رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

تقلا شمعون .. سيدة الأداء اللبناني على مقام الدهشة الآسرة

واحدة من سيدات الأداء في فن التمثيل العربي

بقلم : محمد حبوشة

الممثل هو من يمكنه أن يوصل لك روح الدور ويجعلك تشعر بجودة تعليمات الإخراج، وهو من يجعلك ترى الحوار حقيقيا وتستكشف جودة الكاتب، هو من يجعلك تضع يدك فوق جودة أو إخفاق ملموسين يمكنك ببساطة اكتشافهم حتى إن لم تكن متخصصا في الفن، وتقيم الأمور من منظور عين المشاهد، وهذا ما جعل فن التمثيل وحده هو الفن الذي يكون فيه جسد الممثل هو الأداة، وهو المادة، وهو الموضوع معا، هذه هي أولى خصائص فن التمثيل، كما أن هذا الفن يتميز عن باقي الفنون الأخرى، بأنه فن جماعي مركب، تحيط به وتخدمه فنون أخرى، وهو الفن الوحيد كذلك، الذي يولد ويموت في كل عمل يقوم به، ولأن أداء الممثل يتغير بين مرة وأخرى، كما أن الجمهور يتغير بدوره كل مرة، فإن على الممثل أن يتقن أداء للشخصية على نحو احترافي جذاب.

وضيفتنا في باب (بروفايل) لهذا الأسبوع النجمة اللبنانية (تقلا شمعون) هى واحدة من سيدات الأداء في فن التمثيل العربي الحديث اللاتي يتقن أدوارهن بحرفية عالية للغاية، وفن التمثيل لديها لا يعتمد على الرشاقة والتقنية البدنية فحسب، ولا على الاستعراض، أو التقليد المتقن للأشخاص (علما أنها كلها، تدخل في باب المهارة الفنية)؛ بل تعتمد على الروح والأحاسيس والخيال والعوالم الداخلية للشخصية التي تؤديها، وقد يكون التقمص هو أقرب المفاهيم لمهنة الممثل (الدخول تحت جلد الدور)، أو تحت قميصه.

تتقن أدوارها بحرفية عالية للغاية

لكن تقلا شمعون  تواجه في أدائها العذب  أو تقمصها المدهش أخطر شيء يمكن أن يواجه الممثل، هو تجسيد الحالات المتكررة كثيرا في الحياة وفي الدراما، مثل: الاعتراف بالحب، الخوف، السرقة، التحية، الدهشة… وم ذلك فهى  تحصن نفسها  من الوقوع في (الكليشة) والتقليد، ولديها القدرة دائما على ابتكار تعبيرات جديدة لهذه المشاعر/ الأفعال، ففن التمثيل لديها يدعوها دائما إلى التفكير العميق الخلاق، بعيدا عن كل ما هو سهل ورقيع، واستنباط أو خلق حالات وأفكارا إبداعية جديدة، نابعة من الموقف والظرف المعطى، وطبيعة الشخصيات والأحداث الموجودة في النص؛ ومع ذلك لا تختار المعروف والمستهلك وتقذفه في وجه المشاهد، انطلاقا من إيمان راسخ عندها بأنه يجب على الممثل أن يحرك خياله الإبداعي، وألا يسمح لنفسه بأن (يخر مغشيا عليه) كلما فوجئ بشيء أو صدم به!

يستطيع الممثل الموهوب مثل (تقلا شمعون) بل يتوجب عليه، أن يضيف أفعالا وحالات إنسانية جديدة، يقدمها بشكل أفضل وأصدق وأعمق؛ إذا حاول البحث عنها في الواقع أو في خزان ذاكرته الانفعالية، كي يعيد إنتاجها من جديد.. إن اختيار الشخصية/ النمط، وإعادة تصويرها على الشاشة، هو هدف فن التمثيل، ألا يكمن جوهر هذا الفن والإبداع، في نبش هذه الحالات الإنسانية، وإعادة خلقها فنيا!؟.. هذا ما تؤمن به (شمعون) في كل شخصية تجسدها سواء كانت سهلة أو مركبة، هذه الصعوبة التي تفرضها على نفسها، قسرا أو طواعية، هى، ربما، شكل من أشكال ردات الفعل تجاه الالتباس الذي يفرضه حب الشيء وكراهية تبعاته في الوقت ذاته، في حيرة رددها (فينيكس) قائلا: (لا أعرف لماذا أحب التمثيل كثيرا أو لماذا أحب تجسيد الأدوار، مع أنني لا أحب ما يجلبه التمثيل من شهرة أو امتيازات).


فن التمثيل لديها لا يعتمد على الرشاقة والتقنية البدنية فحسب

ومن خلال ملاحظاتي الدقيقة لأداء (تقلا شمعون) في الفترة الأخيرة خاصة (عروس بيروت، والبريئة) أستطيع القول بأن من أهم مكوناتها كممثلة متميزة في الأداء، هو أنها تستطيع بسهولة شديدة أن تتوزع في أداء شخصياتها بين المرونة الجسدية والصوت المعبر والحركة والتعبير والخيال والاحساس بالصدق في تقديم تلك الشخصية لخلق صورة مؤثرة كي تستطيع التأثير الناجح على المتلقي فعندما يقدم الممثل أداءا مسرحيا متماسكا على طريقتها الخاصة، لابد وأن تكون هناك تجربة مستقاة من دراسة أكاديمية – حصلت على دبلوم دراسات عليا في الإخراج والتمثيل، ودخلت مهنة التمثيل بعدما تخصصت أكاديميا فيها – وربما هذا جعلها تتفهم كل عناصر التمثيل ونظرياته في المسرح لكي يستطيع الممثل أن يقدم دوره بمساعدة المخرج الناجح بعناصر مؤثرة ومثيرة من خلال معرفته لأبعاد الشخصية وتحليلها كالبعد الطبيعي والنفسي والأجتماعي لكي يكون أداءه بمهارة مقنعة للمتلقي.

فبملاحظة أدائها عن قرب أدركت أنها واحدة من أولئك الممثلين الذين يجب أن يعرفوا أين موضع شخصيته بالنسبة للظروف الزمانية والمكانية وظروف الشخصية التي تسبق أحداث الشخصيات الأخرى ومواقفها، ويجب على الممثل من هذا النوع أن يكون قادرا على الإفادة من تجربته الحياتية الماضية في تنشيط الذاكرة الانفعاليه لديه ليستطيع اختيار الموقف والانفعال المناسب لدوره في المسرحية  أو الفيلم أو المسلسل الذي هو عبارة عن حصيله تجاربها الحياتية والارتقاء بها على مستوى جمالي ليؤثر على المتلقي وتساهم في أعطائه قوة دافعة تساهم في إعادة الخلق وتحديد الأهداف الصغيرة والكبيرة في العمل.

تعتمد على الروح والأحاسيس والخيال والعوالم الداخلية للشخصية التي تؤديها

ولذا تراها بارعة في تثبيت الحركات الضرورية، كالدخول والخروج والجلوس التي يعتمدها الفعل في الدراما والتأكيد على الحركة من الشئ وإليه، مثلا من الباب إلى الشباك، من المنضدة والكرسي والحركات الاضطرارية وعلى الممثل وبمساعدة المخرج أن يتم التأكيد على الحركات التفسيرية التي تعطي تفسير ودلالات في العمل الفني الذي تقوم به،  فقد تكون حركات واقعية، أوحركات فنية ترمز لفعل موحي للمتلقي، هى في هذا تهتم بالحركات الفنية والجمالية وهى الحركات التي تهتم بالتكوين والتصوير، وتهدف إلى تقديم رؤية واضحة للمتلقي تساعد الممثل على أن يكون مركز مهم يساهم في أبراز الفعل والحدث في المسرحية أو الفيلم أو المسلسل، إلى جانب القيم الجمالية من خلال المجاميع أوالكتل، أو حركات فنية تعبر عن العلاقات بين الشخصيات وتعمقها وتسهم في ترابط المعنى ابتداءا من الهيكل العام لمقومات العمل وانتهاءا بالإضاءة والأزياء والمكياج والموسيقى والاهتمام بخصوصية العمل الفني الذي له قوانينه للرؤية والسماع والإظهار.

وبما أنها تختزن قدرا هائلا من معرفة وتقانة بدنية وروحية (مشاعر وخبرة وأحاسيس وحضور ورهافة وذاكرة وانتباه…)، لكن لا بأس أن تتوخى الدقة، وتتعرف إلى معنى كلمة دراما وجوهرها، بوصفها ركنا من أركان الإبداع، قبل وصفها أو توصيف الأشياء بها، لتصبح في النهاية عبارة عن إنسان خلاق مبدع من خلال أدواته ولغته الخاصة إذا عرف كيف يستخدمها، لكن علماء النفس يربطون ما بين الممثل وحالته السيكولوجية، ومنهم من جعل من الجنون الرمزي صفة لازمة له، باعتبار أن الفن (هروب من الواقع) وأن الممثل غالبا ما ينسلخ عن شخصيته لكي يندمج في شخصية أخرى، ويسمي البعض ذلك التمثيل بالحالة المرضية الناجمة عن أمراض العصابية التي لا تعرف طريقا لتقلا شمعون.

لديها القدرة دائما على ابتكار تعبيرات جديدة للمشاعر و الأفعال

ولدت الفنانة اللبنانية تقلا شمعون في العاصمة اللبنانية (بيروت)، واسمها الكامل هو (تقلا الخوري بطرس شمعون) وقد ولدت في أسرة مكونة من ثلاث شقيقات بنات فلديها شقيقتان هما (مارغريت، بياريت)، ودرست في الجامعة اللبنانية وتخرجت من قسم التواصل المرئي والمسموع، كما أنها استكملت دراستها فحصلت على دبلوم الدراسات العليا في الإخراج والتمثيل، وبدأت مسيرتها الفنية عندما شاركت مع النجم الراحل نور الشريف في فيلم (ناجي العلي)، والذي تم عرضه في عام 1992، ثم انطلقت بعد ذلك فقدمت العديد من الأعمال الفنية المتنوعة، شاركت في مسلسل (ربيع الحب) وذلك في عام 1995.

ثم توالت أعمالها الفنية فقدمت أدوارا متميز أبرزها مسلسلات: رمح النار عام 1999، طائر المكسور عام 2008، مراهقون، وروبي عام 2012، جذور عام 2013، وجع الصمت عام 2016، فخامة الشك عام 2017، ثورة الفلاحين عام 2018، عروس بيروت عامي 2019 و2020، وفي عام 2021 قدمت رائعتها (البريئة) الذي انتهى قبل أسبوع تقريبا، وقدمت عدة أفلام منها (الجزيرة المحرمة عام 2000 ، جيران عام 2009، بيروت بالليل عام 2011، مورين القديسة المتنكرة عام 2018.

مع عدد من أفراد (أسرة عروس)
مع كارمن بصيبص في (عروس بيروت)
مشهد رومانسي مع رفيق علي أحمد في (عروس بيروت)

بين التمثيل في مجالاته كافة، وبين الإنتاج والتعليم توزع الممثلة تقلا شمعون نشاطها الفني، معتمدة على الدراسة والخبرة والتجربة، ومحاولة التأكيد أن التمثيل لا يعتمد على الجمال وحده على الرغم من أهميته بالنسبة إلى الفنان، شمعون التي تكرس كل وقتها للفن، هل تفعل ذلك شغفا به، أم لزيادة مردودها المادي؟ تقول: (لا شك في أن الفن هو مورد رزقي، ولكن ليس إلى حد التنازل عن شروط معينة رسمتها لنفسي، ولا يمكن أن أقبل بأي عمل يعرض على، تنازلاتي ليست كبيرة ولا تتعارض مع شغفي، ولأن الفن مصدر رزقي، أجد نفسي أحيانا أنني بحاجة إلى العمل، لكني لا يمكن أن أقبل بأي عمل لأني بحاجة إلى المال، وإلى جانب التمثيل، أقوم بالتدريس، وبدورات تدريب خاصة للطلاب، وهى تحظى بالقبول عندهم).

شمعون التي تقول إنها تدرس الفن لكي يعرف الناس أن التمثيل ليس مجرد شكل جميل فحسب، توضح هذه المسألة قائلة: عندما يخضع الطلاب لدورات تدريب تحت إشرافي، فإنهم يتعلمون كيف يركزون على المكان الصحيح، بعيدا عن الاعتماد على الشكل، وهذا لا يعني أن الجمال ليس ضروريا في التمثيل، فعلى حد قولها: في كل دول العالم، يشارك الممثلون في محترفات من أجل تطوير أدواتهم التمثيلية، عندما يصبح هناك وعي لماهية التمثيل، لا يعود الشكل الخارجي يعني شيئا بالنسبة إلى الممثل بل يصبح الداخل هو الأهم، وعن نسبة الاعتماد على الشكل في مهنة التمثيل في لبنان، تقول شمعون: لطالما كان الشكل أساسا، لكنه برز اليوم أكثر، ومعظم المنتجين والمخرجين وليس كلهم، لا يميزون بين الجمال الطبيعي والجمال المصطنع، الذي هو نتيجة عمليات التجميل التي حوّلت الممثلات إلى نسخ متشابهة، لم يعد هناك وعي للجمال الطبيعي الذي خلق الله عليه الإنسان، وأعتقد أن الناس يشتاقون إليه.

تحصن نفسها من الوقوع في (الكليشة) والتقليد

تبرز تقلا شمعون في استثناء من الأجدر أن يكون القاعدة، كواحدة من القليلات الآتيات بخلفية فنية أكاديمية، بين الممثلات اللبنانيات اللواتي يتصدرن مشهد الشاشة الصغيرة، زميلاتها القادمات من بوابات عالم الجمال (من دون تقويم لهذه الظاهرة) على عكس ما هو حاصل في الدراما السورية مثلا، ولهذا تعتبر مفهوم التمثيل يذهب إلى مكان عميق جدا، مؤكدة على أنه لا شك في أن الخلفية الثقافية والعلمية لمهنتنا هى عنصر أساسي لا يفرط فيه، لا يمكن أن نقول إن الموهبة والخبرة تكفيان، مضيفة: (بالنسبة إلى التمثيل علم، هناك ما يحتاج الممثل إلى معرفته لتعمير شخصية، وإلا سيفشل في ذلك).

وردا على ما يروجه البعض حول سبب طغيان العنصر الجمالي في اختيار الممثلة للأدوار الأولى، تقول بأنه (أتى نتيجة الأعمال المدبلجة، أصبح الجميع يبحث عن مقاييس الجمال الموجودة في الممثلات المكسيكيات والأتراك، ما غير النظرة الفنية وخيارات المنتج، الجمال في الدراما يجب أن يشبه الواقع، ليست كل الفتيات باهرات الجمال في الحياة، ولكن الفكر التسويقي أصبح يبحث عن المواصفات التي لا تتوافر في أي بيئة، ما جعل الكثير من الفتيات اللبنانيات يلجأن إلى تقليد هذه النماذج، ومن هنا تطرح تساؤلها الخاص: (لا أعرف إذا كان هذا الأمر سيحصل في الدراما السورية، بعدما أصبحت تتطبع أيضا بالدراما التركية المدبلجة).

فن التمثيل لديها يدعوها دائما إلى التفكير العميق الخلاق

ويبقى القول بأن تقلا شمعون التي تجسد أدوارها بصدق وذكاء وواقعية تؤمن بوطنها وترفع اسمه عاليا بأعمالها و من ثم أصبحت هى بحد ذاتها رقما صعبا في الدراما يصعب تخطيه، ولا تشعر الفنانة الخمسينية بأن مساحات الأدوار تضيق في هذه المرحلة العمرية أو تفرض عليها قالبا نمطيا، تقول: (خياراتي متنوعة دائما وواثقة، ولا أشعر أنه في العمر الذي أنا فيه تضيق خياراتي، لا سيما أن كتابا يهتمون كثيرا بهذه الفئة العمرية حاليا، بأعمال تنظر للمرأة بالعمر المتوسط وتتحدث عن وجعها وألمها وقضاياها وظروفها وما تحلم به وتفاصيل حياتها الجميلة والمأسوية، نرى أن هذه المرأة لا تزال تعيش وتتحرك وموجودة وتنتج .. تحية تقدير واحترام لفنانة أقل ما توصف به أنها سيدة الأداء على مقام الدهشة الآسرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.