بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
انتهت أيام الدورة الخامسة عشر لمهرجان (المسرح) العربى والتي عقدت في مدينة مسقط عاصمة سلطنة عمان، وقد أثارت عروضها في خاطرى سؤالا أساسيا: (المسرح) لمن؟
فعلى الرغم من الزحام الذى كان في معظم عروض المهرجان، إلا انسحاب بعض المشاهدين من بعض العروض أو تعليقات البعض عليها – بما فيهم زملاء مشاركون بالمهرجان – جعل السؤال يتردد بداخلى وبقوة: لمن نقدم مسرحنا، وهل نعرف جمهورنا؟
من المعروف والمتفق عليه أنه لا مسرح بلا جمهور، فهو أحد أضلاع العملية المسرحية، دونه يفقد (المسرح) معناه، ففي أحد التعريفات للمسرح قال المخرج والمنظر البريطانى الشهير (بيتر برووك) أن العرض المسرحى عبارة عن (مساحة يتحرك فيها شخص و يراقبه شخص آخر).
وكثير من أساطين الإخراج اهتموا بالمتفرج حتى أضافه المخرج والمنظر الروسى (فيسفولد مايرهولد) الى أطراف العملية المسرحية لتتحول من مثلث أطرافه النص والمخرج والممثل ليضعه عنصرا فاعلا وأساسيا ويجعله في نفس الأهمية، وعلى خط واحد مع العناصر الثلاث السابقة، ولكن يظل السؤال: أي جمهور؟
هل نقدم (المسرح) لمجموعة منتقاة من المثقفين والمسرحيين فقط، نتبادل فيما بيننا الأدوار بين مؤدى ومتفرج؟، أم المسرح لكافة الجماهير، العلماء والعمال، الموظفين وأصحاب الأعمال؟
بمعنى آخر: هل نقدم (المسرح) للنخبة أم للجماهير العريضة؟ وهل نشاطنا المسرحى في المهرجانات ممكن ان يتجاوب معه الجمهور العادى؟، وكيف يتجاوب وقد أهملنا (الحدوتة)؟، وضربنا عرض الحائط بالبناء الدرامى أيا ما كان شكله و مسماه (بناء هرمى أو دائرى ؟!).
وتحولت عروض كثيرة إلى مجرد (منولوجات) متقاطعة أو متوازية لا تنتمى لسياق محدد أو مفهوم!
الشكل على حساب المضمون
وماهذا الاهتمام المبالغ فيه بالشكل على حساب المضمون؟، وعدم وجود وحدة عضوية بين الاثنين، فتستطيع أن تضع مضمون هذا في شكل ذاك دون أن يختلف الأمر أو تحس بالفرق؟
وبالمناسبة أتذكر أن مؤلفا عربيا شكى لى أن بعض المخرجين أصبح يصمم شكلا (أو ربما نقله من النت)، ويطلب من المؤلف أن يكتب له عرضا يقدمه على هذا الشكل!!
إن بعض عروض اليوم – في معظم المهرجانات العربية – تغرق في ظلام دامس حتى انك بالكاد ترى وجوه الممثلين، بسبب إعتام الإضاءة المتعمد والإسراف في استخدام (الدخان) بلا هدف أو سبب.
ولن تجد ضرورة درامية لتلك الرقصات أو التشكيلات، بل هى مقحمة وزائدة ومتزيدة، وفي النهاية لابد أن تسأل نفسك: لمن تتوجه تلك العروض المغرقة في الغموض و التعالى والتي تتطلب متفرجا خاصا جدا؟، و لماذا الإصرار على التوجه ناحية التجارب الغربية الغريبة على مجتمعاتنا؟
سيقول البعض من أجل مسايرة التقدم، وتلك إجابة خاطئة، لعدة أسباب أولها أن ما ينتجه الغرب من مسرح قائم على فلسفات نبعت من ظروف تاريخية معينة ، أثرت في مجتمعاتها فترجمها المسرح في عروضه.
فعلى سبيل المثال لا الحصر غالبية المدارس المسرحية التي تنفى اللغة وتعتبرها فقدت قدرتها على أن تكون وسيلة للتواصل (كمسرح العبث مثلا) نبعت من انهيار التفاهم الأوربي بعد الحرب العالمية الأولى، لتدخل بعدها بسنوات قلائل حربا عالمية ثانية تقضى على أكثر من 60 مليون انسان.
فهل نستطيع نحن تبنى هذه الفلسفة دون خوض ظروف تحتم علينا الإيمان بها أو السير في مسارها، فنحن في عالمنا العربى أبناء لسوق عكاظ ثقافيا: حياتنا ومجتمعاتنا قائمة على التواصل اللغوي.
و تكتسب فيه اللغة ما يشبه حالة (القداسة) منذ أن نزل القرآن، الذى يوصف بأنه إعجاز لغوى وبلاغى، حتى أن الله تحدى المشركين أن يأتوا بسورة من مثله!، فهل نفي اللغة واعتبارها فقدت وظيفتها كأداة تواصل ملائم لنا؟
مثال آخر عن التقليد الأعمى: هل يعرف المستخدمون بكثرة للدخان أن المقصود منه إظهار جماليات معينة في فن الإضاءة وليس إصابة المتفرج بالربو أو حساسية العين و ضيق التنفس؟
طرق استخدام مختلفة للدخان
وأن هذه (الدخان) له أنواع متعددة و طرق استخدام مختلفة؟، ولا يجوز إطلاقه (عاطل على باطل)، وكأننا فرحنا بوجوده فأسرفنا في استخدامه دون أن نسأل أنفسنا: لماذا نستخدمه، وما المفيد من استخدامه، وأي الأنواع نستخدم؟، أم أن تعلقنا بالتقليد أفقدنا الوعى؟
ثانى الأسباب نذكرها للمنبهرين بالنموذج الغربى في (المسرح) أن معظم الاتجاهات الحديثة في الإخراج (على سبيل المثال : بيتر برووك – اريان منوشكين – جروتفسكى .. إلخ) أخذت من المسرح الشرقى وطورت منه اشكالا مسرحية كان هدفها أن تقترب أكثر من الجمهور لا أن تبتعد أكثر عنه و تقصيه عمدا.
ثم تشكو بعد ذلك انصرافه عنها متهمة إياه بالقصور و عدم الفهم و ربما التخلف ناسين أن من واجبهم أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم دون إسفاف أو تدنى أو ابتذال.
يدعى البعض أن الهيئة العربية للمسرح تشجع وتحبذ أمثال هذه العروض للمشاركة في مهرجانها؟، و لكن جاءت كلمة الأمين العام للهيئة، الكاتب الكبير إسماعيل عبد الله في حفل الافتتاح لتنفى هذا الادعاء.
فلقد قدم في كلمة بليغة وبالغة الوضوح الدعوة للجميع بألا نخون السيد النبيل المسرح قائلا : أن نخلص له حتى يكون للناس جميعا – كما كان وكما ينبغي أن يكون – كسرة معرفة تطفئ جوع العقول و شربة فرح تروى ظمأ النفوس.
ونغمة تضبط إيقاع حركتهم و نورا يعبر الجدران التي باتت تحيط بالإنسان، فما معنى المسرح إن لم يكن كذلك ؟ و ما معناه إن انسلخ عن جلدته؟
ثم يضيف: أي مسرح هذا الذى نريد؟، أي مسرح يجب أن نعطى و نبدع لنكون رسلا و حملة رسائل؟، ويجيب بنفسه على التساؤل: الناس تحب أن ترى صورتها في صورتكم فهل من المجدى أن نبحث عن صورتنا في مرايا الآخرين؟
قد نجد في بعضها ما يشبهنا لابأس من التفاعل معه، أما أن نحاول التفاعل مع ما يناقض ملامحنا، و تكويننا وجيناتنا الحضارية فإن الإغتراب بمعناه المؤلم نتاج مؤكد.
تأكدت أن هذا ليس رأيه وحده – و لا رأى أنا فقط – عندما سعدت بالمشاركة في إحدى حلقات الاستوديو التحليلى الذى تبثه الهيئة اثناء المهرجان، وكانت حول المسرح العربى (الكائن، الممكن، المنتظر مسرحيا).
والتي ادارتها المذيعة المصرية القديرة غادة كمال، وصاحبت فيها الناقد الدكتور احمد بلخيرى من المغرب، والمخرج الدكتور حيدر منعثر من العراق.
فإذا بثلاثتنا – برغم اختلاف الأقطار – نتفق على أن (المسرح) للناس ولا نملك في مجتمعاتنا العربية بكل ظروفها والتحديات التى تواجهها رفاهية أن يصبح مسرحها للخاصة والنخبة، وأن يبتعد عن المستهدف الحقيقى.
بل زاد الدكتور منعثر بأن طالب الهيئة العربية للمسرح بعقد دورة للمسرح الشعبى (وأظنه يقصد الجماهيرى بتعبير أهل مصر).
وفي النهاية ضممنا صوتنا الى صوت (إسماعيل عبد الله): مسارحنا بلا طعم بلا لون بلا صوت إذا لم تحمل المصباح من بيت الى بيت.
وللحديث بقية..