
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
قامت الدنيا ولم تقعد على (الدراما) التليفزيونية بسبب ملاحظة للسيد رئيس الجمهورية بأنها لا تقدم محتوى هادف وملائم للذوق العام، وذلك لكونها تحولت من صناعة إلى تجارة، فتحركت أجهزة الدولة بداية من رئاسة مجلس الوزراء الى أصغر موظف، وتتابعت الأخبار عن لجان ومؤتمرات وجلسات لكى يعدلوا حال (الدراما).
واستغلت بعض الأحزاب الفرصة لتركب الموجة وتظهر على السطح بأنها حامية حمى الوطن، و كأن (الدراما) التليفزيونية هى الأمر الوحيد في بر المحروسة الذى يحتاج الى إصلاح ويتوقف عليه مصير الأمة، و صار هذا الإصلاح مهمة قومية وقضية حياة أو موت !
و في اعتقادى الشخصى أن الأمر لايحتاج لكل تلك الضجة حول (الدراما)، وخاصة بعد موسم رمضان هذا العام الذى كان – في مجموعه – من أنجح المواسم، بل ربما أنجحها على الإطلاق منذ عشر سنوات على الأقل.
وبالتالى فلو صدقت النية في إصلاح (الدراما)، فالبداية هى مقارنة هذا الموسم بالمواسم السابقة، فورا سنجد أن السماح بعودة الشركات الخاصة للإنتاج هى السمة الأبرز هذا الموسم (وهو ما تناولناه في مقال سابق)، بالإضافة الى عنصر غائب عن الجميع وهو تخفيف قبضة الرقابة هذا العام وسماحها بموضوعات من المسكوت عنها مثل حال دور الأيتام في (لاد الشمس) والتحرش بالأطفال فى (لام شمسية).
والحقيقة أن الرقابة – أيا كان نوعها – هيى شريك أساسى في العملية الإبداعية، تساعدها على الازدهار إن كانت واعية، أو تدفعها للانهيار إن كانت متشددة، فالإبداع الفنى سواء كان مسرحيا أو سينمائيا أو تلفزيونيا غنائيا تحكمه وتتحكم فيه قوانين الرقابة.
فمن حق المبدع البدء فى تصوير أى فيلم أو مسلسل دون موافقة الرقابة على السيناريو أولا سواء كانت الرقابة العامة على المصنفات الفنية (وهى جهة تابعة لوزارة الثقافة) أو رقابة التليفزيون.

الرقابة على المصنفات
ثم يشاهد الرقباء الفيلم أو المسلسل بعد اتمام تصويره للترخيص بعرضه عرضا عاما، أو بالتداول على أشرطة أو اسطوانات أو أى وسيلة من الوسائل التقنية، وفي حال تصديره للخارج يجب أن تجيزه الرقابة على المصنفات حتى لو أجازته رقابة التليفزيون.
وحسب القانون من حق الرقيب رفض أى مصنف فنى فى أى مرحلة من المراحل السابقة أو سحب الترخيص لأى سبب، وإذا تساهل الرقيب ولم يمنع العمل ككل، وحاول إجازته بشرط تنفيذ بعض الملاحظات سواء بالحذف أو الاضافة ، فعلي المبدع تنفيذها حتى لو كانت ستغير وجهة نظره ورسالته المرجوة من العمل وإلا فلن يحصل على الترخيص.
والغريب أن إعطاء الترخيص بالعرض أو الحرمان منه لا يخضع لقواعد معروفة أو ثابتة، بل يخضع لتفسير الرقيب للقانون الذى ينص على أن مهمة الرقابة (حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا)، وهى كلمات مطاطة تحتمل تفسيرات عدة تتغير من عصر الى عصر، كما تختلف من رقيب إلى آخر تبعا لمدى ثقافتة وتفتحه و شجاعته.
وبما أن الشجاعة داخل اطار الوظيفة تعتبر تهورا، لذا فمعظم الرقباء يسيرون على مبدأ (من خاف.. سِلَم) فيحاولون إرضاء الدولة بأن يكونوا ملكيين أكثر من الملك خوفا من بطشها.
وهناك جهات رسمية غير الرقابة أوكل لها القانون جزءا من مهامها، لكنها توسعت فى استخدام السلطة الممنوحة لها، فعلى سبيل المثال لا ينص قانون الرقابة على أخذ موافقة الأزهر على تقديم الأعمال الفنية، بل عليه مراجعة الآيات أو الأحاديث لو وردت فى سياق العمل الفني.
لكن الأزهر منع أعمالا بسبب موقفه من ظهور الشخصيات الدينية، مما جعل بلادا كنا نتهمها بالتشدد والإنغلاق تسبقنا إلى عرض الفيلم العالمى (الرسالة) بينما مازال ممنوعا فى مصر!
بل زادت عليه بأن أنتجت أعمالا أظهرت من آل البيت: (الحسن والحسين) في مسلسل يحمل اسمهما، وظهر الخلفاء الراشدين جميعهم في مسلسل (معاوية)، بعد أن تم تقديم (عمر بن الخطاب) فى مسلسل أسعد الملايين.
بينما مازلنا هنا منذ السبعينات نرفض ظهور (الحسين) على المسرح (بل يقال إنه تم إبعاد أحد وزراء الثقافة بسبب سلسلة صدامات بينه وبين الأزهر، كان آخرها حديثه فى احتفال عام عن منع الأزهر تقديم مسرحية (الحسين) على المسرح القومى مما جعل مندوب المشيخة ينسحب من الاحتفال).

ميثاق الشرف الإعلامي
وإذا كنا لا نستطيع أن نتحدث عن الأزهر إلا بكل الحب والاحترام تقديرا لدوره فى مناحى أخرى، فليس لدينا سبب للتغاضى عن تعدد الأجهزة التى صنعت لنفسها دورا رقابيا، مثل (نقابة الاعلاميين) التى من المفترض متابعتها للأداء الاعلامى من أجل ضمان الالتزام بميثاق الشرف الإعلامي.
ولكنها أصبحت جهاز رقابة يعاقب أعضاؤه، ومثل (المجلس الأعلى للإعلام)، الذى اختصر مهامه فى رقابة الألفاظ والتدخين فى المسلسلات وترك مهامه الأخرى، وهى الأهم والأنفع و الأجدر به ، بل ساهم احد اعضائه فى حبس مبدع تحت دعوى قداسة أحدى محطات الإذاعة !
والحقيقة أن في مصر لا نكتفى بالأجهزة الرقابية التي نص عليها القانون فلقد أصبحنا فى عصر نصب كل إنسان نفسه رقيبا على المجتمع، فلقد تفردنا بنظرية جديدة هى (موت الرقيب)، حيث حل محله أى شخص أو مؤسسة أو جماعة ضغط أو حتى مجرد مجموعة أصدقاء على صفحات التواصل، ولا قيمة هنا للتخصص على الإطلاق.
بدأت تلك النظرية تتكون مع ظهور التيار المتأسلم، الذى تولى حمايته وتدعيمه نظام السادات، حيث تبنى هذا التيار أسلوب مطاردة المختلفين معه أيدلوجيا ومارس دورا رقابيا ليس على الإبداع فقط، وإنما على كل مناحى الحياة بما فيها الملابس وطريقة إلقاء السلام، وحتى ترتيب جلوس الشباب والفتيات فى مدرجات الجامعة!
و مع اختفاء السادات وعصره، ركز هذا التيار على رقابة الإبداع في (الدراما) وغيرها، وقمع أصحاب الفكر المستنير، مستخدما قضايا الحسبة، فرأينا قضايا بسبب أفلام (للحب قصة أخيرة، والمهاجر).
أو كتابات (الدكتور نصر حامد أبو زيد، خالد منتصر، إبراهيم عيسى، سيد القمني، إسلام البحيري، نوال السعداوي، فاطمة ناعوت، أحمد ناجي) حتى نادى المبدعون والمثقفون بوقف قضايا الحسبة التى تخصص بها بعض المشايخ و بعض المحامين.
ولكن اتسعت أعداد القضايا بزيادة اعداد الباحثين عن الشهرة الذين نصبوا أنفسهم رقباء حتى على محتوى الفضاء الإلكترونى مثل القضايا التى رُفعت على العديد من فتيات التيك توك.
وخوفا من أنه قد أصبح خلف كل حجر رقيب، يستطيع أن يكتب على الفيس بوك – مثلا – منددا بأى شيئ و أى شخص، ويدعى أن هناك من يعبث بأمن الوطن متسائلا اين الرقابة؟

مسلسل (الاختيار) نموذجا
فقد اتخذت الرقابة موقفا متشددا عن ذى قبل، فمنعت ظهور مهن بعينها كضباط الجيش والشرطة (إلا لو كانت الشئون المعنوية شريكة في الإنتاج مثل مسلسل الاختيار) وتحفظت تجاه المهن التي تقيم نقاباتها الدنيا ولا تقعدها، بسبب تقديم شخصية شريرة تنتسب لها.
و من أجل الابتعاد عن المشاكل تُصر الرقابة على إعادة الترخيص كل عام لأى عمل سبق ترخيصه خوفا من أى تغيرات سياسية تجعل الجهاز يمنع ما صرح به من قبل، برغم أن قانون الرقابة ينص على أن الترخيص يسري لمدة (سنة) من تاريخ صدوره بالنسبة إلى التصوير أو التسجيل، ولمدة (عشر سنوات) بالنسبة إلى العرض أو التأدية أو الإذاعة.
وهكذا تحولنا الى مجتمع من الرقباء: فبعض أفراد من الإعلام والنقابات والمجالس العليا والنوادى والمحامين والشيوخ وأعضاء المجالس النيابية، وكثير من المواطنين ينتهكون دور الرقابة بتنصيب أنفسهم رقباء، معلنين أن الرقابة لاتقوم بدورها.
فحاولت الرقابة أن تثبت جدارتها، ولذا كانت النتيجة ليست فى صالح المبدعين ولا فى صالح الدولة، فالحرية هى زاد الإبداع، والأحرار هم من يبنون الأوطان.