رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي) والعرض الأول في تاريخ البشرية (2)

كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي) والعرض الأول في تاريخ البشرية (2)
من خلال العرض الأول في التاريخ الإنساني، وهو عرض الغراب، الذي تعلم منه الإنسان طريقة الدفن

بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول *

في المقالة السابقة تعرفنا على (الجهاز الحسي) الإعجازي، الذي خلقة الله في الإنسان، وتعرفنا على طريقة عمله عند المشاهد ، من خلال العرض الأول في التاريخ الإنساني، وهو عرض الغراب، الذي تعلم منه الإنسان طريقة الدفن، وعرفنا أن العرض كان به من التأثيرات التي ذكرت القاتل بهول ما فعله.

وضربنا مثلا توضيحيا لطريق عمل هذا (الجهاز الحسي) عند المشاهد، واليوم نكمل في طريقة عمل هذا الجهاز عند الفنان (الممثل) ، عندما يقدم عرض للمشاهد ، وسوف نلاحظ من خلال عمل (الجهاز الحسي) عند الفنان (الممثل)، أن الفنان لابد له من امتلاك الثقافة الحسية ( التأثيرية – الجمالية ) ، وبدون تعلمه وتثقفه ، لهذه الثقافة، يكون المشاهد في فوضى حسية (لا يحمد عقابها – كحال الفن الآن في مصر).

وسوف نرى عمل ذلك  (الجهاز الحسي) عند الفنان يتشابه مع الطريقة التي قدم بها العرض الأول أمام قابيل، إذ لابد  أن يعلم الفنان كيفيه إخراج الموضوع للمُشاهِد في صورة عرض مسرحي (تمثيلي)، وهنا يعمد الفنان على استخدام (الجهاز الحسي) المعجز بداخله، حتى يقدم العرض المسرحي.

وهذا  (الجهاز الحسي) الذهني للفنان يمكن أن نتعرف عليه، وذلك عبر الطريقة التي يُحَوِّلُ بها الفنانُ الموضوعَ المقدمَ إلى عرضٍ مسرحي مُؤَدَّى أداءً حياً، أمام جمهور، وكيف كوّن المكان المسرحي وأعده، وهذا  من خلال تخيل قبيلة تعيش في العصر الحجري، ونلخصه فيما يلي:

من خلال تخيل (Robert Edmond Jones) في كتابه:The Dramatic Imagination  لكيفية ظهور فن التمثيل في الحياة ،ولكنه لم يتعرض إلي (الجهاز الحسي) أو موضوع فن التمثيل، إذ أن محاولته هذه كانت تخيلية عن ظهور فن التمثيل السابق عن دراما أرسطو ، ونقدم هذه الصورة  من خلال:

كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي) والعرض الأول في تاريخ البشرية (2)
الأسد الحقيقي قد مات اليوم (أوك) ليس الأسد، وهو لا يشبه الأسد

عرض الأسد

دعونا نعود بخيالنا إلى العصر الحجري، في أيام رجل الكهوف، حيث الماموث واللوحات الجدارية في الكهف، والوقت ليلا، نحن نجلس فيه مع بعضنا حول النار، ويوجد (أوك، وبو،  ويونج)، ونحن نجلس بالقرب من بعضنا ونحب أن نكون معا، وبذلك نكون أكثر أماناً بهذه الطريقة، إذا هاجمتنا الحيوانات البرية، ونحن أكثر سعادة عندما نكون معا، إذ أننا نخشى الوحدة.

وعلى الجانب الآخر من النار يجلس زعماء القبائل، إنهم الرجال الأقوياء، يمكنهم العدو بسرعة، ويمكنهم أيضا القدرة على التحمل والمحاربة القوية الصعبة، لقد قتلوا أسداً هذا اليوم، ونحن متحمسون لهذا الحدث المثير، إننا نتحدث عن كل شيء عن هذا الحدث، إن جلد الأسد موضوع على مقربة من النار، فجأة زعيم القبيلة يقفز على قدمه.

وقال (أنا قتلت الأسد)، أنا فعلت الآتي: لقد تتبعت الأسد، وهو قفز في وجهي، لقد وجهت رمحي إلى وجهه وضربته، وسقط، وهو لا يزال يرقد،  لقد حدثنا عن ذلك، ونحن نستمع، ولكن كل الأفكار التي تأتي من فكرة غير واضحة.

وقال: أنا أعرف طريقة أفضل للحديث، دعوني أعرض لكم، ووقف الزعيم يرتب أماكن جلوسنا، اجلسوا حولي في دائرة، وأنتم اجلسوا على اليمين هناك، وذلك حتى يمكنني التواصل معكم جميعا.

واستمر الزعيم في توجيهاته، وقال: (أوك) قف هناك وسوف تكون أنت الأسد، خذ أنت جلد الأسد وضعه فوقك وأنا سوف أقتلك وأنت تريهم كيف حدث ذلك، استيقظ (أوك) ووضع جلد الأسد فوق كتفيه، وسقط على يديه وركبتيه وأخذ يزأر وكان منظره رهيباً كأنه أسد.

ولكنه ليس الأسد الحقيقي، إننا نعرف ذلك، الأسد الحقيقي قد مات اليوم (أوك) ليس الأسد، وهو لا يشبه الأسد، أنت لست في حاجة إلى رهبتنا يا أوك، أوك لن ترهبنا.

وإذا نظرنا إلى ما فعله شيخ القبيلة سنجد أنه عمد إلى إثارة حس المُشاهِدين من خلال بعض العمليات التي قام بها من خلال استخدامه (الجهاز الحسي) حتى يتسنى له التأثير في النظام الحسي لدى المُشاهِد وهى:

كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي) والعرض الأول في تاريخ البشرية (2)
فوق جسد (أوك) حتى يعمل على إيهام المُشاهِد أنه الأسد، ووضْعِ تصور لزمن العرض

أولا: التصورات والخيال

لقد قام شيخ القبيلة بعمل تصور لكيفية تحويل الموضوع إلى عرضٍ أدائي حي، فتخيل (أوك) الأسد، وهو نفسه صياد الأسد، وقاده خياله إلى استخدام جلد الأسد ليضعه فوق جسد (أوك) حتى يعمل على إيهام المُشاهِد أنه الأسد، ووضْعِ تصور لزمن العرض، والمساحة التي سوف يتم فيها العرض وكيفية تقسيمها بين الممثلين والمُشاهِدين، حتى يستطيع المُشاهِد رؤية العرض.

كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي) والعرض الأول في تاريخ البشرية (2)
انتظم الموضوع في ذهنه ورتبه من خلال خياله، بحيث يكون عرضاً مسرحياً له بعد زماني ومكاني

ثانيا: الذهن

انتظم الموضوع في ذهنه ورتبه من خلال خياله، بحيث يكون عرضاً مسرحياً له بعد زماني ومكاني، فأخذ يوزع المُشاهِدين في أماكن يستطيعون من خلالها متابعة العرض، ثم قام بتوزيع الدور التمثيلي بينه وبين واحد من أفراد القبيلة، وعرفه دوره بأنه سوف يكون الأسد، وأعطاه جلد الأسد لكي يظهر في تلك الصورة (كإكسسوار مسرحي)، ثم لعب هو دور المقاتل الذي سوف يقتل الأسد.

ثالثا: الحس

استطاع شيخ القبيلة أن يثير إحساس الممثل (أوك)، بأن جعل خياله يتحرك ويتصور أنه أسد، عن طريق إثارة حواسه، فأعطاه جلد الأسد، وجعله يشكل جسده في صورة الأسد قدر الإمكان، وشيخ القبيلة استعاد من ذاكرته الماضية الكيفية التي صارع بها الأسد وقتله، واستخدم رمحه ووضعية جسده أيضا، بحيث يجعل أحاسيسه بمثابة مثير سمعي بصري للمُشاهِد.

كمال زغلول يكتب: (الجهاز الحسي) والعرض الأول في تاريخ البشرية (2)
من منطقة الحس الخاصة بالممثلين، اندمجوا في الأدوار

رابعا: الشعور

من منطقة الحس الخاصة بالممثلين، اندمجوا في الأدوار، مما يولد بداخلهم شعوراً داخلياً، انطبع على جسدهم في صورة حركات وإيماءات وإشارات وصوت، وهذا يعطي إيهاماً إلى المُشاهِد فيتوغل بداخله هذا الشعور، ويشعر بالمتعة الجمالية.

ومما سبق تعرفنا على (الجهاز  الحسي) المعجزة عند الفنان والمُشاهِد، وتعرفنا على طريقة عمل ذلك النظام عند كليهما، ومن الملاحظ أن هذا النظام مرتبطٌ أشدَّ الارتباط بالثقافة المعرفية التي اكتسبها الإنسان، إذ عرض: (الغراب) ارتبط بثقافة القتل، وأضاف معرفة إنسانية جديدة وهى ثقافة الدفن.

والعرض الثاني: (الأسد) اعتمد على ثقافة الصيد والتي اكتسبها مجتمع القبيلة من تجاربهم الحياتية، وهذا يعني أن المصادر الفنية للعرضين تعتمد على الثقافة الشعبية لكل من الجمهور والعارض، ولذلك يرتبط فن التمثيل بذلك (الجهاز الحسي)، وبدون الثقافة الحسية للفنان ، ومعرفته بالجهاز الحسي، يكون الفن قائم على الفوضى الحسية.

وباكتشاف هذا (الجهاز الحسي) نكون قد وضعنا أيدينا على الأسس العلمية التي يرتكز  عليها علم الجمال، والتي لم يتطرق إليها أو يكتشفها،  الفيلسوف الألماني (ألكسندر غوتيلب باومغارتن)، والذي يطلق عليه مؤسس علم الإستيطيقا (الجمال)، و بحمد الله وفضله أسبقه وأصحح له.

وأخرج بالأسس العلمية الصحية الصحيحة لعلم الجمال من خلال اكتشاف الجهاز الجمالي الذي خلقه الله في الإنسان وأيضا من خلال الثقافة الجمالية  (التأثيرية)  التي لا بد لمن يمارس العمل الفني أن يكون حاذقا وعالما بها، ولابد أيضا أن يتعرف على (الجهاز الحسي) داخله، وكيفية عمله.

……………………………………………………………………………………………………………………..

** للعلم: بهذا المقال، والذي سبقه الأسبوع الماضي، وربما ما يليهما من مقالات أخرى، يثبت الباحث المسرحي (الدكتور كمال زغلول) ومن قبله الدكتور (شاكر عبد الحميد)، أنهما سبقا فيلسوف الجمال الألماني (ألكسندر غوتيلب باومغارتن) الذي يقولون عنه أنه مؤسس (علم الجمال).

وذلك عندما صححا المفاهيم حول الأسس العلمية لعلم الجمال التأثير والتأثر من خلال (الجهاز الحسي)، ومن خلال الثقافة الحسية، ومن هنا يؤكد (الدكتور شاكر عبد الحميد، والدكتور كمال زغلول، أن لدينا عقول عربية تعكس علما حقيقيا، وأنه ليس كل شيئ مصدره الغرب ونحن فقط نقوم بتقليده.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.