رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(رياض البندك) يتذكر كيف اكتشف (فايزة أحمد)، وسر الوسام الذي حصل عليه من جمال عبدالناصر (2/3)

(رياض البندك) يتذكر كيف اكتشف (فايزة أحمد)، وسر الوسام الذي حصل عليه من جمال عبدالناصر (2/3)
كان يضع لكل صوت ما يتناسب مع حنجرته، لهذا عاشت ألحانه في وجدان أجيال كاملة

كتب: أحمد السماحي

(رياض البندك)، واحد من جيل العمالقة، صناع الوجدان، وبناءو ذاكرة الوطن العربي الغنائية، ومشيدو صروح أمجاده الطربية.

 ويحسب لـ (رياض البندك) هذا العملاق الفلسطيني الجنسية، العربي الهوية، أنه كان له الفضل في علاج الوعي الجماهيري على نطاق واسع امتد تأثيره الإيجابي الفعال إلى المنطقة العربية كلها، من شرقها إلى غربها ووسطها ،بأناشيده الوطنية، وألحانه العاطفية لأساطين الطرب في العالم العربي

وألحان (رياض البندك) التى لحنها لـ (ماري جبران، وكارم محمود، وسعاد محمد، ونور الهدى، ووديع الصافي، ومحمد قنديل، وأحلام، وفايزة أحمد) وغيرهم ليست للإيجار، ولا يصلح لحن منها لصوت غير الذي تغنى به.

فهذا المبدع كان يضع لكل صوت ما يتناسب مع حنجرته، لهذا عاشت ألحانه في وجدان أجيال كاملة.

كان من المقرر أن أنهي ذكريات (رياض البندك)  التى صرح بها في مجلة (فن) اللبنانية مع الزميلة هيام منور، في هذه الحلقة، لكن نظرا لثراء هذه الذكريات، فضلنا أن نستكملها في حلقة ثالثة، والآن إليكم نص الحلقة الثانية من ذكريات هذا العملاق الفلسطيني.

في البداية يقول (رياض البندك): بعد بروفة أغنية (آه من عينيك) للمطربة السورية ماري جبران، في مقر الإذاعة اللبنانية، أرسل الشيخ (فايز مكارم) مدير الإذاعة اللبنانية في طلبي وقال لي: (لن ندعك تسافر، وأريدك أن تنظم القسم الموسيقي بالإذاعة اللبنانية).

وفعلا صدر قرار بتعييني رئيسا للقسم الموسيقي بالإذاعة اللبنانية، ولم أعد إلى دمشق إلا بعد سنتين حيث عينت مراقبا للموسيقى في الإذاعة، وكان معي مراقبا آخر هو المرحوم (يحيي السعودي).

وفي نهاية عام 1950 صدر قرار بتأسيس المعهد الموسيقي الشرقي، ونقل (يحيي السعودي) إلى المعهد، وكلفت بالإشراف الكامل على الفرقتين الموسيقيتين، وتنفيذ جميع الأغاني التى ستسجل في الإذاعة.

وهنا بدأ نشاطي الكبير، فلحنت لجميع المطربيين المشهورين في سوريا ولبنان، وعلى رأسهم (ماري جبران، ياسين محمود، كروان، نور الهدى، سعاد محمد، زكية حمدان، فتاة الفيحاء، سلوى مدحت) وغيرهم.

(رياض البندك) يتذكر كيف اكتشف (فايزة أحمد)، وسر الوسام الذي حصل عليه من جمال عبدالناصر (2/3)
وشعرت أنها مطربة ممكن أن تكون أعظم المطربات

قصة اكتشافي فايزة أحمد

عن قصة اكتشافه للمطربة (فايزة أحمد) يقول (رياض البندك): ذات يوم أخبرني عازف الرق في الإذاعة المرحوم (محمد العاقل) أنه في مسرح سوريا يوجد صوت لفتاة من أجمل الأصوات، وكان هذا المسرح من الدرجة العاشرة، تؤمه طبقات شعبية.

وذهبت في إحدى الليالي لأستمع لهذا الصوت، وقدمها مذيع المسرح باسم (فايزة أحمد)، ولفت نظري فتاة نحيلة، عمرها 18 عاما، شعرها (منكوش) والأسى يسيطر على وجهها، فشعرت بحزن حيث الناس ينظرون إليها بإزدراء.

وغنت (فايزة) أغنية (طلموني الناس) لأم كلثوم، وشعرت أنها مطربة ممكن أن تكون أعظم المطربات، وبعد انتهائها من الغناء أرسلت في طلبها.

 فجاءت مسرعة، وأعربت لها عن سعادتي بصوتها، واتفقت معها أن تنظرني عند باب الإذاعة في العاشرة صباحا من اليوم التالي، ـ وقد اخبرتني فيما بعد ـ، أنها لم تنم تلك الليلة من فرحتها.

وبالفعل في اليوم التالي وجدتها تنتظرني أمام باب الإذاعة، فدخلنا معا إلى مكتب المدير العام (أحمد عسة)، ومجرد أن دخلت معها لاحظت أن المدير استغرب شكلها.

 فغمزني، وفهمت عليه، فخرجت بها من المكتب، وأجلستها في الصالون، وعدت إلى المدير فقال لي: من هذه؟! فقلت له : هذا الصوت من أعظم الأصوات التى إستمعت إليها في حياتي.

فأجابني: شكلها بيخوف! والناس إذا رأوا منظرها سيخافون!، فأخبرته بأنني سأتولى العناية بها، حيث كانت حالتها المادية سيئة جدا، وتسكن هي ووالدتها في غرفة بأحد الفنادق الرخيصة.

(رياض البندك) يتذكر كيف اكتشف (فايزة أحمد)، وسر الوسام الذي حصل عليه من جمال عبدالناصر (2/3)
صممت أن أضع كل ثقلي الفني مع (فايزة أحمد) هذه الإنسانة الفقيرة

أول موشح لفايزة أحمد

قد صممت أن أضع كل ثقلي الفني مع (فايزة أحمد) هذه الإنسانة الفقيرة، فأخترت لها موشحا أندلسيا من شعر (ابن الهاني الأندلسي) وقمت بتلحينه، وكان مطلعه يقول :

امسحوا عن ناظري كحل السهاد

وانفضوا من مضجعي شوك القتاد

وخذوا مني ما اعطيتموا

لا أحب الجسم مسلوب الفؤاد

وفوجئت أثناء تدريبي لفايزة أحمد، أنها أمية، لا تقرأ ولا تكتب!، مما زاد في تصميمي على تبنيها، فبقيت معها حوالي شهر كامل لتحفيظها الشعر.

و(تلتمع الدموع في عيون رياض البندك) ويقول: سامحني الله كم أنبتها، وقسوت عليها حتى حفظت الشعر، وبعد ما حفظت اللحن، شعرت أنها ستكون من أعظم المطربات.

وذهبنا للاستديو لإجراء التمارين اللازمة قبل التسجيل، فكان لها شرط واحد، حيث قالت لي : أرجوك لا أريد أن أرى المدير العام، أخاف منه!، وفي الأستديو ذهل الموسيقيون بالأداء.

وفجأة دخل المدير العام (أحمد عسة)، واستمع لمدة ثلاث دقائق فقط، وخرج مسرعا، فأكفهر وجهها، وأنا تصببت عرقا، وقلت في نفسي: (سأفتح معركة مع المدير مهما كلفني الثمن).

وبعد خمس دقائق تقريبا فوجئنا بدخول المدير العام، ومعه كل موظفي الإذاعة، والإبتسامة على وجوههم، وكانت فايزة أحمد ـ رحمها الله ـ، ذكية جدا، فعرفت بأن الذي حدث كان إعجابا، وليس العكس.

فسجلنا الموشح، وبدأت المكالمات الهاتفية تنهال علي هذه المطربة الجديدة من جميع أنحاء سوريا، وبعد هذا النجاح لحنت لها موشح آخر من شعر الشاعر الفلسطيني (حسن البحيري)، يقول مطلعه: (أنت طيف أحسه في الأماني، يا بعيدا وأنت في وجدانني).

وحقق هذا الموشح هو الآخر نجاحا كبيرا، ودعيت إلى تسجيل هذين الموشحين في إذاعات عمان، وبغداد، وبيروت.

(رياض البندك) يتذكر كيف اكتشف (فايزة أحمد)، وسر الوسام الذي حصل عليه من جمال عبدالناصر (2/3)
تحدثت مع الأستاذ (أحمد سعيد) وأخبرته، بقصة (فايزة أحمد)، فرحب بتبني إذاعة صوت العرب لصوتها

رحلة القاهرة وصوت العرب

يستريح الملحن الكبير (رياض البندك) قليلا، ويرتشف القهوة، ويعود بذاكرته إلى الوراء ليتذكر لنا سنة 1953، وكيف دعته حكومة ثور 23 يوليو،  للسفر إلى القاهرة، والأشتراك في تأسيس إذاعة (صوت العرب).

حيث قدم استقالته من الإذاعة السورية، فرفضت، فما كان به إلا أن تسلل إلى بيروت، وسافر للقاهرة حيث بدأ هناك بتأسيس إذاعة (صوت العرب)، وسجل أول نشيدين وحدويين في الإذاعة مع الفرقة السيمفونية، النشيد الأول من كلمات الشاعر المصري (حسين طنطاوي) ويقول  مطلعه:

هلموا هلموا شباب العرب، إلى المجد والمجد للأقوياء

إذا ما تحدنا بلغنا الأرب، وعند السماء رفعنا اللواء

والنشيد الثاني من كلمات الدكتور (عبد السلام العجيلي) ويقول مطلعه: (السهول والربا رددت ندانا، حين جردنا الظبى نفتدي حمانا).

ذات يوم كنت في مكتب (أحمد سعيد) مدير إذاعة صوت العرب، فجاءته مكالمة تليفونية، فقال لي : (سيدة على الهاتف تريد التحدث معك)، وإذ بي أسمع صوت (فايزة أحمد) وهي تدندن لي أحد الموشحين، وقالت لي : (التلميذة لحقت أستاذها).

فكانت مفاجأة كبيرة لي، وأعطتني عنوانا في فندق في منطقة (العتبة الخضراء) وهو من أرخص الفنادق، فوعدتها بالزيارة، ثم تحدثت مع الأستاذ (أحمد سعيد) وأخبرته، بقصة (فايزة أحمد)، فرحب بتبني إذاعة صوت العرب لصوتها.

خاصة وأن إذاعة (صوت العرب) كان هدفها الأول تقديم الفنانيين العرب، وليس المصريين فقط، وطبعا كنت أريد أن أقدمها بسرعة، فقررت أن أسجل لها الموشحين السالف ذكرهما.

وقررت أن أبدأ معها من القمة، فأحضرت أكبر فرقة موسيقية لترافقها، وكانت فرقة بقيادة أحمد فؤاد حسن، وبدأنا التمرينات في معهد الموسيقى العربية، وفي المعهد كان عشرات من الزملاء، ومحترفي الفن، ومحبي الموسيقى.

ومجرد أن بدأت (فايزة أحمد) بالغناء، حتى صرنا كأننا في قاعة سينما،  وأثناء ذلك وجدت أمامي (كمال الطويل، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي) وطار صيت (فايزة أحمد) عند الزملاء، ولحن لها محمد الموجي (أنا قلبي إليك ميال) فحققت من وراءها شهرة كبيرة، وبدأ مشوار فايزة أحمد.

(رياض البندك) يتذكر كيف اكتشف (فايزة أحمد)، وسر الوسام الذي حصل عليه من جمال عبدالناصر (2/3)
جمال عبدالناصر ورياض البندك

تكريم جمال عبدالناصر

يستكمل (رياض البندك) ذكرياته فيقول: أثناء وجودي في القاهرة لحنت لعدد كبير من المطربيين المصريين منهم (كارم محمود، شهر زاد، فايدة كامل، عصمت عبدالعليم، نور الهدى، محمد قنديل) وغيرهم.

وفي عام 1954 أشرفت على إقامة حفل فني كبير باسم (اتحاد الطلبة العرب)، وحضر الرئيس جمال عبدالناصر، حيث أقيم الحفل في (نادي الضباط).

وعندما دخل (جمال عبدالناصر) قاعة الإحتفال، استقبله الطلبة العرب بالأهازيج المحلية واللبنانية والتونسية والليبية والسورية والفلسطينية، والخليجية، والأردنية، وغيرها، وفي هذا الحفل قدمت عددا من ألحاني الوطنية والوحدوية.

وبعد ثلاثة أيام فوجئت بدعوة من الرئيس (جمال عبدالناصر)، وفيها أنه يريد رؤيتي، وفي اليوم المحدد حضؤ للإذاعة المصرية المناضل (كمال رفعت) مدير المكتب الخاص للرئيس واصطحبني معه إلى رئاسة الجمهورية، حيث كان مقرها المؤقت في شارع (لاظوغلي) خلف ميدان التحرير.

وعندما وصلنا هرع الصحافيون من كل جانب، واستغربوا وتسألوا من هذا الشاب الذي يدخل مع (كمال رفعت)، وصعدت معه في المصعد الخاص للرئيس، وعند دخولي المكتب، استقبلني بإبتسامة كبيرة، وقال لي: (أنا متابع كل اللي بتعمله في صوت العرب مع أحمد سعيد).

وهنأني بكلمات تقديرية جميلة، وقبل انتهاء المقابلة أعطاني شهادة تقدير، وضغط على زر أمامه فجاء حوالي عشرة مصورين، وطلب منهم أن يصوروني معه، وفي لحظة استدار (عبدالناصر) وأعطاني يمينه وقال لهم صوروا.

وهذه الصورة أعتبرها أكبر وسام في حياتي، فأنا أول فنان في تاريخ الثورة بالقاهرة يستدعيني الرئيس جمال عبدالناصر استدعاء، ويتصور معي.

في الحلقة القادمة:

*نستكمل ذكريات الملحن الفلسطيني الكبير (رياض البندك)، ويتحدث عن ظروف ولادة لحنه الشهير (يا عيني على الصبر) للأسطورة وديع الصافي.

*وكيف استقبلته فايزة أحمد بعد الشهرة، وقصة اكتشافة لفاتن حناوي، وسر لحنه الذي لم يظهر للنور لأم كلثوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.