رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

د. ثروت الخرباوي يكتب: وطن ينتظر الجزء الثاني من حكاية (الفن) !

د. ثروت الخرباوي يكتب: وطن ينتظر الجزء الثاني من حكاية (الفن) !
فرقة رضا
د. ثروت الخرباوي يكتب: وطن ينتظر الجزء الثاني من حكاية (الفن) !
الأرض
د. ثروت الخرباوي يكتب: وطن ينتظر الجزء الثاني من حكاية (الفن) !
شيئ من الخوف

بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي

كان المشهد واضحًا كأفيش سينما من خمسينيات القرن الماضي: المعركة واضحة، والعدو معروف، والحلم مكتوب على جدران القلوب: (نحن نبني وطنًا لا يُهزم) لكن… كيف تصنع وطنًا قويًا؟ لا بالحديد وحده، ولا بالإسمنت، بل بفنّ يقنع العقل، ويحرّك الوجدان، ويقود الروح.. إذن دعنا نحكي لكم عن (الفن) في زمن عبد الناصر، لم يكن (الفن) حينها يلهث خلف الحدث، بل كان يصنعه،

وكان المخرج والفنان والمؤلف يعرف تمامًا أنه يقف في صفوف المعركة، لا في صفوف الانتظار.

خذ مثلًا فرقة رضا..

مجرد فرقة استعراضية؟ لا يا صديقي، كانت أقدامها ترقص على لحن الوطن، ورايات السد العالي ترفرف خلفها، قدّمت عروضًا عن الفلاح، عن الإصلاح الزراعي، عن التعاونية، عن الريف وهو يتحوّل من أرض للعبودية إلى أرض للكرامة، وكان الريتم، والإيقاع، والابتسامة، جزءًا من لغة الدولة في نفاد المشروع القومي إلى قلب وعقل المواطن العربي كله.

واذهب معي إلى المسرح القومي، أو قل إلى (المسرح كمنصة للوعي)، هناك وقفت أسماء مثل (جلال الشرقاوي، سعد الدين وهبه، كرم مطاوع، وسهير المرشدي)، وهناك كتب الشعراء مسرحيات عن الحرية، عن الإنسان، عن فلسطين، عن العدالة.

ولم يكن الجمهور يبحث عن الضحك الرخيص، بل كان يقف في الطوابير ليشاهد نصًا عن المماليك أو السلطان الحائر، وعن الوطن وعن الفداء.

ثم ظهر مسرح التلفزيون، وكانت الخشبة تأتيك إلى بيتك عبر الشاشة الصغيرة، ومن خلاله شاهد الناس (الفانوس السحري، والقاهرة في ألف عام، وسليمان الحلبي) وكان كل بيت يتناول المسرحية كما يتناول العشاء: بهدوءٍ واهتمام.

أما السينما..فقد كانت ناطقة بالحلم.

من (صلاح الدين الأيوبي) الذي قدّمه يوسف شاهين، إلى (وا إسلاماه)، إلى (رد قلبي)، إلى (شيء من الخوف)، إلى (الأرض)، إلى (الزوجة الثانية)، كل فيلم كان يطرح سؤالًا: من نحن؟ وماذا نريد؟.

حتى أفلام إسماعيل ياسين الكوميدية لم تكن هروبًا من الواقع، بل تحية تقدير للجيش، للبحرية، للطيران، وكان الضحك فيها يحمل رسالة:

(نحن أقويا.. ونضحك لأننا لا نخاف).

د. ثروت الخرباوي يكتب: وطن ينتظر الجزء الثاني من حكاية (الفن) !
ألف ليلة وليلة
د. ثروت الخرباوي يكتب: وطن ينتظر الجزء الثاني من حكاية (الفن) !
رابعة العدوية

حتى (ألف ليلة وليلة)

وفي السينما شاهدنا (أدهم الشرقاوي) لا كقاطع طريق بل كرمز للتمرد على الظلم.

وإياك أن تنسى الإذاعة، صاحبة التأثير الأكبر في الوجدان، كانت نشرة الأخبار تُذاع، ويعقبها برنامج ثقافي، ثم مسلسل إذاعي عن (رابعة العدوية) أو (هارون الرشيد)، أو (قاهر التتار)، حتى (ألف ليلة وليلة) لم تكن مجرد تسلية، بل أسطورة تُربّي الخيال وتحفظ اللغة، ولم تكن المسلسلات التلفزيونية يومها كثيرة.

لكن كل واحدة منها كانت كفيلة بتربية أجيال:

(الضحية، الرحيل، هارب من الأيام، القاهرة والناس)، وغيرها من الأعمال التي كانت ترتّب الوعي دون أن تفرضه.

أما الأغنية فلم تكن الأغنية مجرد صوت في خلفية المشهد، بل كانت هى المشهد أحيانًا، كانت الأغنية تصدر قبل الطلقات، وتُمهّد للمعركة، وتربّي الروح، وتربت على كتف الوطن.

تعال نسمع.. عبد الوهاب – بأناقته وموسيقاه الرفيعة – لم يتردد أن يغني: دقت ساعة العمل، ثم يقود أغنية (الوطن الأكبر) تلك الأغنية الخالدة التي جمعت أصواتًا شتى لتقول إن الوطن لا يُغنّى بصوتٍ واحد، بل بجوقة كاملة، وياسلام على عبد الحليم حافظ..

 كان صوته جزءًا من نشرات الأخبار، غنّى: (قلنا هانبني وادي احنا بنينا السد العالي، البندقية اتكلمت، خلّي السلاح صاحي، وصورة).

وفي زمنٍ آخر.. حين سقط القمرُ من السماء، وارتجّت الأرض تحت أقدام المصريين في يونيو 1967، لم يختبئ (الفن)، ولم يلُذ بالصمت، ظهر عبد الحليم حافظ لا كمطرب، بل كصوت وطن مكسور. غنّى: (عدى النهار.. والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر وعشان نتوه في السكة.. شالت من ليالينا القمر).

كانت الأغنية مرثية وطنية خافتة وصادقة، لم تحاول تجميل الهزيمة، ولم تختبئ خلف الشعارات، بل قدّمت صورة مصر المجروحة – الأم التي تبكي، والناس الذين لا يعرفون ماذا يقولون، غنّى (عبد الحليم) بصوتٍ يحمل البكاء، وكانت هذه الأغنية تحديدًا لحظة تحوّل في علاقة (الفن) بالسياسة: من الهتاف إلى الاعتراف.

في تلك اللحظة، أثبت (الفن) أنه ليس فقط للمواكب والانتصارات، بل أيضًا للانكسار والاعتراف، وأن الكلمة حين تُقال بصدق قد تُواسي شعبًا أكثر من ألف خُطبة.

أما (محمد فوزي)، فهو ليس فقط صاحب الألحان الشجية، ولكنه كان مطربا وملحّنا ومُبشرا بوطنٍ جميل، وحتى قبل أن تُختبر مصر بالهزيمة، كان هو ممن جهّزوا الوجدان للصمود، فغنّى للحب، وللأم، وللأرض، وللأمل، ورحل قبل أن يرى السقوط.. لكنه ترك لنا أغنية تقوم مقام النشيد: (بلدي أحببتك يا بلدي).. وكأنها صلاة طويلة لم تنقطع حتى اليوم.

د. ثروت الخرباوي يكتب: وطن ينتظر الجزء الثاني من حكاية (الفن) !
أم كثلوم

(أم كلثوم).. صوت الأمة

وفي قلب هذا المشروع الغنائي وقفَت (أم كلثوم)، فأصبحت صوت الأمة.. لم تكتفِ بالغناء للمحبّة والوجد، بل غنّت للعزيمة والإصرار.

قدّمت (منصورة يا ثورة الأحرار) التي أطلقت معاني الانتصار، وغنّت: (والله زمان يا سلاحي) حتى صارت نشيدا لمصر، فكانت قيثارة تعبِّر عن حكاية ثورةٍ تشرق من كل صباح.. كانت (أم كلثوم) بصوتها الذي لا يشيخ، منارات تنير دروب الوعي قبل المعارك، وتثبت أن للفن سلطانا لا يُقهر.

كل هذا.. كان قبل زمن (الترند)، زمن كانت فيه الدولة تدرك أن الوعي لا يُفرض، بل يُنسج كخيوط الحرير، وأن (الفن) إن لم يكن شريكًا في المشروع الوطني، صار خصمًا من حساب الوطن.

واليوم.. حين نسأل (الفن) عن دوره، قد يجيب البعض: (الظروف تغيرت)، نعم تغير، لكن الوعي لا يتغير، و(الفن) لا يُبرَّر.. بل يُؤدي دوره أو لا يكون، فهل يعود الفن كما كان؟ هل يصبح الصوت الذي يسبق الطلقات، والنغمة التي تشفي من الغيبوبة؟

هذا السؤال ليس لنا وحدنا، بل لصاحب الكاميرا، والمؤلف، والمغني، والمسرحي، والمنتج، ولعل أحدهم، وهو يقرأ هذا المقال، يُخرج من درج مكتبه سيناريوً قديمًا، ثم يكتب عليه: (الجزء الثاني من الحكاية… يبدأ الآن)!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.