رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

كمال زغلول يكتب: تدريب الممثل (العنصر النسائي) ممثلا في (إيزيس).. (4)

تتمايز بالعطاء، والصبر، والجلد، وهذه الشخصية من الشخصيات الوجدانية في ذاكرة الجمهور

بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول

إذا ما عندنا إلى ما وصل إلينا من برديات ، سنجد أن (العنصر النسائي) في المسرح المصري القديم، يختار وفق مواصفات خاصة ، وقد ورد ذلك في (بردية برلين – رقم 1425) تختار امرأتين ممشوقتي القد، وتجلسان على الأرض قدام البوابة الأولى للقاعة الواسعة.

ويُكتَب على منكب إحداهما (إيزيس): وعلى منكب الأخرى (نفتيس)، ويوضع في اليد اليمنى لكلتيهما إبريق من القشاني قد مُلِئَ بالماء ، كما يوضع في اليد اليسرى لكلتيهما (أرغفة) خبز منف.

وهذا دال على الاختيار الشكلي (المادي) للممثلة التي سوف تقوم بدور (إيزيس)، والممثلة الأخرى التي سوف تقوم بدور (نفتيس)، ومن الواضح أن الاختيار يجب أن  يكون ذو مقاييس جمالية في (العنصر النسائي) خاصة بالممثلتين.

ولكن كيف يحتوي هذا الشكل المادي للممثلتين على المشاعر الوجدانية للشخصيتين؟، بمعني طريقة التمثيل الخاصة بالمرأة في المسرح المصري القديم، ونركز هنا على شخصية (إيزيس): (بطلة المسرح المصري)، وهى شخصية احتوائية في نظر جمهور المسرح.

وتتمايز بالعطاء، والصبر، والجلد، وهذه الشخصية من الشخصيات الوجدانية في ذاكرة الجمهور، لذلك تعتمد الممثلة في التدريب على هذه الشخصية على استحضار مشاعرها الداخلية عبر وجدانها، لتلتحم بالشعبية الوجدانية للجمهور، ويمكن أن نطلق على تلك الطريقة التمثيلية (المشاعر المتولدة).

عندما قتل أوزيريس (نجد مشهد حمل جثمانه، وفي المقدمة لإيزيس تبكي وتنتحب، وفي الخلف نفتيس تبكي)

أمثلة لشرح هذه الطريقة

ونبدأ بضرب الأمثلة لشرح هذه الطريقة، من خلال مقتطفات من النصوص:

الفجيعة:

عندما قتل أوزيريس (نجد مشهد حمل جثمانه، وفي المقدمة لإيزيس تبكي وتنتحب، وفي الخلف نفتيس تبكي).. هذا المشهد التمثيلي صامت، يعبر عن فقدانها لحبيبها وزوجها ملك مصر (إيزيس)، وكأي امرأة، تخرج مشاعرها الداخلية في مثل تلك المواقف.

بعد الحمل: التشكيك في الحمل 

المرأة: ولكن كيف تعلمين أن ذلك الذى سوف تضعينه في داخل البيضة هو من أجل الإله السيد ووريث آلهة العناصر.

(إيزيس): أنا (إيزيس) أكثر الآلهة شهرة وقداسة، إن الإله الذى بين أحشائي هو غرس أوزيريس.

نجد أن هذا المشهد في طريقة تمثيلة، من توابع المشاهد السابقة لحياة (إيزيس) مع أوزيريس ، وحملها منه بعد وفاته ، ونلاحظ أن المرأة التي تشكك في الحمل لا تبالي بما حدث لإيزيس ، وهذا يمثل صدمة نفسية داخلية للممثلة التي سوف تقوم بالدور.

ولكن الشخصية صبورة، ومتماسكة، فتتولد مشاعرها الداخلية بكلمات تنم عن ثقتها بنفسها، وتشرح للمرأة من هى.

الأمومة الطاغية: لدغ حورس

بعد أن قام (ست) بنفي (إيزيس) في الجزيرة عانت كثيرا حتى الوضع ، كما ذكرنا في مقالتنا السابقة، ونركز على التوليد الشعوري الداخلي للأم :

ها هو ذا حور قد لدغ ، ابنك حور يا راع قد لدغ، لدغ حور، لدغ حور وإرث وريثك الذى على مملكة شو، لدغ حور فتى خميس، الفتى المقدس لقصر الأمير، لدغ حور الرضيع الذهبي، الطفل الذى فقد أباه وهو فى المهد، لدغ حور الذى كان قلقا في المخبأ والذي كان يخاف منذ كان في بطن أمه، ما أشد لهفتي لأن أراه حيا، أنعم به من صديق ذاك الذى يرد إليه الحياة.

ومن هذا المشهد نلاحظ التدرج في المشاعر المتولدة من الشخصية (مرحلة زواجها، قتل زوجها، نفيها، الابن أملها في الحياة لدغ من العقرب)، وقد ساعدها المؤلف في دقته التأليفية لإظهار وتوليد هذه المشاعر.

عندما ذهب (حورس) لملاقاة ست، كانت تتبعه (إيزيس) وتحفزه

معركة حورس وست

عندما ذهب (حورس) لملاقاة ست، كانت تتبعه (إيزيس) وتحفزه، ونجد مشاعرها تتجه لتقديم نذر في حالة انتصار حورس (كأي أم حينما تتجه بالنذر) وتولد مشاعرها وتتأجج في هذا المشهد.

(إيزيس): لقد نذرت ثوبا لإلهة المراعي             

وإلى ربات الصيد: تابت وشدت وسوتيس وجايت..

ثبت رجليك ضد هذا الفرس النهري، واقبض عليه بيدك..

وإن كنت قد أصبحت تابعا فلسوف تقضى على هذا الأذى..

وتسئ معاملة الذى أساء معاملتك..

أي حور ولداه..

فلتمضي على الشاطئ في يسر دون أن توقفك عقبات.

وهكذا تتدرج الممثلة في توليد المشاعر الداخلية لشخصية (إيزيس)، ولشرح تلك الطريقة (المشاعر المتولدة)، نعود إلي شعبية هذه الشخصية في الوجدان المصري القديم.

وسوف نلاحظ أن ممثلة هذه الشخصية تستمد مشاعرها الداخلية من مصدرين أثناء التدريب، والمصدر الأول هي مدركتها الحسية والشعورية كمرأة (تتزوج وتنجب ولها عاطفة الأمومة).

المصدر الثاني يكون الجمهور المشاهد لهذه الشخصية (وهذا راجع لمعرفة الجمهور وتأثره الشديد بتلك الشخصية)، وهنا تحتاج الممثلة خبرة حسية (من الجمهور)، وتعود إلى :

أولاً: الإدراكات الحسية لدى الشعب: إذ أن لكل شعب من الشعوب إدراكه الحسي، الذي يميزه بطابعه المختلف عن غيره، وهذا الحس المدرك، هو نتاج  التجربة الحسية للشعب الواحد، والحس مرتبط بالنفس البشرية.

ويعرف هذا الحس من خلال علم النفس بأن (الإحساس وظيفة أو ظاهرة نفسية إدراكية تحدث نتيجة انفعال يقع على الحس من المحسوسات الخارجية)، ولهذا الشكل المادي للشخصية مهم جدا في الاختيار، كما سبق وقدمته البردية سابقة الذكر، إذ هو أول المحسوسات بالنسبة للجمهور، ولابد أن ينفعل الجمهور بصريا بمن تمثل هذه الشخصية.

المدرك الذهني للشعب

من الواضح أن للجمهور معرفة ذهنية (خيالية، تخيلية) عن (إيزيس)، ولهذا تستمد الممثلة تدريبها من تلك التخيلات والأفكار.

الإدراك الشعوري للشعب 

والشعور يمثل درجة من درجات استعادة ما يشكل لنا درجات من المتعة الحسية، والشعور الشعبي متدرج في البعد أو القرب من مؤثراته الجمالية، فهو نسبي بين التذكر والنسيان وهو ملازم للإحساس، والجمهور يحب أن يتذكر مشاعر (إيزيس)، والتي أدت إلى استعاده ملك مصر، من (ست).

ومما سبق نلاحظ أن المرأة الممثلة في المسرح المصري القديم تعتمد على توليد مشاعرها الداخلية (خاصة نموذج إيزيس) ، وهى طريقة صعبة التدريب ، ولا نعرف من هي الممثلة التي أدت دور (إيزيس)، لكي نرى تلك الطريقة، ولكن في عصرنا الحديث، كانت الممثلة الجميلة (سعاد حسني)، تمثل بتلك الطريقة.

ونرى تلك الطريقة في التمثيل في فيلم (الزوجة الثانية)، وكيفية التدرج في توليد مشاعرها إلى نهاية الفيلم (فقد كانت جميع مشاعرها منطبعة على جسدها في أداء متدرج حسي)، كذلك دورها في فيلم (الراعي والنساء)، وبهذا نري أن طريقة توليد المشاعر الداخلية، قد عرفتها مصر القديمة والحديثة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.