بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في تاريخ السينما المصرية، يظل اسم (محمد كمال المصري)، المعروف باسم (شرفنطح)، بارزًا كواحد من أعظم الممثلين الذين أثروا في عالم الكوميديا.
وُلد في عام 1886 بحارة (مامس) بشارع محمد علي الشهير، وعُرف بشخصيته الفريدة (شرفنطح) التي مزجت بين الفطنة والسخرية، مما جعله رمزًا للشخصيات الماكرة الكوميدية في زمنه.
على الرغم من عدم كونه نجمًا رئيسيًا، إلا أن إسهاماته كانت معززة بقدراته التمثيلية الفائقة، وهو ما جعله شخصية محورية في العديد من الأفلام الكلاسيكية.
طاقة هائلة خلف وجه ماكر
وجه (شرفنطح) المميز، والذي عُرف بتعابيره الحادة ونظراته المخادعة، لم يكن مجرد قناع يعتليه فنان، بل كان تجسيدًا لتفاصيل الحياة اليومية التي عاشها المصريون.
كان يملك قدرة فريدة على تجسيد الشخصيات التي تحمل هموم الناس وتخاطب واقعهم بشكل يتجاوز مجرد الإضحاك.
استعرض (شرفنطح) بمهارة مشاعر الضيق والسخرية، الأمر الذي جعله محط إعجاب الجماهير والنقاد على حد سواء.
في بداية حياته، هرب (شرفنطح) من القاهرة إلى الإسكندرية بسبب معارضة والده الذي كان مدرسًا بالأزهر الشريف.
في الإسكندرية، التحق بفرقة منولوجيست شهير، وهناك حدثت مفارقة لافتة، إذ استعان به (سيد درويش) كمطرب في فرقته، على الرغم من أن سيد درويش كان من مجددي الموسيقى العربية، إلا أن (شرفنطح)، بموهبته الفطرية وروحه الساخرة، استطاع جذب درويش وإقناعه بقدرته في الأداء.
وبعد توقف الفرقة نتيجة ثورة 1919، عاد (شرفنطح) إلى القاهرة، وبدأ يتدرج في العمل بالمسرح والسينما.
عند عودته، توسط أحد الأصدقاء ليقابله بنجيب الريحاني، الذي رفضه في البداية بشدة.
لكن التحدي الذي ولد داخل (شرفنطح) دفعه لتأسيس فرقته الخاصة واختيار اسم (شرفنطح) لمسرحيته الجديدة، لينافس بها شخصية (كشكش بك) التى كان يقدمها نجيب الريحان على مسرحه و التي حققت نجاحًا لافتًا في مكان قريب من مسرح الريحاني نفسه.
هذا النجاح جعل الريحاني يستدعي (شرفنطح) لاحقًا ليصبح جزءًا من فرقته، وبهذا انطلقا ليقدما معًا ثنائيًا فريدًا يحمل مزيجًا مدهشًا من الكوميديا الشعبية والنقد الاجتماعي.
أهم أفلامه وشخصياته الكوميدية
قدّم (شرفنطح) حوالي أربعين فيلمًا، ومن بين هذه الأعمال، تبرز مشاركته في فيلم (سلامة في خير)، الذي يعتبر من أشهر أفلامه.
في هذا الفيلم، أظهر (شرفنطح) قدرته الفائقة على التفاعل مع نجيب الريحاني، حيث لعب دور الجار الذي يتسبب في الكثير من المتاعب لسلامة، الشخصية التي جسّدها الريحاني.
تدور أحداث الفيلم حول علاقة الجوار المتوترة بين سلامة (نجيب الريحاني) وبيومي أفندي مرجان (محمد كمال المصرى)، الذي يعيش في الطابق العلوى فوق سلامة.
تشتعل الأحداث بسبب إزعاج (بيومى أفندى) لسلامة، الأمر الذي يتسبب في مشاجرات كوميدية تتصاعد مع تقدم القصة.
وفي لحظة محورية، يتحول سلامة إلى أمير، مما يفتح المجال لعرض حوار كوميدي مُبدع يجسد طبيعة الشخصيات.
فيلم (سلامة في خير)
في أحد المشاهد البارزة، يدخل نجيب الريحاني (سلامة) أحد الفصول الدراسية، ليكتشف أن المدرس هو( بيومى أفندى مرجان) ، والذي يقدم دروسه بطريقة فكاهية وساخرة.
يدور بين الشخصيتين حوار كوميدي مفعم بالنكات، حيث يقوم التلاميذ بالقاء قصيدة من تأليف بيومى أفندى نفسه.
تتعالى الضحكات، ويتفاعل الجمهور مع هذا المشهد الذي يعكس براعة محمد كمال المصرى في استخدام اللغة وتوظيفها بشكل فكاهي وحصوصا بعد ان ختمها التلاميذ عبد الله (صفا الجميل) بجملة ترلم ترلم التى لمن تكن موجوده فى النص.
الأمير: (ما هو باين من المعاني الجميلة والأصوات اللي تفتح النفس، برافو عليك يا بيومي أفندي).
بيومى: (يا مولانا، أنا مش لاقي ألفاظ).
الأمير: (إن شاء الله ما وجدت، مش ضروري، متشكر يا بيومي أفندي بتنجان).
هنا، يسخر التلاميذ في همساتهم: (بتنجان!.. بتنجان!)، مما يعكس روح الدعابة التي أضفاها (محمد كمال المصرى) على المشهد.
بيومى: والآن يا مولاى مع حصة الحساب
الأمير: (بسخرية: حضرتك بتعلم حساب كمان؟).
بيومى: (نعم يا مولاي).
الأمير: (في ناس كتير يا بيومي أفندي ما بيحسبوش حساب، شوف شغلك)، وهنا يضحك نجيب ضحكة ساخرة ويقول له: شوف شغلك.
بيومي: حاضر يا مولاي.
بيومى: رجل اشترى 20 مقطعا من الحرير بسعر 31 مليم .
وهنا يقاطعه الأمير: ايه 31 مليم حرير بتلاتة صاغ ومليم؟ ازاى فين ده جنسه ايه .. ياباني 7 صاغ مارسيليا نمره 2 بـ 16 قرش مشجر فواتح عرض 70 بـ 22 صاغ.
وهنا بنظره خبيثه من (بيومى أفندى) يتأكد أنه هو( سلامة) الأمير المزيف الذى يعمل عند الخواجة فى محل القماش بعدها يقاطعة أحد مساعدى الأمير: يا مولاى مجرد افتراض.. ليرد الأمير: أه مجرد افتراض.
تتوالى الأحداث وتظهر مهارة (شرفنطح) في محاكاة شخصية المدرس الذي يحاول الإيقاع بالأمير المزيف وسط ضحكات لا تتوقف من خلال كوميديا موقف جميلة كتبها ببراعة نجيب الريحانى وبديع خيرى .
كان لشخصية (شرفنطح) تأثير عميق على الكوميديا المصرية، حيث ساهم في تشكيل نوع خاص من الفكاهة يعتمد على السخرية والتهكم.
واستطاع من خلال أدائه أن يخلق لحظات كوميدية خالدة، رسخت في أذهان الجمهور، كما أثرت في أجيال لاحقة من الفنانين الذين حاولوا السير على خطاه.
الحياة في بساطتها ورحيل في صمت
على الرغم من شهرته، لم يترك شرفنطح منزله القديم في حارة (مامس) إلا عندما تهدم، واستأجر بدلًا منه بيتًا بسيطًا في القلعة.
كان (شرفنطح) معروفًا ببخله الشديد، فقد كان يحتفظ بأمواله في حزام يلفه حول بطنه، ولم يكن يسمح لأحد بمعرفة عنوانه الجديد خوفًا من اللصوص.
عاش حياة بسيطة، ولم يتزوج، ليبقى وحيدًا، ولم يُكتشف موته إلا بعد ثمانية أيام عندما تحللت جثته في صمت.
ترك (محمد كمال المصري) أثرًا عميقًا في السينما، حيث شكّل بفنه نوعًا خاصًا من الكوميديا الشعبية، التي كانت تعبّر عن الواقع بحس ساخر ذكي.
وبفضل أدواره البارعة، أصبحت شخصياته جزءًا لا يُنسى من تاريخ الكوميديا، ملهمًا لأجيال من الفنانين، رحل (شرفنطح) عن عالمنا عام 1950، لكن روحه المرحة وضحكاته الساخرة تظل حاضرة في وجدان محبي الفن، كرمز خالد في ذاكرة السينما والمسرح.