
كتب: محمد حبوشة
وحده يغرد خارج السرب، فمنذ إطلالته الأولى في مسلسل (النص) بدا لي (أحمد أمين) كوميديان من طراز رفيع ومختلف، فلا يبدو هزليا أو سمجا كغالبية نجوم الكوميديات على اختلاف أجيالها الحالية، فهو صاحب تكنيك خاص لا يلجأ إلى الافتعال بقدر يمتعنا بلغة جسده الطيعة إلى أبعد حد.
الأمر المؤكد أن (أحمد أمين) سينجح في إحداث التعاطف مع (الحرامي) السابق، رجل الخير والشهامة في وضعه الآني، حيث يحلق عاليا في دور (عبد العزيز النص)، الذي يجمع بين النوستالجيا والكوميديا اللذيذة في ذهابه نحو مناطق غير مأهولة في الدراما المصرية المحببة إلى القلب.
على مدار رحلته القصيرة في الفن، استطاع (أحمد أمين) أن يخلق في كل دور يلعبه حياة إنسانية كاملة بروح ينبغي أن تظهر كل النواحي الجسمانية والفعلية والعاطفية وهي تحيا حالة من التقارب مع روح المؤلف ولكي يتحقق هذا الهدف الجميل فإن عليه الغوص في النص لتحليله وتفكيكه ودراسته وسبر أغواره القضية.
لكنه هنا في (النص) لم يكن الممثل الذي يتحول إلى ناقل للنص فحسب، بل يبدو عليه أن يكون مساهما مع المؤلف والمخرج في خلق الشخصية بأسلوب فني إبداعي وديناميكي، وذلك بفضل اجتهاده وربما لأجل تحقيق هذا كان عليه أيضا أن يتدرب كل يوم على استنباط أغوار الشخصية والوصول إلى ما لم يتم الوصول إليه سابقا.
فضلا عن عمل (أحمد أمين) الدائم على خلق التكامل الفني للعرض المسرحي أو التلفزيوني عن طريق إدامة علاقته بالمؤلف والمخرج وبقية العناصر الفنية الأخرى، وهو ما يفعله هذا الكوميديان الذي برع في التجسيد التراجيدي في مسلسله الرمضاني السابق (جزيرة غمام).
على جناح أداء سلسل لشخصية (عبد العزيز النص) وضعه (أحمد أمين) في مكانة خاصة ترشحه لخوض أعمال أخرى تحمل في طياتها رسائل مبطنة بالمحبة والروح التواقة للنقاء وعدم الغلو في الأداء الانفعالي في سبيل انتزاع الضحك.

دراسة دواخل ذات الممثل
هناك علاقة ما بين الصور والأفكار أو الأشكال والمفاهيم بحركة التغير البنائي في المجتمع التي تنعكس نفسيا على أداء الممثل (أحمد أمين)، وتطورها يقود الى جعل الشكل الفني ومضمونه ذا أعماق اجتماعية.
معتمدا في هذا إلى أن دراسة دواخل ذات الممثل والانعكاسات النفسية لمجمل الظواهر الحياتية على أدائه من قبل مدارس علم النفس، وهذا بالضرورة يحيلنا إلى ضرورة التعرف على العوامل المؤثرة على هذا الأداء عبر حركة تلك الذات وتفاعلها مع محيطها الذي تعيش فيه.
والمتابع لتقنيات الأداء لدى (أحمد أمين)، يجد أن تلك الانعكاسات النفسية لمجمل ضواغط البيئة التي يعيش فيها، من خلال مخرجات هذه البيئة عبر إعادة دراسة ماهية كل دور يسند له، فهو يرتكز على تقنيات أدائه ما يوظفه من خزينه الانفعالي الحسي والعاطفي والمتكون من تجاربه الحياتية والتي لها انعكاسات نفسية على أدائه.
رغم أنه وغالبية الممثلين أمثال (أحمد أمين) لا يخضعون إلى عملية إعداد ممنهجة ومنظمة تتكون من نظام تمرين جسدي وصوتي لا وجود له في ظل غياب التقاليد المسرحية في عملية الإعداد تلك.
منذ الحلقة الأولى اكتسب (أحمد أمين) تعاطف الناس، رغم أنه يجسد شخصية (حرامي) عتيد في المهنة السرقة، يتمتع بخفة يد ورشاقة جسيدية محسوبة بالمسطرة، ليؤكد أن هناك علاقة ما بين الصور والأفكار أو الأشكال والمفاهيم بحركة التغير البنائي في المجتمع التي تنعكس نفسيا على أداء الممثل (أحمد أمين).
فالخزين الانفعالي لـ (أحمد أمين) مرتبط أساسا بالواقع المصري المؤلم اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وبالتالي فقد عمد إلى تثوير طاقته الجسدية والصوتية بأقصى حالاتها الأدائية، وأسعفته في ذلك الكاريزما الجسدية (القامة الطويلة) مع معرفة واعية باستخدام جميع أدواته في هذا المضمار.
علاوة على امتلاكه لحس المسؤولية والمثابرة الدؤوب في تنفيذ مجمل ما مطلوب منه أدائيا من قبل المخرجين الذين عمل معهم، لقد أبهرنا (أحمد أمين) في تجسيده لشخصية (الشيخ عرفات) في مسلسل (جزيرة غمام)، حينما أدى بكل تفرد لتلك الشخصية وتحديدا في مشاهده مع (العايقة) كمطابقة للواقع المصري القريب.

المادة الأساسية الملهمة
وها هو في (النص) يبدو أداءه هنا مبني وفقا للاستجابات المثيرة للانعكاسات النفسية والمحفورة في الجهاز العصبي عن طريق الخبرات السابقة التي مرت به كإنسان/ مواطن مصري/ جزء من المجتمع.
ومن ثم كانت تلك المشاهدات هى المادة الأساسية الملهمة لأدائه مرتبطة بأعمال الذهن والعواطف والانفعالات التي تظهر من خلال أدائهِ في هذا المسلسل الكوميدي المفعم بالشغف وتقلبات الحياة في الزمن الماضي، ذلك الذي جعله (أحمد أمين) جميلا في عيوننا في استدعاء مدهش لأجمل أيامنا المصرية.
ومن متابعتي الدقيقة لأعماله، أرى أنه لا تختلف الشخصية المضحكة (الكوميدية) عن الشخصيات الدرامية الأخرى من حيث أبعادها وصفاتها عند (أحمد أمين) إلا بشكل نسبي إذ أن لها بعدا عضويا وجسمانيا معينا وقد يكون فيه تشويه يثير الضحك (جروتسك)، ولها بعدا اجتماعيا ينتمي إلى طبقة اجتماعية معينة.
وكذلك لا يختلف (أحمد أمين) كممثل للأدوار المضحكة (الكوميدية) عن ممثل الأدوار الأخرى سواء في المسرح أم في السينما أم في التلفزيون سوى ما تتطلبه الشخصية الكوميدية من متغيرات في التعبير الجسماني والصوتي، وهنا تؤدي المبالغة والاصطناع والتشويهات دورها أحيانا في أدائه الكوميدي بقصد أثارة الضحك.
ومثلما يمتلك الممثل الكوميدي مرونة جسمانية وصوتية كافيه لتنفيذ المتغيرات المذكورة أعلاه فلابد للممثل التراجيدي أو الدرامي أن يمتلك مثل هذه المرونة أيضا.



صخر، والعيلي، وقهار
ربما تطلب الأمر من الممثل الكوميدي (أحمد أمين) أن يكون أكثر مرونة في مسلسل (النص)، لأن المتغيرات التي عليه أن يمر بها خلال مواقف متغيرة كثيرة وسريعة، والممثل الكوميدي يقدم جهدا استثنائيا في أداءه إلى الأدوار الكوميدية.
فحسبما يرى فرويد: (أن الممثل الذي يقدم لنا عرضا مسرحيا هزليا مقارنة مع أنفسنا، أنه يقدم جهدا كبيرا من خلال وظائف الجسم، وأن هذا الجهد يجعلنا متمتعين ومسرورين)، وهذا هو التفوق الذي يشعر به الممثل الكوميدي (أحمد أمين) سواء في أعماله الدرامية أو برامجه الهزيلة التي بدأ بها حياته الفنية قبل سنوات قليلة، ونجح فيها نجاحا باهرا.
ساهم إلى حد كبير في تفوق (أحمد أمين) في مسلسل (النص) حتى الآن وجود ممثلين متمكنين من أدواتهم (صدقي صخر، حمزة العيلي، باسم قهار، عبد الرحمن محمد) الذين أبدوا أداءا فائق الجودة على مستوى الحركة والإيماءة والذهاب إلى مناطق دافئة في الكوميديا التى تفجر الضحك من القلب بحسب (فلوستاف) ذلك الضاحك الباكي.
ظني أن ممثلين آخرين سيضيفون كثيرا إلى لوحة الأداء الكوميدي الخالي من شوائب السذاجة والتفاهة وتعمد الهزل، مثل الموهوبة بشدة (أسماء أبو اليزيد)، وغيرها من باقي طاقم العمل، وعلى أغلب الظن سيكون مسلسل (النص) مغايرا لغالبية الأعمال الكوميدية التي سادت شاشاتنا طوال السنوات العشر الأخيرة حيث سجلت فشلا زريعا في جلب المتعة الحقيقية.