رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

كمال زغلول يكتب: تدريب الممثل في  (المسرح) المصري القديم (6)

بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول

يعتقد البعض أن الجمهور مجرد مشاهد للعرض المسرحي، ولهذا يصبح عرض (المسرح) مجرد مشاهدة تقبل الاستحسان أو الرفض، وهذه النوعية من العروض قيمتها الجمالية بالنسبة للجمهور، مجرد متعة جمالية عابرة في حالة الاستحسان، أما في حالة الرفض تصبح بلا قيمة ويتم غلقها ونسيانها.

ولهذا لا ينتبه صناع (المسرح) إلى مشاركة الجمهور في العرض المسرحي، مشاركة حقيقية، وليست مشاركة بكسر الحاجز الرابع، أو مشاركة بالتعبير عن الاستحسان بالتصفيق والصراخ والضحكات، ولكن المشاركة الحقيقية للجمهور تكون من خلال الوجدان الجمعي، الذي يجمع الجمهور بالممثلين.

ويعتمد الممثلون في  تمثيليهم على الرؤي الذهنية للجمهور، والتي تحقق الهدف المنشود من العرض التمثيلي، ونتعرف على هذه الطريقة من خلال واحد من النصوص المسرحية المصرية القديمة، وهذا النص يصور احتلال الفرس لمصر القديمة، وما فعلوه من خراب.

وبداية هذا النص في (المسرح) يقوم به ممثل فرد، ويقوم الممثل بالتمثيل التصوري للأماكن والأحداث اللذان حدثا على أرض مصر من الفرس الغزاة، وفي هذه الطريقة يتم تدريب الممثل على مستويين الأول بصري، وهذا التدريب أن يكون شاهد مكان الأحداث والمباني والأرض وشعر بها وتم تخزينها في ذاكرته.

وإن كان لم يعاصر الأحداث فعليه تخيلها تخيل يقترب من واقعها الماضي، أما المستوى الثاني يكون خاص بصوت الممثل واستخدام الطبقات الصوتية المغلفة بالمشاعر المتعلقة بهذه الأحداث.

وهذان المستويان من التدريبات في (المسرح)، تعمل على إثارة الوجدان النفسي للجمهور، ويشارك في العمل مشاركة حسية ذهنية شعورية، ويلتحم مع الممثل ويبدأ في تخيل الأحداث.

ويتم الاستغناء في هذه الطريقة عن المناظر المسرحية التي تحوى الزمان والمكان، لأن هذه المشاهد منطبعة في ذهن الجمهور (الذاكرة) من مكان وأحداث ونضرب بعض الأمثلة على ذلك:

يستهل الممثل بشخصية (ست) للدلالة على الفرس الغزاة

بداية استهلالية

لقد ارتكب الجرم ، وعاد إلى الشر.

وأيقظ الفتن من جديد.

والقى بالكوارث في الهيكل الأكبر لمنف.

وأشاع التمرد في منف.

يستهل الممثل بشخصية (ست) للدلالة على الفرس الغزاة ، ويحيى في وجدان الجمهور، ما فعله ست بالشعب، وكان الفرس مثله في أفعاله، وفي هذا المشهد يعود الجمهور بذاكرته لأحداث الصراع بين أوزيريس وست، ثم يشاهد هذا الصراع على ملك مصر بين الفرس وحورس وريث أوزيريس، والمسترد لملك مصر.

والمنظر المسرحي هنا لمدينة منف، والهيكل الأكبر الخاص بها، وبالطبع لن يتم عمل منظر مسرحي للمدينة، ولكن يتم الاعتماد على ذاكرة الجمهور في ظهور هذه المدينة في خيالة، وتخيل الكوارث التي فعلها الفرس في هذه المدينة، وبهذا ألغي منظر (المسرح)، وأصبح في ذهن الجمهور، وأصبح الجمهور مشارك في العرض ويلعب دورا مع الممثل.

خط سير الفرس داخل المدينة

لقد نفذ إلى السرابيوم في منف

وأنزل الكارثة بمعبد أويت

لقد قطع شجرة ساؤزيس المقدسة

واصطاد سمك البحيرة الكبرى

اقتنص الحيوانات والقى الشباك على الطير

في معبد ذلك الذي يسود الدور

وفي هذا المشهد: نلاحظ أن المؤلف استخدم الكلمات التصويرية للحدث ، وعلى الممثل استعادة تلك الاأماكن في خياله واستخدام  التعبير الصوتي المصور لهذه الكلمات، حتى يثير الخيال المخزن عن هذه الأماكن والأحداث الواقعة فيها عند الجمهور.

ويصبح الجمهور مشاهد بخياله في هذا المشهد (الذي يحوي جيش الفرس، وقطع الأشجار والصيد من قبل جنود الفرس.. إلخ)، ويتم الاستغناء بهذه الطريقة عن ظهر مجاميع تمثل جيش الفرس، ولا داعي لظهورهم وهم في حالة الصيد، فكل هذا يتم من خلال ذهن المشاهد، وكأن ذهنه هو المسرح الحقيقي للأحداث.

في هذا المقطع يدخل الممثل بالجمهور في إلي شاطئ تيس

الأماكن الطبيعية.. ومشاركة الجمهور الحسية

مشى بخطى واسعة في حت – وعرت

وتردد صدى صوته في مجلس التاسوع الإلهي

أثار الحرب وأشاع الفتنة

عند آلهة منسوت

وعاد يرتكب إثما كبيرا

على شواطئ تيس

في هذا المقطع يدخل الممثل بالجمهور في إلي شاطئ تيس، ولا داعي لاستخدام المنظر، كما سبق القول، وهذا لأن الجمهور شاهد هذا الشاطئ، ومطبوع في مخيلته.

هذا المشهد يقوم الممثل بالتأثير الوجداني في جمهور(المسرح)

التأثير الوجداني على الجمهور

أحدث الاضراب فى بوزيريس

فعم الحزن مدينة منديس وإقليمها

لقد احتل سرابيوم منديس

ورفع صوته داخل جدرانه

وحمل الشجرة المقدسة لسايس مدينة الإلهة نيت

وأفسد حلى المعبد

وأثار الفتن في الجبانة

وحث على القتل في مدينة خرى محا

لقد أدخل ما يبغضه آتوم

في معبد التاسوع الإلهي

أثار الحرب وبث الفتن

في معبد أمون الأكبر فى الجبانة

لقد عمد إلى الحرب وخلق المنازعات

في معبد روح الشرق

قصد صفط الحنة وعبر إقليم شنن

وخرب شجرة النبق المقدسة التى تمثل خضرتها رخاء البلاد

احتل غيضة ساؤريس المقدسة

حيث يكثر شدر السنط الذى فيه الموت والحياة معا

لقد شاء أن يأكل من لحم القط المقدس

أمام أمه باسنت

هذا المشهد يقوم الممثل بالتأثير الوجداني في جمهور(المسرح)، بحيث يستفز مشاعره تجاه ما فعله الفرس في أرض مصر، وما فعله بمعتقداته المقدسة ، وبالطبع المشهد ملئ بمعتقدات تخص الجمهور المصري، مما ينعكس أثرة في نفسه.

وكأنه يري بخياله مشهد أكل لحم القط، وأم القط متأثرة بهذا الحدث الفظيع (الأم ترى ابنها يؤكل)، وكان القط له اعتقاد عند المصري القديم، وبالطبع لا تقدم هذه الصورة على (المسرح)، واكتفي بها في خيال الجمهور.

ولن نطيل في ضرب أمثلة أكثر من هذه المسرحية، لأن كل أحداثها، بهذه الطريقة التمثيلية، وبهذه نرى من تلك الطريقة الجمعية بين الممثلين والجمهور، كيفية المشاركة في العرض المسرحي.

وهى من الطرق الصعبة في فن التمثيل، وبهذا نكون تعرفنا على كيفية التدريب على هذه الطريقة، والكيفية التي تمثل بها العروض الخاصة بهذه الطريقة، وفي عالمنا المعاصر، سوف نجد أن أكثر المسرحيات نجاحا هي المسرحيات التي ترتبط  بمخيلة الجمهور الوجدانية.

ومنها حكايات الف ليلة ، بشخوصها وأماكنها، وعند عرض تلك المسرحيات ، سوف نلاحظ الإقبال الجماهيري عليها (حتى لو أن مناظرها المسرحية ، وإضاءتها.. غير مثيرة للجمهور)، إلا أن حسية تلك المناظر في ذاكرته، ويستمتع بالعمل في رؤية الشخوص المخزنة في وجدانه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.