
بقلم الإذاعي: شريف عبد الوهاب *
نحن لا نقارن بين شخصين فقط، بل بين جيلين.. بين فنانٍ توفي ولكنه باقٍ، وفنانٍ باقٍ لكنه غاب.. بين فنانٍ خلّده التاريخ… وآخر أتلفه الهوى، قد تبدو المقارنة بين (محمد عبد الوهاب) و(محمد رمضان) ظاهريًا غير منطقية، لأن المسافة بينهما شاسعة، في الزمن والرؤية والدور. لكنها في العمق، ليست مقارنة بين شخصين بقدر ما هي قراءة في مفهوم الفن، وتحوّلاته، وما يتركه من أثر.
(محمد عبد الوهاب).. حين تتربى الموهبة في حضن الشعر والفكر.. لم يكن (محمد عبد الوهاب) مجرد صوت جميل، ولا مجرد ملحن عبقري.. كان مشروعًا حضاريًا فنيًا، تشكّل في بيئة ثقافية راقية، من بيت متواضع إلى مجلس أمير الشعراء (أحمد شوقي)، إلى رحلاته في أوروبا حيث استمع وتعلّم وتأثر دون أن يفقد ملامحه الشرقية.
(محمد عبد الوهاب)، هو الفنان الذي لم يكتفِ بموهبته، بل ثقف نفسه، فكانت ألحانه انعكاسًا لوعيٍ موسيقي وإنساني عميق، من (النهر الخالد) إلى (الجيل الصاعد)، ومن (يا مسافر وحدك) إلى (هان الود)، ترك (محمد عبد الوهاب) تراثًا لا يزال يُدرّس ويُغنّى وتُستعاد ملامحه في دراسات الباحثين ونقد النقاد.
كان كل لحن يقدّمه (محمد عبد الوهاب) هو مشروع متكامل، لا يكرّر نفسه، ولا يسير خلف موجة. لذلك، لم يحتَج لأن يطلق على نفسه أي لقب… بل لقّبته الأجيال بـ (موسيقار الأجيال).

ظاهرة تبحث عن عمق
(محمد رمضان)، ابن الحارة الشعبية، شقّ طريقه في التمثيل بإصرار ومثابرة، وأبدع في بعض الأدوار التي لامست وجدان الشارع المصري، مثل (الأسطورة، نسر الصعيد، جعفر العمدة)، لكنه اختار لاحقًا أن يتحول إلى مغنٍّ، لا ليضيف للفن بُعدًا جديدًا، بل ليعزز حضوره الإعلامي وسط ضجيج الشهرة.
أغنياته مثل (نمبر وان، مافيا، الملك، ثابت)، تعتمد على إيقاع سريع، وصورة لامعة، وكلمات قصيرة تجذب الانتباه، لكنها لا تترك أثرًا عميقًا. هو فنان يعرف كيف يصنع (الترند)، لكنه لم يسعَ لصناعة تاريخ فني يبقى بعد أن تخفت الأضواء.
واللافت أن لقبه (نمبر وان) جاء من فمه، لا من الجمهور أو النقاد، وكرّره بإصرار حتى صار علامة جدلية، تطرح تساؤلًا مهمًا: من يملك حق إطلاق الألقاب؟ الفنان؟ أم الناس؟

الفن… رسالة أم وسيلة؟
(محمد عبد الوهاب) تعامل مع الفن كرسالة تُغني الروح، وتُثري الوجدان، وتُبقي الإنسان على صلة بجمال الحياة، أما رمضان، فقد تعامل مع الفن كوسيلة للعبور إلى الشهرة، منصة يقف عليها كي يُبهر لا ليُفكر، ويُصفّق له لا أن يُناقَش.
شتّان بين من يعمل ليُخلّد، ومن يعمل ليُشاهَد.. الفن الذي يُبنى على فكر، يظلّ.. والفن الذي يُبنى على صورة، قد يتلاشى مع زوال الفلاش.
من يمنح الألقاب؟
(محمد عبد الوهاب) لم يسعَ خلف لقب، لكنه استحقه.. أعطاه الجمهور صفة (موسيقار الأجيال)، لأنه بنى جسرًا بين الأصالة والتجديد، بين الشرق والغرب، بين الموهبة والعقل، أما (رمضان)، فقد أعلن نفسه (نمبر وان)، فردده محبوه، ورفضه آخرون، لأنه لم ينبع من الإجماع، بل من الإلحاح.
الفرق كبير بين أن يمنحك الناس اسمًا… وأن تفرضه عليهم.. البيئة تلد فنانًا… لكن الوعي يصنع مبدعًا.
(محمد عبد الوهاب) لم يكتفِ بما أُتيح له من فرص. سعى ليعرف أكثر، ليسمع أكثر، ليصمت ويتأمل ويعود ويقدّم، أما رمضان، فبقي أسيرًا لصورة البطل الشعبي، يكرر نفسه في أدوار وأغنيات، وكأنه يخشى أن يخرج من النمط الذي صنع له مجدًا لحظيًا.

وهج اللحظة.. أم أثر الزمن؟
قد يملك (محمد رمضان) ملايين المشاهدات، وسيارات فارهة، وحفلات عالمية.. لكنه لا يملك حتى الآن أغنية واحدة تُدرّس، أو يُعاد تقديمها بصوت آخر، أو تُغنّى بعد غيابه بعقود.
بينما لا تزال ألحان (محمد عبد الوهاب) تُغنّى، وتُعاد بصوت الجيل الجديد، وتُسجَّل بلغات أخرى، وكأنها خرجت لتبقى.
خاتمة:
فرق شاشع بين الغناء والجعير.
الفنان الحقيقي هو من يُروّض الشهرة، لا من تروّضه.
من يصعد الدرج درجة درجة، لا من يقفز فوق السلالم دون أساس.
من يكتب بالحبر… لا بالضوء.
فنانٌ خلّده التاريخ، وفنانٌ أتلفه الهوى.
وما طار طيرٌ وارتفع.. إلا كما طار وقع!
* رئيس الشعبة العامة للإذاعيين العرب – كاتب درامي