البطل ممسوخة خالية من التلوين الدرامي.
وتفوقت في الأداء (ركين سعد( لتثبت أنها فنانة موهوبة تجيد التعبير عن مكنون الشخصيات التي تجسدها، أما الكبيرة (حنان يوسف) فقد أثبتت أنها كبيرة الموهبة والقيمة الفنية في تجسيدها لشخصية والدة السفاح، و(باسم سمرة) خرج من عباءته التقليدية ولكن بأداء تقليدي.