
بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
في خضم ثورة المعلومات والتواصل التي نعيشها الآن، برزت ظاهرة (البودكاست) كقوة دافعة ومؤثرة، غيرت مفهوم استهلاك المحتوى السمعي بشكل جذري، لم يعد الاستماع مقصورا على الراديو التقليدي أو الموسيقى، بل امتد ليشمل آلاف الساعات من المحتوى المتنوع، من النقاشات العميقة والتحليلات المتخصصة، إلى القصص المثيرة والبرامج الكوميدية، وصولا إلى الدورات التعليمية وورش العمل.
كنت كتبت قبل ستة أشهر محذرا: انتشرت في الآونة الأخيرة برامج (البود كاست) بصورة كبيرة، ومع اختلاف المحتوى الذي تقدمه ومجالاتها المتعددة، باتت تشكل ظاهرة لافتة أراها سلبية تخلو من أية إيجابيات كما ينظر البعض لها، ولقد اندهشت حقا من إطلاق (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) 17 (بودكاست) في إطار ما تدعيه من تطوير المحتوى الرقمي.
ظني أن شيوع (البودكاست) في العالم العربي، وانتشاره بإفراط أخيرا، جعلاه موضع ابتذال، بحيث يسعى كل من هب ودب بصناعة (بودكست) خاص بهربما يرجع ذلك إلى أن إنجاز (البودكاست) عملية بسيطة، لا تتطلب تعقيدات المونتاج، وغرف التصوير، ورؤية إخراجية وما إلى ذلك، إضافة إلى سهولة تحميل الملف السمعي الذي لا يتجاوز حجمه 100 ميغابايت بحال كان في أفضل جودة.
لقد أصبح (البودكاست) هذه الأيام رحلة صوتية فريدة فرضت نفسها، تتيح للمستمعين استكشاف عوالم جديدة، واكتساب المعرفة، والترفيه عن أنفسهم، في أي وقت ومكان يناسبهم، هذه الظاهرة لم تعد مجرد صيحة عابرة، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وشكلت نقلة نوعية في طريقة تلقينا للمعلومات وتفاعلنا معها.

التنوع الهائل في المحتوى
يعود انتشار (البودكاست) الواسع حاليا إلى عدة عوامل رئيسية: المرونة والراحة: يمكن الاستماع إلى البودكاست أثناء القيادة، أو ممارسة الرياضة، أو القيام بالأعمال المنزلية، أو حتى أثناء التنقل، هذه المرونة تجعله رفيقًا مثاليًا للعديد من الأنشطة اليومية، مما يزيد من كفاءة استغلال الوقت.
الحقيقة التي أصبحت راسخة الآن: أن (البودكاست) يقدم محتوى يلبي جميع الأذواق والاهتمامات، سواء كنت مهتمًا بالتاريخ، العلوم، الفنون، ريادة الأعمال، الصحة، أو حتى الجرائم الحقيقية، ستجد بودكاست يلبي شغفك، هذا التنوع يجعله مصدرًا لا ينضب للمعرفة والترفيه.
هذا بخلاف المحتوى المرئي الذي قد يركز على المظهر أو الإبهار البصري، يركز (البودكاست) على المادة العلمية والعمق الفكري، يميل المستمعون إلى الثقة في المحتوى الصوتي الذي يقدمه خبراء أو أشخاص ذوو تجربة، مما يضفي عليه مصداقية أكبر.
يشعر المستمعون غالبا من خلال (البودكست) بوجود اتصال شخصي مع مضيفي (البودكاست)، ويساهم الصوت في بناء علاقة حميمية بين المستمع والمضيف، مما يجعل التجربة أكثر جاذبية وتأثيرا، مقارنة بإنتاج الفيديو الاحترافي، يمكن إنتاج (البودكاست) بتكلفة أقل ومعدات أبسط، مما أتاح الفرصة للعديد من الأفراد والمؤسسات لإنشاء محتواهم الخاص ونشره.
لم يعد (البودكاست) مجرد كونه وسيلة للترفيه، بل يصبح أداة قوية للتعلم والتطور الشخصي، لقد أصبح الكثيرون يعتمدون على البودكاست لاكتساب مهارات جديدة، وتعزيز معارفهم في مجالات مختلفة، ومتابعة أحدث التطورات في تخصصاتهم. هناك الآلاف من (البودكاست) التعليمية التي تغطي كل شيء من تعلم لغة جديدة، إلى فهم مبادئ الاقتصاد، إلى استكشاف أسرار الفضاء.
واليوم، في ظل عالم تهيمن عليه وسائل الإعلام التقليدية والرقابة، ظهر (البودكاست) كمنصة قوية للإعلام المستقل وحرية التعبير، وأتاح البودكاست للعديد من الأصوات التي قد لا تجد مكانًا في وسائل الإعلام التقليدية الفرصة للتعبير عن آرائها، ومناقشة القضايا الحساسة، وطرح وجهات نظر مختلفة.

القضايا المسكوت عنها
لقد أصبح (البودكاست) ملاذا للصحفيين المستقلين، والنشطاء، والمفكرين، الذين يمكنهم من خلاله الوصول إلى جمهور واسع دون قيود، هذا الجانب يعزز التنوع الفكري، ويثري النقاش العام، ويساهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا وإدراكًا.
يمكن للبودكاست أن يلعب دورا مهما في كشف الحقائق، وتسليط الضوء على القضايا المسكوت عنها، وتوفير منبر للمهمشين، في كثير من الأحيان، يقدم البودكاست تغطية أكثر عمقًا وتحليلاً للقضايا من وسائل الإعلام التقليدية، وذلك بسبب عدم وجود قيود زمنية أو ضغوط تجارية بنفس القدر.
هذا الاستقلال يمنح المنتجين حرية أكبر في استكشاف المواضيع من زوايا متعددة، وتقديم وجهات نظر متنوعة، مما يساهم في تشكيل رأي عام مستنير.
لم تعد ظاهرة (البودكاست) مجرد هواية، بل تحولت إلى صناعة مزدهرة توفر فرصا اقتصادية واعدة، يشهد سوق (البودكاست) نموا متسارعا، مع تزايد عدد المستمعين والمنتجين والمعلنين.. تتنافس الشركات الكبرى، مثل Spotify وAmazon، على الاستحواذ على شركات البودكاست وإنتاج المحتوى الأصلي، مما يشير إلى الأهمية الاقتصادية المتزايدة لهذه الصناعة.
تعتبر الإعلانات هى المصدر الرئيسي للدخل للعديد من (البودكاست)، حيث تقوم الشركات بالترويج لمنتجاتها وخدماتها خلال الحلقات.. يعتمد تسعير الإعلانات عادة على عدد مرات الاستماع، وجمهور البودكاست المستهدف.
وعن طريق الدعم المباشر من المستمعين، يعتمد بعض مقدمي البودكاست على دعم المستمعين عبر منصات التبرع (مثل Patreon) حيث يمكن للمستمعين المساهمة بمبالغ مالية لدعم محتواهم المفضل. هذا يسمح لهم بالحفاظ على استقلاليتهم وتقديم محتوى عالي الجودة.
بالمحتوى المدفوع والاشتراكات، يقدم بعض (البودكاست) محتوى حصريا للمشتركين المدفوعين، مثل حلقات إضافية، أو محتوى بدون إعلانات، أو الوصول المبكر للحلقات.. هذا يوفر لهم تدفقًا مستمرًا للدخل.

بعض تحديات (البودكاست)
وبأسلوب الفعاليات الحية والسلع يقوم بعض مقدمي (البودكاست) بتنظيم فعاليات حية (Live shows) حيث يمكن للمستمعين حضور تسجيلات مباشرة أو لقاء المضيفين، كما يبيعون سلعًا تحمل شعار (البودكاست) الخاص بهم (مثل القمصان، الأكواب)، مما يعزز من تواجدهم ويولد إيرادات إضافية.
هذا النمو الاقتصادي يخلق فرص عمل جديدة في مجالات الإنتاج الصوتي، التحرير، التسويق، وإدارة المحتوى، مما يساهم في دفع عجلة الاقتصاد الرقمي.. كما أنه يفتح آفاقًا جديدة للمبدعين ورواد الأعمال الذين يمتلكون أفكارًا فريدة ومحتوى قيمًا.
على الرغم من النمو الهائل والإيجابيات العديدة لظاهرة (البودكاست)، إلا أنها تواجه بعض التحديات التي تستدعي الاهتمام:
اكتشاف المحتوى: مع تزايد عدد البودكاست المتاح يوميًا، يصبح من الصعب على المستمعين اكتشاف محتوى جديد وجيد يتناسب مع اهتماماتهم، تعتمد معظم منصات البودكاست على خوارزميات الاقتراح، لكن لا يزال هناك حاجة إلى آليات أفضل لاكتشاف المحتوى.
جودة الصوت والإنتاج: بينما تتاح الفرصة للجميع لإنتاج (البودكاست)، فإن جودة الصوت والإنتاج تختلف بشكل كبير.. قد يمتلك البعض محتوى ممتازًا، لكن سوء جودة الصوت يمكن أن ينفر المستمعين.
الاستمرارية: يتطلب الحفاظ على جمهور البودكاست إنتاج محتوى منتظم وعالي الجودة.. يواجه العديد من المنتجين تحدي الاستمرارية بسبب ضيق الوقت، أو نقص الموارد، أو فقدان الشغف.
النموذج الاقتصادي: على الرغم من وجود فرص اقتصادية، إلا أن تحقيق الدخل المستدام من البودكاست لا يزال تحديًا للعديد من المنتجين، خاصة في بداياتهم، حيث يتطلب بناء جمهور كبير ووقتا طويلا.
التشبع: قد يؤدي التزايد المستمر في عدد (البودكاست) إلى تشبع السوق، مما يجعل من الصعب على البودكاست الجديد البروز والتميز في ظل المنافسة الشديدة.
التحقق من المعلومات: كما هو الحال في أي منصة رقمية، يواجه (البودكاست) تحدي انتشار المعلومات غير الدقيقة أو المضللة.. نظرًا للطبيعة الصوتية للمحتوى، قد يكون من الصعب على المستمع التحقق من صحة المعلومات في الوقت الفعلي، مما يستدعي من المنتجين تحمل مسؤولية كبيرة في دقة ما يقدمونه.
إمكانية الوصول: قد يواجه الأشخاص ذوو الإعاقة السمعية صعوبة في الوصول إلى محتوى (البودكاست)، مما يستدعي توفير نصوص مكتوبة (transcripts) للحلقات لضمان الشمولية.

ثورة صوتية مستمرة
في الواقع: يبدو أن مستقبل (البودكاست) واعد ومشرق مع تزايد الاهتمام بالمحتوى الصوتي، واستمرار تطور التقنيات، من المتوقع أن يشهد (البودكاست) مزيدا من النمو والتوسع في السنوات القادمة.. يمكن أن نشهد تطورات في عدة جوانب:
وبالتأكيد سيساهم الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة الصوت تلقائيا، وإزالة الضوضاء، وحتى ترجمة (البودكاست) إلى لغات مختلفة بشكل فوري، مما يوسع نطاق الوصول، كما يمكن أن يلعب دورًا في تخصيص المحتوى للمستمعين بشكل أكثر دقة بناءً على تفضيلاتهم.
الشاهد مما سبق أنه قد تصبح (البودكاست) أكثر تفاعلية، مما يسمح للمستمعين بالمشاركة في النقاشات، وطرح الأسئلة على المضيفين أو الضيوف مباشرة، أو حتى اختيار مسار القصة في البودكاست السردي.
الدمج مع الأجهزة الذكية: سيزداد دمج البودكاست مع السيارات الذكية، ومكبرات الصوت الذكية في المنازل، والساعات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء، مما يجعل الوصول إليه أسهل وأكثر سلاسة كجزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
التركيز على المحتوى المتخصص والدقيق: ستستمر (البودكاست) المتخصصة في جذب الجماهير، مما يتيح فرصًا أكبر للتعمق في مجالات محددة جدًا، وتلبية احتياجات شريحة معينة من المستمعين. هذا التخصص سيزيد من جودة المحتوى وعمقه.
(البودكاست) المرئي: (Video Podcasts) على الرغم من أن (البودكاست) يعتمد بشكل أساسي على الصوت، إلا أن هناك اتجاها متزايدا نحو (البودكاست) المرئي، حيث يتم تصوير الحلقات ونشرها على منصات الفيديو مثل يوتيوب، مما يجمع بين قوة الصوت وجاذبية الصورة.
ستظهر نماذج ربحية جديدة تتجاوز الإعلانات التقليدية، مثل الاشتراكات المتميزة، أو المحتوى الحصري للرعاة، أو حتى دمج البودكاست مع تجارب الواقع الافتراضي والمعزز.
لكن الظاهرة السلبية هنا: أنه أصبح (البودكاست) فسحة لثرثرة غير مفيدة، رغم ما يمكن أن يوفره من فرص ثقافية وتعليمية خفيفة ومدخلية، نلحظ هيمنة (البودكاست) في الخليج العربي، في دولتي الإمارات والسعودية تحديدا، وربما يرجع ذلك إلى فلسفة خدمة أهداف الدولة.
ومن ملاحظاتي الدقيقة لظاهرة (البودكاست)، لم يخرج البودكاست العربي من تهمة (النخبوية) إلا بتنوع مواضيعه، والأهم جاء بخروج مواضيعه عن الثقافة والأجواء الثقافية، حتى أصبحت غالبية (البودكاست) العربي عبارة عن برامج (حكي).
ياسادة: هناك آفة كبيرة تصيب (البودكاست العربي)، وواقع وجود هذه الآفة، يخرج ربما عن إرادة القيمين على (البودكاست) داخل الوطن العربي، فتنسب هذه الآفة إلى المنتج.
حال (البودكاست) العربي كحال الكلمة الحرة والصوت الحر، المقموعين سواء في السينما أو الأدب أو البحث العلمي.. الآفة تبدأ بالانعطاف الذي أصاب البودكاست ومساره.
بينما كان هدف (البودكاست) خلق إعلام بديل، وتعددية في الآراء والأصوات، إلا أن السياسة كانت تشكل (بعبعا) لمقدمي البودكاست حتى وقت قريب، لكن تنامي الظاهرة الظاهرة السياسية تحتم الآن الحد من ظاهرة (البوكاست)، فقط يمكن توظيف فوائده في العملية التعليمية مثلا عبر توفير أسلوب مفيد وشائق ومبسط لاكتساب المعلومات الجديدة، وكذلك يتيح للمتعلمين استكشاف موضوعات جديدة تسهم في توسيع آفاقهم المعرفية.