منصور الرحباني.. فيلسوف الموت الحزين المطمئن الذي يجمع كل متناقضات الدنيا! (1/2)
كتب: أحمد السماحي
الفنان الصادق دائما هو الذي يتقمص الصفات البارزة لشعبه ويصبح عنوانا لهذا الشعب، من الذي يفوق في أمريكيته مثلا (سبنسر تراسي، أو هنري فوندا، أو هنري ميللر؟!)، ومن الذي يفوق في إيطاليته (البرتومورافيا، أو أنا مانياني؟!)، ومن الذي يفوق في فرنسيته (جان بول سارتر، أو بريجيت بردو، أو ألآن ديلون؟!)، ومن الذي يفوق في مصريته (طه حسين، العقاد، أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ؟!)، ومن يفوق في لبنانيته (الأخوين رحباني، وفيروز؟).
جمال التوثيق
هذا الأسبوع في باب (نجوم لكن أدباء) سنتوقف مع (منصور الرحباني) هذا العملاق الأسطورة الذي يستحي القلم من تعريفه، وهو الذي وهب حياته للفن اللبناني، ويعد واحدا من اثنين شكلوا ظاهرة مدهشة فريدة لم تتكرر حتى الآن في تاريخ الموسيقى العربية عرفت بإسم (الأخوين رحباني).
الجميل في مشوار الأسطورة (منصور الرحباني) أنه وثق هذا المشوار عن طريق القلم، والبرامج، حيث عاش – كما ذكر – مع شقيقه عاصي طفولة بائسة قبل أن يشتهرا في عالم الفن، وقال منصور حول ذلك: (تشردنا في منازل البؤس كثيرا، سكنا بيوتا ليست ببيوت هكذا كانت طفولتنا، بعد وفاة والدي اضطررت باكراً إلى خوض معترك الحياة الصعبة، فعملت في مرحلة من حياتي راعي ماعز، وحامل سلال عنب على ظهري، وخادما في مطعم، وشرطيا).
وعندما بدأ مع شقيقه عاصي طريق الفن وانضمت لهما جارة القمر فيروز، كانت أعمالهم هى اللغة الأكثر تعبيراً عن فرح الناس وعاداتهم وأحزانهم وشجونهم، لذلك تعلقوا بها.
خمس دواوين
الكلام عن مشوار الأخوين رحباني، أو عن واحد من هؤلاء العمالقة الثلاثة (عاصي، فيروز، منصور) يحتاج مجلدات وكتب، لهذا سنتوقف هذا الأسبوع مع إطلاله بسيطة وسريعة عن جانب واحد فقط، أو جزء من هذا الجانب، وهو الأديب والشاعر (منصور الرحباني) الذي أصدر عام 2007 خمس دواوين، هى (بحّار الشتي، والقصور المائية، وأسافر وحدي ملكاً، وأنا الغريب الآخر)، أما الديوان الخامس فهو (قصائد مغنّاة) فمن توقيع الأخوين رحباني.
إجابة السؤال المتكرر
في الديوان الأخير (قصائد مغناة) جاوب (منصور) عن سؤال: لا أعرف أحداً إلا وطرحه وهو مَن منهما الشاعر ومَن الملحن؟.. من يكتب بالفصحى ومن يكتب بالعامية؟، الجواب أن كلاّ منهما يكتب بالفصحى وبالعامية، وكلاً منهما يلحن ويوزع، وليس من عمل وضعاه معاً بالمعنى الكامل، كان أحدهما يكتبه ويقرأه الآخر فيضيف إليه الآخر أو يعدّل فيه أو يبدي رأيه.
سؤال زاهي عن سر الاستعجال
قبل موته بشهور قليلة ظهر منصور الرحباني وهو في عمر 84 عاما مع الإعلامي الكبير (زاهي وهبي) وسأله: شو سر طرح أربع دواوين لك، فضلا عن القصائد المغناة للأخوين رحباني دفعة واحدة ليش الاستعجال؟! فقال منصور: ليس استعجالا، ولكني تأخرت!
* سأله زاهي: حاسس الوقت عم يخلص؟
رد منصور: بتصور عم يخلص، وما بنعرف أنه بيخلص، بنحس حالنا مناح، وبيكون الوقت عم يخلص، وبنكون قربنا على المقلب الثاني!.
ومنصور الرحباني كما يصفه النقاد هو فيلسوف الموت الحزين المطمئن، لهذا تجد الموت حاضرا بقوة في دواوينه وعن سر ذلك قال لزاهي وهبي: لولا الموت لأكل السأم الأرض، الموت يعطي الحياة نكهتها، ولابد أن يصاحب الإنسان موته، لأنه موجود بداخله ولايأتي إليه من الخارج، فالموت بداخلنا طول الوقت، عندما نأكل نغذي موتنا، وهو جاهز لينقض علينا في أي وقت عندما تشعر بإنك خامل لا تعمل ولا تتحرك!.
هذا الأسبوع سنتوقف عند بعض من قصائد تضمنها ديوانه (أنا الغريب الآخر)، والأسبوع القادم نتحدث عن باقي الدواوين.
أنا الغريب الاخر
ديوان (خواطر ومشاعر) كما عودنا (الرحابنة) عن الوطن والمرأة والحب وكل شيء في هذه الحياة، يقع في 165 صفحة ويحمل عناوين داخلية عدة هى: (كتابة اولى، كتابة ثانية، كتابة ثالثة، كتابة أخيرة، صمت الحجر، شمس الينابيع، نهاية، امرأة الليل، أغنية الطفل، مطر الرصاص، قمر البحيرة، يا حبيبي، حائط، هوية انسان معاصر، يمامة، رسالة الى صديقة، العودة من السهر، اعترافات في بار البيكاديللي، حزن، مدن العيون، طريق الكآبة، الوقت الآخر، يحدث في دمشق، قبل، هواجس ليلة الميلاد).
يقول في قصيدة (يحدث في دمشق):
يحدثُ في دمشق
يحدُثُ في دمشقْ
يحدُثُ في مدينةِ الخَفيِّ
في جزيرةِ النَّهارِ في مَساكِنِ الخَريفْ
لا أحَدٌ يعْرِفُ هذا اليَومْ
يحدُثُ أنْ يموتَ إنسانٌ ويبْقى سائراً
على الرَّصيفْ
ياطائرَ النُّعاسِ في دمشقَ
أيْنَ نلْتقي ..
يا حائطَ الرَّاحةِ هلْ مُتَّكأٌ
لِقادِمٍ يأتي بلا رقادْ !!
مِنْ صَوبِ قاسيونَ تأتي العَرباتُ الدَّمْعُ
لا تنْزَلْنَ يا نساءُ واسْهَرْنَ
على السُّطوحْ
فرُبَّما يأتي ..
قالوا لنا: يجيء مَرَّةً
في كُلِّ ألْفِ سنةٍ يجيءُ مَرَّةً
يبحثُ عن أقواله القديْمَه
يبحثُ عن وجوهه
في الماءِ في الأماكِنِ الحميْمَهْ
وامْرَأةٍ كانتْ هنا مُقيمَهْ ..
ويختفي ..
يُقالُ ألْفَ سَنَةٍ جديْدَهْ
ثمَّ يعود في زمانٍ آخرْ
لأجل أن تكتملَ القصيدهْ
………………………
وفي عذوبة يرثي زوجته عبر قصيدة يعلن فيها أن قصائد الحب التي كتبها كتبها لسواها رغم أنها من هيأت له كل شروط الكتابة فيقول:
45 سنة ما كتبتلك شي
45 سنة والقصايد لغيرك
كنتي تسمعيهن وتفرحي
أنت اللي انزويت
حتى أنا انطلقت
أنت اللي قعدت بالعتم
حتى كون أنا بالوهج
أنت اللي كنت تقوليلن: (ما حدا يزعجو، قاعد يكتب)
بس بعمرك ما سألت، شو عم بكتب؟
خليني اعترف بفضلك عا كل شي عملتو
وبالأخص عا قصايد الحب اللي انكتبت لغيرك
………………………
كما يقول في جزء من (هوية إنسان معاصر):
إمرأة لا إسم لها
إمرأة سرقتها..
هربت كالنوم بها
خبأتها في لعب الطفولة
خبأتها في قلبي
خبأت فيها قلبي
يا فرحاً يعصف بي
يا حبي ….
………………………
رغم غنى تلك الدواوين الممتلئة ببوح منصور وبروحه الرومنطيقية وبرؤيته الفلسفية، لكنها لم تحظ بالوهج نفسه الذي حظيت به مسرحياته الخاصة وإرث الأخوين الغنائي، قد يكون لدى الشاعر (هنري زغيب) تفسير لذلك عندما يقول : (إن الأخوين ظلما شعرهما بذاتهما حين ألبساه ألحاناً جميلة أخذت من وهج القصيدة، ثم أتى صوت فيروز التاريخي الخالد ليأخذ من وهج اللحن والشعر ويعلق في الذاكرة الجماعية.
لكن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن (منصور الرحباني) هو (من كبار شعراء لبنان)، حسب توصيف هنري زغيب.