بقلم: محمود حسونة
الفن للفن أم الفن للمجتمع؟.. سؤال قديم متجدد، شغل الفلاسفة والفنانين قديماً، ولا زال مستحوذاً على حيز من التفكير، جدل لن ينتهي، وقد يظل لأجيال وأجيال من دون حسم، ولعل السبب أن لكل منا عقل يفكر به بطريقة قد تكون مختلفة عن المقربين إليه، ولكل منا فكر يعتنقه ورؤى يستخلصها بناءً على العديد من المعطيات، منها البيئة والمعتقد والقيم والموروث ومصادر الثقافة التي نهل منها.
المنظرون للفن من أجل الفن لا ينشدون منه سوى الجمال المجرد، ويؤمنون بضرورة تخليصه من القيم حتى لا يصبح نفعياً، فبالنسبة لهم ليس من الضروري أن يحمل العمل الفني رسالة، ويمنحونه الحق في التجاوز على القيم المجتمعية. أما من يتبنون (الفن للمجتمع) فلا يرون له قيمة بدون رسالة مجتمعية، سواءً تربوية أو ثقافية أو دينية أو سياسية، وبالتالي فإنهم يقيمون أي عمل فني على أساس ما يحمله من رسالة وما يدعو إليه من قيم، ولعلهم الأغلبية، ومعهم الكثير من الحق خصوصاً أننا لا نعيش في زمن الرفاهية الفنية، كما أن الناس ليست مجبرة لأن تقضي وقتاً ترتاد فيه معارض تشكيلية بدون هدف سوى الجمال في التشكيل البصري.
ولو تجاوزنا عن الفن التشكيلي الذي يتيح لكل فرد من عشاقه قراءة اللوحة الفنية بشكل متفرد، وتفسير مضمونها بطريقة تختلف عن من سواه، فإن هذه النظرية لا تصلح للتطبيق على فنون الدراما والسينما والرواية والشعر، ولا أحد مجبر على مشاهدة عمل درامي أو سينمائي يتضمن مشاهد جمالية بلا قيمة فكرية، ولا أحد مضطر أن يقرأ رواية خزعبلية الأفكار والشخصيات، بجانب أن إنسان اليوم في أمس الحاجة لمن يعطيه فكرة أو يبلغه رسالة أو يروض تطرفه أو يهذب أخلاقه أو يقوّم سلوكياته.
مسلسل (النزوة) الذي عرضته منصة (شاهد VIP) مؤخراً، به جمال في الصنعة، مشاهد وكادرات وزوايا تصوير وأداء ممتع، ولكن عندما تبحث عن رسالته، فلا تجد سوى ما يتناقض مع قيم المجتمع، وما يدعو لحرية الشخص المطلقة التي يمكن أن تنعكس إيذاءً للمحيطين به والمقربين إليه، عمل يجمل الخيانة بلا مبرر من خلال شخصية عمر شاهين الأستاذ الجامعي والكاتب نصف الموهوب، والرجل الذي يسعى للتحرر من سطوة عائلة زوجته الثرية على حياته وعلى أسرته، ولا يجد سبيلاً لمقاومة اعوجاج حياته سوى الخيانة وإقامة علاقة محرمة مع (هالة) وهي أيضاً زوجة يحبها زوجها حتى ولو كانت علاقتهما فاترة، وللأسف أنه يخون زوجة تحبه وتقدره وتنحاز إليه ضد أهلها في لحظات اختلاف وجهات النظر بينه وبين والدها ووالدتها.
قد يعتبر البعض أن خيانته لزوجته مبررة بما يطلقون عليه أزمة منتصف العمر أو المراهقة المتأخرة التي تجرف بعض الرجال والنساء إلى علاقات عاطفية وجنسية محرمة، ولكنه التبرير الأعوج الذي لا يزرع سوى الفتنة في الحياة الزوجية ويهدم الأسر ويعصف بمستقبل الأولاد ويتجاوز القيم ويعتدي على التعاليم الدينية.
المسلسل في معظم حلقاته حاول تجميل هذه العلاقة المشوهة، وبررها بمشاهد عابرة عن الخلفية الاجتماعية لكل من عمر وهالة، ولو تم تطبيق ذلك مجتمعيا لأقدم على هذا الفعل معظم الناس، خصوصاً أننا جميعاً لدينا عورات نفسية واجتماعية قد نتخذها وسيلة لإقناع أنفسنا بالجنوح إلى الخيانة، وعدم النظر إلى آثار ذلك على الطرف الآخر ولا على الأولاد، وبدلاً من أن نعالج عُقَدَنا الاجتماعية والنفسية نورثها أضعافاً مضاعفةً لأولادنا وأجيالنا المقبلة.
علاقات مهترئة وقيم تربوية بالية دفعت ابنة البطل (عمر شاهين) ذات السبعة عشرة عاماً لإقامة علاقة مع شاب ضائع يتاجر بالمخدرات، وتحمل منه، بل وتدافع عن خيارها بشكل وقح وفج أمام والديها.
للأسف، من يريدون فرض القيم الغربية علينا أصبحوا يبحثون عن الانتاج الغربي الذي يهدم قيمنا وينقلونه إلينا حرفياً، و(النزوة) واحد من مسلسلات كثيرة يحبذ القائمون على الانتاج الدرامي العربي نقلها إلينا، وكأنهم ينفذون أجندة حتى يحولوننا إلى صورة ممسوخة من الغرب، فالمسلسل منقول عن الأمريكي (ذا أفير)، والذي تم عرضه على خمس مواسم وهو ما يبشر بأجزاء قادمة من هذا العمل الخارج على القيم والخالي من القيمة.
المسلسل أخرجه (أمير رمسيس)، وتم تصويره ما بين الغردقة والجونة، وهو ما أضفى على مشاهده جمالاً مستمداً من جمال البحر والطبيعة في هذه المنطقة، ورغم الجمال فيه إلا أنه وقع في مطب الملل والمط غير المبرر من خلال تقديم الرواية من وجهتي نظر البطلين، في مسلسل كله غير مبرر.
البطولة للفنان الكبير (خالد النبوي) الذي تجاوز مرحلة التقييم في الأداء، وإن كان لم يتجاوز مرحلة التقييم في الاختيار، ولا أدري دوافع فنان مثقف ولديه من الوعي ما يمكنه من استيعاب ما يصلح وما لا يصلح لمجتمعاتنا في هذا الاختيار، والذي جاء بعد عمله العظيم (راجعين يا هوى) والذي حمل الكثير من الرسائل والقيم والرقي في المضمون.
شاركت النبوي في البطولة الفنانة التونسية (عائشة بن أحمد) في دور (هالة) والتي تحولت إلى صورة جميلة في معظم الأعمال التي تشارك فيها، وهنا أيضاً مجرد صورة جميلة، والمذيعة (سالي شاهين) التي حجزت لنفسها مكاناً مهماً على خريطة التمثيل من خلال دور الزوجة المخدوعة.
(النزوة) مسلسل لا يأخذ من رصيد صناعه فقط ولكنه يأخذ من رصيد الدراما العربية في زمن المنصات، وينذر بأن الآتي أسوأ.