بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
أصابتنى حالة من الاكتئاب الشديد الأسبوع الماضى بسبب الضربات القاسية المتوالية على قوى المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، وكانت ذروتها اغتيال رأس حركة المقاومة في كل منهما.
وبرغم إيمانى القوى أن أي حركة مقاومة ليست شخصا وإنما فكرة يعتنقها الكثير من البشر، لم أستطع أن أغلب حزنى الذي تحول إلى اكتئاب، هذا الاكتئاب الذى طرح عليّ أسئلة كنت أعتقد أنى حسمتها منذ زمن طويل حول جدوى ما نقدمه من (الفن) في وسط تلك الأحداث الدامية و المميتة.
فقد كنت من الداعين لعدم توقف (الفن) في المسارح أو السينمات بسبب الأحداث الكبرى والمآسى التي تحيط بنا من المحيط الى الخليج، وكان ردى دائما على كل من يطالب بالتوقف مع كل حدث أن الحزن في القلب وليس في (الفن)، وأنه أثناء المعارك لا تتوقف المستشفيات أو المصانع عن العمل.
وصناعة (الفن) هى علاج لكسور الروح وترفع من معنوياتنا لنصبح أكبر قدرة على المقاومة، والأمثلة كثيرة حتى أنه وسط معارك الحرب العالمية الثانية تم منح نوط الشجاعة للملهى الليلى الوحيد الذى استمر في العمل أثناء غارات الألمان على لندن.
لم يخرجنى من هذا الاكتئاب سوى تذكرى لموقفين في (الفن) عاصرتهما بنفسى، الأول كان شخصيا والثانى كان موقفا عاما، ففي نهاية الستينات وأثناء عملى كصحفى تحت التمرين في مجلة (صباح الخير)، وتلك قصة أخرى.
تصادف وجودى بمسرح عمر الخيام (الذى كان يقع في حديقة فندق الماريوت حاليا والذى تم ازالته مع استيلاء الشركة العالمية على الفندق لتبنى برجيها العملاقين بجوار القصر التاريخى).
وكانت الفرقة التي تحمل نفس الاسم (عمر الخيام) لصاحبها (طلعت حسن) تقدم عرضا يحمل اسم (القرد وملك الهيبيز)، من بطولة الفنان القدير (صلاح منصور)، والفنان الكبير (صلاح السعدنى)، ومن إخراج المخرج الكبير (السيد راضى).
رائد (الفن) صلاح منصور
في تلك الليلة كانت هناك أزمة بالفرقة بسبب الإعلان عن وفاة والدة الفنان الكبير (صلاح منصور) التي وقعت صباحا، وظل السؤال معلقا: (هل يتم العرض أم يتم إلغاؤه؟).
وأثناء المناقشات، ظهر رائد (الفن) القدير (صلاح منصور) قادما من العزاء ليصر على تقديم العرض بنفسه، برغم اقتراح الفنان الكبير (شكرى سرحان) – صديق (صلاح منصور) ودفعته في معهد التمثيل – أن يقوم المخرج بالدور بدلا عنه، ولكن (منصور) رفض و اعتلى خشبة المسرح وهو يغالب دموعه.
الموقف الثانى في (الفن) كان في عام 1992 و بالتحديد يوم 12 أكتوبر، وفي الساعة الثالثة ظهرا عندما وقع زلزال قى القاهرة بقوة 5.8 درجة على مقياس ريختر واستمر فقط نصف دقيقة، ولكنه كان مدمرا بشكل غير عادي بالنسبة لحجمه، فلقد أصاب الكثير من المنازل والمباني بالتصدع، وتم اعتباره أقوى زلزال يصيب مصر منذ عام 1847.
فلقد تسبب في وفاة 561 شخصا وإصابة 12,392 آخرين وشرد حوالي 50000 شخص إذ أصبحوا بلا مأوى (حسب تقرير لرئيس مجلس الوزراء صدر بعد الزلزال بأسبوعين).
في تلك الأيام كنا نقدم عرض (كنت فين يا على) على مسرح ميامى بوسط القاهرة من بطولة النجوم: (نور الشريف وبوسى ومحمد عوض وسعيد عبد الغنى)، ومن تأليف (يوسف عوف) و من إخراجى.
وفور انتهاء الزلزال اتصل الفنان الكبير (نور الشريف) بالمنتج وطلب منه إلغاء العرض تعاطفا مع ضحايا الزلزال الذى لم يكن قد تم الإعلان عنهم بعد، وحاول المنتج أن يتصل ببقية الفنانين، ولكن الخطوط التليفونية أصابها الارتباك الشديد في ذلك اليوم، فتم الاتفاق على اللقاء في المسرح مساء لاتخاذ القرار بإلغاء العرض.
مساء ذلك اليوم كانت المناقشات في الكواليس دائرة، المنتج لديه إصرار بالطبع على تقديم العرض والفنان نور الشريف متمسك بموقفه، وتساءل : هل أستطيع القيام بدورى في (الفن) وأنا أعلم أن هناك ضحايا؟
وطالت المناقشات، و في النهاية اقترحت أن ننتظر قليلا، فإذا وجدنا أن هناك جمهورا أتى الى المسرح فعلينا أن نقدم العرض احتراما لهذا الجمهور، أما إذا وجدنا إحجاما عن الحضور أو حضور قليل فعلينا أن نلغي العرض ونرد تلك التذاكر.
وفوجئنا جميعا بأن المسرج ممتلئ أو يكاد، وهنا اقتنع الفنان الكبير (نور الشريف) بمنطقى، وقال ربما أتى هذا الجمهور ليثبت لنفسه أنه قادر على الحياة في مواجهة غضب الطبيعة، أو ربما أتى لينسى الرعب الذى كان في الظهيرة.
(الفن) ووصية (السنوار)
أما ما حسم الأمر تماما أمام اكتئابى خلال الأيام الماضية، هى (وصية السنوار) التي نشرتها مواقع عدة، والتي أقتطع منها أجزاء يقول فيها: (أنا يحيى، ابن اللاجئ الذي حوّل الغربة إلى وطن مؤقت، وحوّل الحلم إلى معركة أبدية..
وأنا أكتب هذه الكلمات، أستحضر كل لحظة مرت في حياتي: من طفولتي بين الأزقة، إلى سنوات السجن الطويلة، إلى كل قطرة دم أُريقت على تراب هذه الأرض).
ثم يضيف: وصيتي أن تظلوا متمسكين بالبندقية، بالكرامة التي لا تُساوم، وبالحلم الذي لا يموت.. العدو يريدنا أن نتخلى عن المقاومة.. أن نحول قضيتنا إلى تفاوضٍ لا ينتهي..
لكنني أقول لكم: لا تُفاوضوا على ما هو حق لكم.. إنهم يخشون صمودكم أكثر مما يخشون سلاحكم.. المقاومة ليست مجرد سلاح نحمله، بل هى حُبنا لفلسطين في كل نفَس نتنفسه، هي إرادتنا في أن نبقى، رغم أنف الحصار والعدوان.
وصيتي: (أن تظلوا أوفياء لدماء الشهداء، للذين رحلوا وتركوا لنا هذا الطريق المليء بالأشواك.. هم الذين عبدوا لنا درب الحرية بدمائهم، فلا تُهدروا تلك التضحيات في حسابات الساسة وألاعيب الدبلوماسية..
نحن هنا لنكمل ما بدأه الأولون، ولن نحيد عن هذا الطريق مهما كلفنا الأمر.. غزة كانت وستظل عاصمة الصمود، وقلب فلسطين الذي لا يتوقف عن النبض، حتى لو ضاقت علينا الأرض بما رحبت).
ثم يضيف: (ما تركته ليس إرثًا شخصيًا، بل هو إرث جماعي، لكل فلسطيني حلم بالحرية، لكل أم حملت ابنها على كتفها وهو شهيد، لكل أب بكى بحرقة على طفلته التي اغتالتها رصاصة غادرة..
وصيتي الأخيرة، أن تتذكروا دائما أن المقاومة ليست عبثا، وليست مجرد رصاصة تطلق، بل هي حياة نحياها بشرف وكرامة.. لا تنتظروا من العالم أن ينصفكم، فقد عشت وشهدتُ كيف يبقى العالم صامتًا أمام ألمنا..
لا تنتظروا الإنصاف، بل كونوا أنتم الإنصاف.. احملوا حلم فلسطين في قلوبكم، واجعلوا من كل جرح سلاحا، ومن كل دمعة نبعا للأمل).
(وصيتي لكم تبدأ من هنا، من ذاك الطفل الذي رمى أول حجر على المحتل، والذي تعلم أن الحجارة هى الكلمات الأولى التي ننطق بها في مواجهة العالم الذي يقف صامتًا أمام جرحنا..
الإنسان لا يقاس بعمره
تعلمتُ في شوارع غزة أن الإنسان لا يقاس بسنوات عمره، بل بما يقدمه لوطنه.. وهكذا كانت حياتي: سجونٌ ومعارك، ألم وأمل.. هذه وصيتي: لا تسلموا سلاحكم، لا تلقوا بالحجارة.. لا تنسوا شهداءكم.. ولا تُساوموا على حلم هو حقكم.. نحن هنا باقون، في أرضنا، في قلوبنا، وفي مستقبل أبنائنا).
(أوصيكم بفلسطين، بالأرض التي عشقتها حتى الموت، وبالحلم الذي حملته على كتفي كجبل لا ينحني إذا سقطت.. فلا تسقطوا معي.. بل احملوا عني راية لم تسقط يوما، واجعلوا من دمي جسرا يعبره جيلٌ يولد من رمادنا أقوى.. لا تنسوا أن الوطن ليس حكاية تروى، بل هو حقيقة تعاش، وفي كل شهيد يولد من رحم هذه الأرض ألف مقاوم).
(إذا عاد الطوفان ولم أكن بينكم، فاعلموا أنني كنت أول قطرة في أمواج الحرية، وأنني عشت لأراكم تكملون المسير.. كونوا شوكة في حلقهم، طوفانا لا يعرف التراجع، ولا يهدأ إلا حين يعترف العالم بأننا أصحاب الحق.. وأننا لسنا أرقاما في نشرات الأخبار)
أخذت تلك الكلمات تتردد في عقلى و قلبى: (المقاومة ليست مجرد سلاح نحمله، بل هى حُبنا لفلسطين في كل نفَس نتنفسه، هى إرادتنا في أن نبقى، رغم أنف الحصار والعدوان، و أن الانسان لا يقاس بسنوات عمره بل بما يقدمه لوطنه).
إذن علينا أن نواصل المسيرة كلٌ بما يستطيع ويقدر، وأن نتم الوصية عن طريق (الفن) بنشر حبنا لفلسطين، وأن نغذى أرواحنا من أجل البقاء برغم كل شيئ.