بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله
في أزقة القاهرة حيث يمتزج صخب الحياة برائحة الزمن، وحيث الأفراح الشعبية تكاد تنفجر كقنابل من النغم والضحكات، كانت (نورا حمص) رقصة عابرة في سماء المدينة، ضوءًا خاطفًا يترك في الروح أثرًا لا يمحى في أفراح ليل القاهرة الساحر.
(نورا حمص).. هى ابنة الثنائي الأسطوري (حمص وحلاوة) قصة الحب والفن التي حوّلتها القاهرة إلى أيقونة تتنقل بين الأزقة والبيوت كما جاء فيلم (سمع هس) بطولة النجمة ليلى علوي وممدوح عبد العليم.
على وقع الطبلة، وسط دوامات الدفوف، نسج (حمص وحلاوة) أسطورة خالدة ألهمت الكبار، حتى باتت حكايتهم مادة سينمائية في فيلم (سمع هُس)، الذي أخرجه الكبير شريف عرفة، ورسم بطلاه، ممدوح عبد العليم وليلى علوي، ملامح الحب الشعبي كما لو كان أغنية تنبض بالحياة.
(نورا حمص).. لم تكن مجرد ابنة لهذين العملاقين، بل كانت امتدادًا لهما، نسمة تحمل عبيرهما وصوتًا يحمل عمق حكاياتهما التي تحدث بها شوراع القاهرة بدفئها شتائها وصيفها المفعم بنسمات باردة.
ورثت (نورا حمص) عن أبيها حنكة اللحن وعن أمها رشاقة الخطوة، وعن كليهما قلبًا كبيرًا يتسع للجميع، وروحًا تتراقص على إيقاعات الفرح والحزن في عفوية وفطرية تناسب أجواء زمن الفن الجميل.
منذ طفولتها، كانت (نورا حمص) كأنها قطعة موسيقية، لا تكف عن الحركة والبحث عن اللحن الذي يشبهها وهى تقدم استعراضاتها الشعبية الغارقة في المتعة الرقصة على إيقاع لحن جميل.
حين رحل (حمص وحلاوة) كان رحيلهما أشبه بصمت مفاجئ في قلب أغنية صاخبة،
لكن (نورا حمص) رفضت أن تدع هذا الصمت يسود طويلا، وقررت أن تُبقي اللحن حيًّا بطريقتها الخاصة في فن الرقص الشعبي.
قطعة من الماضي
كونت فرقة، لكنها لم تكن فرقة عادية، كل راقصة في فرقتها كانت قطعة من الماضي الجميل تُعيد صياغته في الحاضر الحي بنبض الحياة.. كانت فرقتها أشبه بمسرح متحرك، يعرض للجميع جماليات الزمن الجميل في كل زقاق وكل ليلة.
ورغم أن (نورا حمص) قررت أن تبتعد عن الرقص بأقدامها، إلا أنها واصلت الرقص بصوتها الذي يحمل قدرا منا الشجن، كان صوتها أشبه بوتر كمان قديم، يحمل دفء الحنين ورائحة الحكايات.
حين تغني، كانت القاهرة بأسرها تصمت لتسمعها، خاصة عندما تشدو بأغانيها المميزة مثل (اللي باعك بيعه، وأنا مش راح أنسى الحب).. هذه الأغاني للمطربة الشعبية (شفيقة)، ولكن بصوت (نورا حمص).
تُشعل الفرح الشعبي
تُشعل الفرح الشعبي لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل كانت شرارات تُشعل الفرح الشعبي في القلوب وتدفع الأقدام للرقص بلا توقف في ليل مفعم بالمتعة.
في كل حفل، كانت (نورا حمص)، تخلق عالمًا خاصًا.. كانت بفستانها البسيط، وعينيها العميقتين، تجسيدًا لروح الحبيبة والفنانة التي تجتمع في شخص واحد.
كان صوتها يسافر عبر الحشود، يلامس أرواحهم كأنها تغني لكل فرد على حدة، ومعها عازف الأوكورديون الشهير (أبو عزة)، يقود الجوقة، يضبط الإيقاع كما يحلو لنورا.
وكان نبّاطشي الفرقة (العسلي) يذكر أسماء الحاضرين ومهنة ومنطقة كل واحدًا منهم، كأنه يسجلهم في دفتر من الفرح في توثيق للذكريات الجميلة.
كانت (نورا حمص) تعرف كيف تصنع من كل حفلة ذكرى لا تُنسى ببصمتها الخاصة،
رسالة حب جماعية
فلم تكن تغني فقط، بل كانت تحكي الحكايات، تذكر أسماء الناس: (الحاج مجدي عفيفى، الأسطى حبيب وطنى، الحاج علي الجدع).. كانت تعرفهم كما تعرف قلبها، تغني لهم وكأنها تكتب رسالة حب جماعية.
ومع بزوغ الألفية الجديدة، بدأت (نورا حمص) تشعر بأن الوقت قد حان لرقصة وداع أخيرة.. لم يكن قرارها بالاعتزال سهلاً، لكنه كان مثل كل شيء فعلته، مليئًا بالجمال.
في ليلة أخيرة، على أنغام (آخر حلاوة) رقصت نورا بصمت، كأنها تمسح دموع الأزقة بأطراف فستانها.
تركت (نورا حمص) خلفها إرثًا من الفرح والحكايات، لكنها لم تتركه على شكل أغانٍ فقط، بل عبر استعرضات فاتنة.
تركته في القلوب التي لم تكف عن الرقص على ذكراها، في الأزقة التي لا تزال تحمل صدى خطواتها، وفي الحكايات التي لا تزال تُروى في كل ليلة فرح.
كانت (نورا حمص) رقصة عابرة، لكنها رقصة لا تُنسى.. كانت أغنية لم تُغنَّ بعد، لكنها تُسمع في كل شيء.. ومع اعتزالها، لم تطفئ الأنوار، بل تركتها مشتعلة لتضيء ذاكرة مدينة لا تنام من فرط روعتها.