رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا

رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا

رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا
أنا لم أُخلق لأكون محاميًا.. أنا مشخصاتي، وفخور بذلك

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في قلب القاهرة، حيث تتعانق رائحة الورق مع عبق الحبر، وحيث تنبض الأزقة بالحكايات التي لا تموت، وُلد طفل صغير في بيت متواضع بحي الفجالة، اسمه (بشارة)، ولقبه العائلي (يواقيم)، وعرف بعد ذلك (بشارة واكيم).

لم يكن أحد يدرك يومها أن هذا الطفل سيكبر ليصبح صانعًا للضحكة، وشيخًا للكوميديا المصرية، في زمن كانت فيه الضحكة سلعة نادرة، ورفاهية لا يقدر عليها الجميع.

في طفولته، كان يسير بين دفاتر الدراسة وأجراس كنيسة الفجالة، يلتقط تفاصيل الحياة من أصوات الباعة، وضحكات الجيران، ولهجاتهم المختلفة.

التحق بمدرسة (الفرير بالخرنفش)، وهناك تفتحت أمامه أبواب عوالم جديدة، وتعلم الفرنسية كما لو كانت جزءًا من تكوينه الطبيعي، بلغة سلسة، وبروح طفل يكتشف العالم.

مرت السنوات كلمح البصر، فإذا به يقف شابًا على أبواب كلية الحقوق، ينهل من علومها، ويستعد لحياة رسمها له أهله: حياة محامٍ محترم، يقف بين قاعات المحاكم، يترافع، ويكتب دفوعًا، ويعيش كما عاش آباؤه.

وكان الحلم أن يسافر إلى فرنسا ليكمل دراسته، لكن الحرب العالمية الأولى أغلقت الأبواب، وغيّرت المسارات.

لكن (بشارة واكيم) رغم كل ذلك، كان يشعر أن شيئًا ما ينقصه… شيئًا أكبر من القوانين والدفوع.

كان يرى في قاعة المحكمة مشهدًا ناقصًا، مسرحًا بلا جمهور، وحوارًا بلا موسيقى. كان يريد حياة تُروى، لا تُحاكم.

وذات صباح، وهو واقف أمام مرآته، خلع روب المحاماة، ونظر إلى وجهه جيدًا، وقال:

(أنا لم أُخلق لأكون محاميًا.. أنا مشخصاتي، وفخور بذلك).

رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا
انطلق إلى المسرح كما يركض العاشق إلى معشوقته

رحلة الهروب إلى المسرح

لم يكن قراره نابعًا من نزوة، بل كان صدى لشغف ظل يطارده منذ أيام الطفولة.

انطلق إلى المسرح كما يركض العاشق إلى معشوقته.

البداية كانت مع فرقة (عبد الرحمن رشدي)، ثم مع العملاق جورج أبيض، وهناك تعلّم أبجديات المسرح الكلاسيكي، وقف يؤدي أدوارًا بالفرنسية والعربية، يمدّ الكلمات بالحياة، ويدفع الصوت إلى أن يصبح جسدًا يتحرك على خشبة الأوبرا الملكية.

لكن طريق الفن لم يكن مفروشًا بالورود.

ذات يوم، اضطر (بشارة واكيم) إلى حلق شاربه لأداء أحد الأدوار، فاعتبرها شقيقه الأكبر فضيحة كبرى، وصرخ في وجهه قائلًا:

(ضيّعت رجولتك يا بشارة! كيف تخلع شاربك؟ وكيف ترضى أن تصبح مشخصاتي؟).. لم يجد مأوى إلا المسرح.

نام ليلته الأولى بين المقاعد الخشبية، واتخذ من الستائر الحمراء غطاءً، ومن أضواء المسرح الخافتة وسادة.

حينها أدرك (بشارة واكيم)أن المسرح لم يعد مجرد مهنة، بل صار بيته.. بيته الأبدي.

من فرقة جورج أبيض إلى صديق الروح يوسف وهبي، حيث وجد (بشارة واكيم) في وهبي معلمًا وصديقًا وشريكًا في تقديم مسرحيات ناجحة أسست له مكانة محترمة.

ثم انتقل إلى فرقة سلطانة الطرب (منيرة المهدية)، حيث تعلم كيف تمتزج الموسيقى بالدراما، وكيف يصير الغناء امتدادًا للمشهد.

ثم جاءت اللحظة الأهم في حياته.. حين التحق بفرقة نجيب الريحاني، فوجد هناك نصفه الفني الآخر.

مع الريحاني، تشكّلت ملامح (بشارة واكيم) الكوميدي، الفنان الذي يستطيع أن ينتزع الضحكة من قلب الحزن.

وقف أمام الجمهور في مسرحيات أصبحت جزءًا من ذاكرة مصر، مثل (قسمتي)، و(الدنيا على كف عفريت)، و(حسن ومرقص وكوهين)، حيث أدى دور المصري القبطي بجوار الريحاني الذي كان مسيحيًا مثله، ومع ذلك كان يقدم دومًا شخصية المسلم المصري البسيط، في رسالة مبكرة عن وحدة المصريين فوق اختلاف أديانهم، وعن ذلك النسيج الاجتماعي الذي لم يعرف يومًا معنى للفوارق الطائفية.

هل كان شاميًا؟… أم ابن الفجالة الذي تقمّص كل اللهجات؟

رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا
مع تحية كاريوكا
رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا
مع ميمي شكيب

ابن لكل الحواري

كثيرون كانوا يظنون أن (بشارة واكيم) شامي الأصل، بسبب إتقانه البارع للهجة الشامية لكنه كان يضحك كلما سمع ذلك، ويقول بفخر:

في الفجالة، كان الجيران من كل مكان: من الشام، من لبنان، من فلسطين… تعلّم منهم اللهجة كما يتعلم الطفل لغته الأم، وساعده سفره الدائم إلى بيروت ودمشق في أن تصبح نبرته الشامية جزءًا من أدواته الفنية.

في عام 1923، دقت السينما على بابه، فوقف (بشارة واكيم) أمام كاميرا محمد بيومي ليقدم فيلم (برسوم يبحث عن وظيفة)، أول فيلم مصري صامت.

لم يكن هناك صوت، لكن وجه (بشارة واكيم) كان يتحدث.. حاجباه وحدهما كانا عرضًا مسرحيًا، وعينيه تسردان قصة كاملة دون كلمة.

ومع دخول الصوت إلى السينما، صار (بشارة واكيم) نجمًا دائم الحضور.. شارك في أفلام أصبحت علامات فارقة في تاريخ السينما:

(لعبة الست) مع نجيب الريحاني، (قلبي دليلي) مع ليلى مراد، (غرام وانتقام) مع أسمهان، (انتصار الشباب) مع فريد وأسمهان، (لو كنت غني، وليلى بنت الفقراء) وغيرها عشرات الأفلام.

لم يكن الدور عنده يقاس بحجمه، بل بعمقه.

كان يعرف كيف يحوّل المشهد القصير إلى لحظة لا تُنسى.

يلعب شخصية الباشا الظريف، أو التاجر الشامي، أو الخال الطيب، أو الأب العصبي، بنفس البراعة والصدق.

صحيح أن البعض خلط بينه وبين علي الكسّار مسرحيًا، لكن الحقيقة أن لقاءهما لم يحدث فوق خشبة المسرح أبدًا، بل اجتمعا على الشاشة فقط، في فيلم (بواب العمارة) (1935)، حيث قدّم (بشارة واكيم) دور الخواجة (مستر جيمس) في إطار كوميدي مرح جمع بين عمالقة الكوميديا في ذلك الزمن.

ورغم أن الناس عرفوه كممثل يوزّع الضحكة، إلا أن بداخله كان شاعرًا رقيقًا.

كتب القصيدة الموزونة، كما يكتب الممثل نصه المسرحي.

نصحه صديقه (أنور وجدي) أن يجمع قصائده في ديوان، لكنه رد ببساطة:

(الشعر يا أنور.. للروح.. مش للبيع)

قلب أحب ثم اختار العزلة

رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا
مع يوسف وهبي
رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا
أحب فتاة من الجيران، لكنها رفضته لأن عائلتها لم تقبل أن يكون الزوج مشخصاتي

المسرح دواؤه.. والضوء حياته

أحب فتاة من الجيران، لكنها رفضته لأن عائلتها لم تقبل أن يكون الزوج مشخصاتي، أحب أيضًا زميلته (ماري منيب)، لكنه كان حبًا من طرف واحد.. ومع مرور السنوات، اكتفى بحب الجمهور، وأغلق قلبه على نفسه، وراح يكتب الشعر للظل.. ويمثل للنور.

في سنواته الأخيرة، أصيب (بشارة واكيم) بشلل نصفي أثناء تقديم مسرحية (الدنيا لما تضحك)، قال للطبيب:

(لو جلست في البيت، أموت.. دعني أذهب كل يوم إلى المسرح، ولو لمجرد الجلوس والمشاهدة).

وكان له ما أراد.. ظل يأتي إلى المسرح، يصفّق، يضحك، ينصح، يعيش.. حتى أسدل الستار الأخير.

بين الخشبة والمرض

في أيامه الأخيرة، كان المرض قد بدأ ينهش جسده.. الشلل يتمدد، والحركة باتت معجزة.

نجيب الريحاني، صديقه، قال له يومًا:

(يا بشارة كفاية تعب… ريّح في بيتك، أو على الأقل سيب المسرح).

لكنه رد، بابتسامة عنيدة:

(همثل يعني همثل)!

الريحاني، اللي كان هو الآخر بيخد حقن في الاستراحة علشان يكمل العرض، قاله:

(خلاص، اقعد في البيت ومرتبك ماشي).

لكن لما شعر  إنه جرحه، رجع قاله:

(كمّل يا سيدي، واعتبر إني ماقلتش حاجة).

ومن يومها، صار يعطيه أدوارًا صغيرة، لا ترهقه، لكنها تبقيه في قلب الخشبة.

وقال الريحاني:

(أنا أبقى مجرم لو ماعملتش كده)!

ثم جاءت الضربة القاصمة.. حين رحل (نجيب الريحاني) في يونيو 1949.

انكسر قلب بشارة، كأنما فقد نصف عمره.

 المرض زاد، والحزن أصبح سمًا بطيئًا يسري في العروق.

حاول الأطباء إبعاده عن التعب والزعل.

لكنه، كالعادة، تجاهلهم، وعاد إلى المسرح.

لكن الجمهور هذه المرة لم يستقبله بالضحكات التي اعتادها.

رسمي فتح الله يكتب: (بشارة واكيم).. فنان الفجالة وشيخ الكوميديا
خلاص؟ بقيت زي خيل الحكومة

بقيت زي خيل الحكومة

قال في نفسه:

(معقولة؟ كل ده علشان شكلي اتغيّر شوية؟)

خرج من المسرح منكسرًا:

(خلاص؟ بقيت زي خيل الحكومة؟).

ثم جاءه الفنان (نعيم مصطفى)، واقترح عليه الانضمام إلى فرقته في مسرحية (خطف مراتي).

طار من الفرحة.. يوم الافتتاح كان اسمه يتلألأ على واجهة المسرح.

دخل المسرح متحمسًا، لكن لم يسمع لا ضحكة ولا تصفيق.

وفجأة، ناداه الجمهور:

(الصوت يا أستاذ! الصوت!).

حاول أن يرفع صوته.. فلم يجد صوتًا.

دمعت عيناه، وانسحب.

عاد إلى بيته محطمًا.. قرر الأطباء نقله إلى السويس ليتعافى بعيدًا عن صخب القاهرة. تحسنت صحته قليلًا، وعاد إلى القاهرة.

وفي أحد الأيام، قال لابن أخته:

(نفسي أتمشى في عماد الدين.. وأشوف مسرح الريحاني).

ذهبوا إلى هناك.. وقف أمام المسرح طويلًا، ثم دخل.

وحين وقعت عيناه على الخشبة، ركض إليها كطفل، وارتمى فوقها قائلًا:

(جايلك يا حبيبتي!).

لم يحتمل قلبه.. تشنج.

نُقل إلى المستشفى، وهناك أسدل الستار نهائيًا في 30 نوفمبر 1949… بعد خمسة أشهر فقط من رحيل صديق العمر (نجيب الريحاني).

ما الذي يبقى من بشارة؟

يبقى صوته، وتبقى ضحكته، وتبقى صورته محفورة في كل مشهد، في ذاكرة السينما، في ذاكرة المسرح، وفي قلب كل من عرف أن الفن يمكن أن يكون بيتًا.. ووطنًا.. وعمرًا كاملاً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.