رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود عطية يكتب: (التوريث) في التشخيص!

محمود عطية يكتب: (التوريث) في التشخيص!
شهدت مصر ظاهرة انفجارية غير مسبوقة من (التوريث) الفني

بقلم المستشار: محمود عطية *

ما الذي حدث لمصر؟ كيف تحوّلت دولة كانت تُصدّر للعالم مفكرين وعلماء ومبدعين حقيقيين إلى دولة لا تُنتج سوى المهرجانات، والسجادات الحمراء، وأبناء وأحفاد (المشخصاتية)؟.. لماذا أصبحت مؤسسات الدولة، بكل مستوياتها، راعية بشكل مباشر للابتذال الفني و(التوريث) العائلي في التمثيل، بينما يُهدر مستقبل آلاف الخريجين الحقيقيين؟

في السنوات الأخيرة، شهدت مصر ظاهرة انفجارية غير مسبوقة من (التوريث) الفني.. أسماء تظهر فجأة على الشاشات، في أدوار البطولة، وفي مقدمة الصفوف، دون أن يكون لها أي علاقة بالدراسة أو الموهبة أو حتى الحد الأدنى من التدريب.

كل ما تملكه تلك الوجوه هو (الاسم): ابن فلان، حفيد فلانة، شقيق الفنان العلاني. أما خريجو المعهد العالي للفنون المسرحية – المعهد الرسمي التابع للدولة – فيقفون خلف الكواليس، أو يُستغلون ككومبارس، أو يُقصون تمامًا، فقط لأنهم لا يملكون واسطة أو نسبًا فنيًا.

ليست المشكلة فقط في المعهد الذي أصبح فعليًا وكرًا للشللية والتمييز الطبقي و(التوريث) داخل الفن، بل في الدولة ذاتها التي تدعم هذا الانحراف، من خلال رعاية المهرجانات، وتكريم الفاشلين، وإنفاق الملايين من المال العام على علاج الفنانين، وسفرهم، وتلميع صورتهم.

بينما يئن العلماء تحت عبء الإهمال، ويبحث الباحثون عن تمويل خارج مصر، ويُحرم الآلاف من الطلاب المجتهدين من أي فرصة للظهور أو التطور.

والأخطر من كل ذلك، أن هذا (التوريث) لم يعد محصورًا في أبناء خريجي المعهد، بل تجاوزهم إلى عائلات فنية بأكملها لا علاقة لها بالدراسة أو التأهيل، بل بالحضور الإعلامي والتاريخ الفني.

أبناء الممثلين والراقصات والوجوه التلفزيونية القديمة يسيطرون على الشاشة، ويأخذون الفرص، ويصعدون السلم دون عناء، في مقابل دفن كامل لأصحاب المواهب الحقيقية، سواء من داخل المعهد أو خارجه.

محمود عطية يكتب: (التوريث) في التشخيص!
هذه ليست مجرد أزمة فنية، بل أزمة قيم وطنية وعدالة مفقودة

أزمة قيم وطنية

هذه ليست مجرد أزمة فنية، بل أزمة قيم وطنية وعدالة مفقودة.. حين يُصبح الحلم الأكثر شيوعًا بين الشباب هو أن (يصبح مشخصاتيًا) بدلًا من أن يكون مهندسًا أو طبيبًا أو عالمًا، فهذه كارثة أخلاقية وإنسانية.

وعندما يرى الأطفال في من يُمثّل أو يرقص أو يصرخ في مسلسل نموذجًا للنجاح، بينما يُهان المعلم والعالِم ويُنسى المبدع الحقيقي، فهذا مؤشر على انهيار حقيقي في أولويات الدولة.

الإعلام المصري الذي لم أري في الدنيا أسوأ منه  بدوره لم يكن مجرد متفرج، بل لاعبًا أساسيًا في الترويج لهذه المأساة.. ولكل فشل وبكل تحيز واصبح به نماذج تثير الغثيان مثل زوجة الكومبارس وغيرها  وخاصة مشروع قانون المستأجرين الذي تصر الحكومه علي طرد الناس.

ومصر والعالم يعلم يقينا انها مؤامره علي المستأجرين، ولكن الاعلام الرخيص يدلس كالعاده ويتجاهل تمامًا لان اغلبهم اصحاب مصالح وبالاسماء قصص  معلومات ويندي لها الجبين ولكن نجاحهم الحقيقي تسلّيط الأضواء على تفاهات الفن المنحط، والتدليس والتعامل مع أبناء المشاهير وكأنهم رموز وطنية.

ويُهلل لظهورهم، ويُهاجم من ينتقدهم، في غياب كامل لأي ضمير إعلامي مهني. حتى الصوت النقدي أصبح يُخنق، والمجال العام أُغلق في وجه كل من يتجرأ على قول (لا) في وجه هذه الرداءة المدعومة رسميًا.

إن الدولة تتحمل مسؤولية مباشرة في ترسيخ هذا الفساد الفني، ليس فقط من خلال سكوتها، بل من خلال دعمها العلني، عبر تمويل المهرجانات، وتكريم من لا يقدّمون أي قيمة للمجتمع، وتسهيل التصاريح العشوائية، وإهمال خريجي المعهد أنفسهم.

النقابات أيضًا، وعلى رأسها نقابة الممثلين، تتحمل جانبًا من المسؤولية، إذ أصبحت تصدر التصاريح الفنية بناءً على المجاملات والعلاقات الشخصية، بدلًا من معايير الكفاءة أو الدراسة أو حتى أبسط قواعد الموهبة.

بالاضافه إلى إغفال قيمة اصحاب الماضي الفني والتحيز لوقاحة الكومبارسات لاغراض الله أعلم بها وسوف يحاسب أجلا أو عاجلا.

محمود عطية يكتب: (التوريث) في التشخيص!
ما نراه الآن في مصر ليس فنًا، بل عملية (التوريث) الفاضحة

عملية (التوريث) الفاضحة

ما نراه الآن في مصر ليس فنًا، بل عملية (التوريث) الفاضحة، مُدارة من خلف الستار، تُقصي الآلاف وتُكرّم قلّة لا تستحق.. لا يجوز أن يُكافأ من يسهر في الملاهي على حساب من يسهر في المعمل، ولا أن يُمنح لقب (رمز وطني) لمن يعتاش على الفضائح، بينما يُقصى المفكر والباحث من المشهد تمامًا.

من هنا، نطالب بقرارات حاسمة، أولها إغلاق المعهد العالي للفنون المسرحية بشكل كامل وإعادة هيكلته، لأنه تحوّل من مؤسسة أكاديمية إلى مكتب لتوزيع الامتيازات والفرص حسب العلاقات.

نطالب أيضًا بتجميد كل التصاريح الفنية التي تُمنح بلا معايير واضحة، ومراجعة دور نقابة الممثلين ومحاسبتها، وإيقاف الدعم المادي والإعلامي للفنانين الفاسدين، وإعادة الاعتبار للفن كرسالة، لا كمشروع توريث عائلي.

الوقت لم يعد يسمح بالمجاملة، ولم يعد مقبولًا أن نُهدر الملايين على حفلات التهريج والسطحية، بينما يموت الأطفال في المستشفيات دون علاج، ويتخرّج الباحثون دون فرص، ويتحوّل الطموح الوطني إلى فقرة ساخرة في برنامج تافه.

مصر تستحق أفضل من هذا، وشعبها لا يجب أن يُدار بعقلية السجادة الحمراء والبرومو، بل بعقلية المستقبل، والنهوض، والعدالة، وإعادة كل شيء إلى نصابه الحقيقي.

* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.