

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
لاشك أن مسلسل (سلمى) الذي يعد النسخة العربية من المسلسل التركي (امرأة)، ليس علامة فارقة في سياق الدراما الاجتماعية المشتركة الحديثة فحسب بل (أيقونة جديدة في الدراما العربية)، حيث نجح في تجاوز مجرد كونه (نسخة معربة) ليقدم معالجة عميقة ومؤثرة لقضايا الأمومة والصراع الإنساني، في تماسه مع الواقع المعاش.
ولهذا فإن تقييم مسلسل (سلمى) لا يقتصر على مستوى الاقتباس، بل يتجاوزه إلى مدى نجاحه في استحضار الروح الدرامية الأصيلة، وتفوقه في الأداء والإخراج، مما جعله يحظى بإشادة نقدية وجماهيرية واسعة في موسم الخريف الحالي.
ففي خضم موجة الأعمال المعربة، يبرز مسلسل (سلمى) كنموذج مختلف استثنائي في معالجته الدرامية بحيث يكسر قاعدة المقارنة المرتبطة بالنسخة الأصلية، ومن هنا فإن المسلسل، المقتبس عن الدراما التركية الشهيرة (امرأة) لم يكتف بنقل الأحداث، بل أعاد صياغة الروح الدرامية لتناسب السياق الاجتماعي والثقافي العربي.
قصة مسلسل (سلمى) قدمت لنا صراع امرأة مع الفقد والمرض والفقر، ولهذا تكمن قوة (سلمى) في قدرته على تحويل حكاية فردية إلى مرآة تعكس معاناة ملايين الأمهات، في رحلة درامية متماسكة ومؤثرة تمتد على مدار 90 حلقة.
تدور الحبكة الرئيسية حول شخصية (سلمى) التي جسدتها ببراعة (مرام علي)، الأم الشابة التي تُواجه فجأة اختفاء زوجها (جلال/ نيقولا معوض) في ظروف غامضة، لتجد نفسها وحيدة في مواجهة الفقر ورعاية طفليها، سرعان ما تتشابك خيوط الحكاية مع صراعها الشخصي ضد المرض العضال، وكشف الأسرار العائلية الدفينة المتعلقة بوالدتها (هويدا/ تقلا شمعون)، وشقيقتها (ميرنا/ ستيفاني عطالله).
العمود الفقري للمسلسل هو تضحية (سلمى) اللامحدودة، وهو مانجح فيه النص على مستوى تصوير حالة الفقر المدقع دون مبالغة مبتذلة، حيث نرى (سلمى) تبذل جهدا مضاعفاً في وظائف متعددة لتوفير متطلبات طفليها.


أهم محركات التشويق
هذا الجزء من القصة يلامس الوتر الحساس لدى المشاهدين، ويحول (سلمى) إلى رمز للصمود والتحدي، ولعل مشاهد الإجهاد والإغماء المتكررة، التي نقلت إلى الشاشة بصدق، لم تكن مجرد حشو درامي، بل جزء لا يتجزأ من تكلفة البقاء.
ويبدو ملحوظا أن لعبة الاختفاء والعودة في شخصية (جلال) كانت من أهم محركات التشويق.. إن الإبقاء على مصيره مجهولاً لفترة طويلة، ثم الكشف عن تورطه في علاقات قديمة معقدة، خلق حالة من الترقب المستمر.
النقطة الأكثر ثراء في (سلمى) هى العلاقة بين (سلمى) وأسرتها، وبالأخص الأم (هويدا) والأخت (ميرنا) العلاقة المعقدة بين الأختين، كما تعكسها الأحداث المتقنة مبنية على الغيرة العميقة والمشاعر المكبوتة، ولذا مثلت خطا نفسيا دراميا قويا.. مرض ميرنا النفسي وغيرة (الأنا) عندها من (سلمى) المريضة جسد صراعا حقيقيا بعيدا عن الثنائية التقليدية للخير والشر المعهودة في الدراما العربية.
يرى البعض أنه يحسب للعمل قدرته على الحفاظ على إيقاع مشدود رغم امتداد حلقاته الطويلة، بحيث يتطلب هذا النوع من الدراما قدرة فائقة على توليد الأزمات الثانوية والفرعية دون تشتيت الانتباه عن القضايا المركزية، لكني أن المط والتطويل شاب العمل بعد الحلقة الـ 15، فدارت الأحداث في حلقة مفرغة.
ربما حاول مسلسل (سلمى) في الحد من الرتابة والملل عبر إدخال شخصيات جديدة مثل (عادل/ طوني عيسى) الذي يمثل السند العاطفي، و(العم نديم/ نقولا دانيال) الذي يمثل الضمير والطيبة، مما أضاف طبقات إنسانية غنية للحكاية، لكن الملل طال الأحداث بشكل ينال من قوة الحبكة الدرامية.
ومع ذلك لولا الأداء الاستثنائي، لتحول (سلمى) إلى مجرد حكاية مأساوية عادية متكررة في الدراما العربية الحديثة، لكن كان الأبطال في أدائهم على قدر كبير من التحدي، حيث قدموا شخصيات مركبة تستحق الدراسة التأمل طويلا من فرط البراعة والاجتهاد في التجسيد الدرامي العذب.
على مستوى الأداء، أولا: يمكن وصف أداء (مرام علي) بأنه (حالة) تتجاوز مجرد التمثيل، لقد جسدت سلمى بنجاح مبهر كمرأة ممزقة بين ضعفها الجسدي (المرض) وقوتها الروحية (الأمومة)، فضلا عن قدرتها على التعبير عن الخذلان، الفقر، المرض، والأمل، عبر نظرة أو دمعة صامتة، كانت مذهلة.
لم تبالغ (مرام) في مشاهد الانهيار، بل قدمت المعاناة بطبقات هادئة تنفجر فجأة، ما جعل المشاهد يتعاطف معها بعمق، ومن خنا فإن هذا الدور يعد محطة مفصلية في مسيرتها وتستحق عنها الإشادة.



أداء (مرام علي) بارعا
ويمكن اعتبار أداء (مرام علي) في دور (سلمى) بارعا إلى حد التفوق على نفسها، حيث كابرت كثيرا، أخفت مرضها حتى عن المقربين منها، ثم هزمها المرض فباتت أسيرة الصّراع بين ضعفها كامرأة مجرّدة من كل مقومات الصمود، وبين قوّتها كأم لطفلين يتيمين لا تملك ترف إلا أن تكون قويّة.فقد بدت (مرام) لا تتخيّل حتى فكرة أنّ ثمة ممثلة قد تؤدي دور (سلمى) ببراعة، لهذا تستحق عن هذا الدور كل الجوائز.
ثانيا: أبدعت القديرة (تقلا شمعون) في تقديم شخصية الأم (هويدا)، التي ليست شريرة بالكامل ولا طيبة بالمطلق.. هى أم ممزقة بين ابنتين، تقتّر في عاطفتها على (سلمى)، خوفاً من جرح (ميرنا الغيورة)، لكنها في لحظات الضعف تنفجر بمشاعر جياشة تؤكد حرفيتها في الأداء.
وخير دليل على ذلك مشاهد العناق بينها وبين (سلمى) في المستشفى، حيث تتفجر مشاعر الأمومة المكبوتة، تعد من (أعظم اللحظات التلفزيونية) التي تلامس الوجدان في ثنايا أحداث المسلسل، فزادت من براعة أدائها.
ثالثا: رأي الشخصي أن أداء (ستيفاني عطا الله) كان بالغ التعقيد، حيث جسدت شخصية الأخت الغيورة المريضة نفسياً ببراعة.. كان التحدي هو ما جعل المشاهد يكره تصرفاتها، ولكنه يتعاطف مع مرضها في الوقت ذاته.. (ميرنا) لم تكن مجرد شريرة تقليدية، بل ضحية لتدليل الأم وخلفية نفسية معقدة.. وبالإجمال نجحت (ستيفاني) في إظهار هذا التذبذب بين الخبث الظاهر والضعف الداخلي.
رابعا: على غير عادته من بلادة الإحساس في عالبية أعماله السابقة، قدم (نيقولا معوض) دور (جلال)، الرجل الغامض الذي عاد ليقلب الموازين، بحرفية هذه المرة في (سلمى)، فيما كان أداء الممثل الكبير (نقولا دانيال) في دور (العم نديم) بمثابة واحة من الطيبة والسكينة، حضوره المريح كان ضرورياً لتخفيف وطأة البؤس الدرامي المحيط بسلمى.
خماسا: لابد من الإشادة بأداء كل من: (طوني عيسى) الذي جاء رومانسيا ناعما بمشاعر متدفقة في شخصية (عادل)، ومجدي مشموشي الذي برع في تجسيد دور (هلال) على نحو احترافي يؤكد موهبته في أداء الصعب بأسلوب السهل الممتنع، وأنوه إلى جودة أداء الطفلة (روسيل الإبراهيم)، وشقيقها (أحمد شاويش).
وفوق كل ذلك يحسب للمخرج (إندر إيمير) نجاحه في الحفاظ على جمالية بصرية تتناسب مع الطابع الاجتماعي والدرامي للعمل.. لقطات الكاميرا كانت قريبة ومؤثرة في تصوير تفاصيل الوجوه وحالات الانهيار، خاصة في مشاهد (سلمى) والأطفال.



الإخراج عكس قسوة الحياة
كما تميز الإخراج في إدارة مشاهد الأزمة والمواجهات العائلية، حيث كان الحوار مشدودا ومؤثرا.. ومن ثم يحسب للعمل خلق أجواء بصرية متماسكة، بعيداً عن الاستعراض المبالغ فيه، والتركيز على الجو العام الذي يعكس قسوة الحياة والبساطة، أما على مستوى الكتابة (لبنى مشلح ومي حايك).
تميز المسلسل في تعريب ناجح.. لم يفقد النص روحه الأصلية، ولكنه أصبح أكثر قرباً من المشاهد العربي عبر تفاصيل الحياة اليومية والحوارات المألوفة، واستطاع السيناريو أن يدير عدة خطوط قصصية متوازية (اختفاء جلال، مرض سلمى، صراع الأخوات، قصة عادل وحليم) دون أن يطغى خط على آخر.
كما برع السيناريو في تفكيك شخصية ميرنا، وإظهار الجانب المظلم في هويدا، وتجسيد الندم في جلال، جعل الشخصيات أكثر إنسانية وبعيدة عن السطحية.
ومن أجل كل مامضى يمكنني القول أن مسلسل (سلمى) ليس مجرد مسلسل ترفيهي، بل هو طرح لقضايا اجتماعية حارقة.. فقد كانت الرسالة الأبرز هى تسليط الضوء على معاناة الأمهات في الشرق الأوسط، اللاتي يواجهن الفقر والمرض والغياب، وكيف تتحول الأمومة إلى قوة خارقة تتجاوز ضعف الجسد.
تناول مسلسل (سلمى) بجرأة مرض (ميرنا) النفسي (الغَيرة المرضية واضطرابات الشخصية)، وتأثير ذلك على علاقاتها الأسرية.. هذه المعالجة تساهم في فتح نقاش حول أهمية الصحة النفسية داخل الأسرة، ومن هنا فقد عرض المسلسل ببراعة الديناميكيات المختلة للأسرة، حيث نرى الأمومة القاسية، والأبوة الغائبة، وعواقب تفضيل أحد الأبناء على الآخر، مما يترك ندوباً عميقة لا تُشفى.
خلاصة القول: إن مسلسل (سلمى) يمثل خطوة متقدمة في مسار الدراما العربية المشتركة.. فقد تجاوز توقعات الجمهور والنقاد بأن يكون مجرد إعادة إنتاج باهتة، ليقدم عملا فنيا متكاملا.. إن التفوق في الأداء، خاصة من (مرام علي وتقلا شمعون)، وتماسك الحبكة رغم طولها، وصدق المعالجة الإنسانية.
كل ذلك جعل مسلسل (سلمى) بمثابة (رحلة درامية تأسر القلوب)، ليثبت العمل أن سر نجاح الاقتباس يكمن في إضفاء الروح المحلية والعمق الإنساني، وليس في مجرد التقليد، ومن هنا (سلمى) هو نصر للدراما التي تتخذ من الصمود الإنساني في وجه أقسى الظروف موضوعا لها.. فتحية تقدير واحترام لصناعه.