بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في عتمة السماء، هناك نجوم تصنع ضجيجًا من الضوء، تنبض سريعًا ثم تختفي، وهناك قمرٌ خفيٌّ، لا يتعالى على السحاب ولا يصرخ في الأفق، لكنه يشرق في لحظات السكون، يكشف عن ذاته في ظلام لا يخشاه، هذا هو (إسكندر منسى).
وُلد (إسكندر منسى) من قلب مصر عام 1910، ورغم أن اسمه يبدو (منسيًا) بين نجوم السينما المتلألئة، إلا أنه ظل محفوظًا في ذاكرة الفن المصري، كإرثٍ لا يمحوه الزمن.
منذ خطواته الأولى على مسرح (نجيب الريحاني)، تعلم (إسكندر منسى) كيف يحفر الشخصيات في الصخر، وجعل من كل دور جسَّده أيقونة خالدة في ذاكرة الجمهو، فلم يكن مجرد ممثل، بل كان بانيًا صامتًا لأدوار تشبه الجدران القديمة؛ حاضرةٌ في صمتها، قوية في حضورها، حتى لو لم تتصدر المشهد.
أحد أعظم أدواره كان في فيلم (أم العروسة)، حيث جسَّد شخصية مرقص أفندي، زميل الأب (عماد حمدي) في العمل.
لم يكن (مرقص/ إسكندر منسى) مجرد موظف، بل كان رمزًا لعلاقة الأقباط والمسلمين في نسيج المجتمع المصري.
بملامح هادئة وحركات مدروسة، كان مرقص يجسد روح الزمالة والصداقة التي تتخطى حدود الدين، وهى الروح التي لطالما ميزت الشعب المصري عبر التاريخ.
(إسكندر منسى) جعل من تلك الشخصية صورة نابضة بالحياة، مليئة بالدفء والحكمة، دون حاجة للضوء الساطع ليبرز تأثيره العميق.
عين ناقدة ومرحة
أما في (رد قلبي)، فقد جسّد (إسكندر منسى) شخصية (إبراهيم أفندي) الموظف المتواضع الذي كان يراقب الصراع الطبقي دون أن يدخل في خضمّه كان الحارس الأمين لأسرار المجتمع، وفي صمته كانت تكمن قوة هائلة.
لم يكن دوره صرخةً بين الحشود، بل كان همسة تنساب في خضم الأحداث، كأنه يجسد تلك اللحظات الصامتة التي تمر بين ثنايا الحياة ولا يلتقطها إلا القليلون.
وفي فيلم (30 يوم في السجن)، قدّم (إسكندر منسى) شخصية (الباحث الاجتماعي)، الرجل الذي يراقب العالم من حوله بعين ناقدة ومرحة في آن واحد.
التوازن الذي خلقه بين دوره كمسؤول ومرحه الداخلي أعطى الشخصية سحرًا خاصًا، ففي تلك الشخصية، نرى التناغم بين العقلانية والإنسانية، وكيف يمكن للجدية أن تحمل في طياتها خفة الروح.
في (السفيرة عزيزة)، كان (إسكندر منسى) يلعب دور (العم حسن)، الجار الناصح الأمين للجزار المتجبر (عباس الرطل)، كان شخصية تمثل الحكمة الشعبية التي تتسلل بهدوء إلى قلوب الناس، فتنير لهم الطريق دون أن يشعروا بذلك.
في حواراته البسيطة ومواقفه، كان (العم حسن) يبرز كجسر بين القيم الإنسانية والعادات المتوارثة، فيعيد التوازن إلى حياة الشخصيات من حوله.
وفي المشهد النادر من فيلم (لو كنت غني)، يظهر (إسكندر منسى) في لحظة منتهى الكوميديا مع (عبد الفتاح القصري).
يجلس (القصري) مع عشيقته، وإذ يدخل عليهم فجأة شخص في مظهر غريب: على رأسه قمع، وعلى صدره مصفاة منزلية تأخذ شكل الدرع، وفي يده عصا مكنسة. يسأل القصري عشيقته في حيرة ودهشة: (من هذا؟)، فترد عليه: (هذا أخي، عنده نغزة في دماغه، والحالة جاتله دلوقتي!).
إتقان شخصية المجنون
(إسكندر منسى) هنا يبدع في إتقان شخصية المجنون التي تتسم بالغرابة والطرافة.
يبدأ بطلب (دبابات)، كناية عن النقود بحركة من يده، ويحرج (القصري) الذي يُخرج بعض النقود على مضض.
لكن (إسكندر منسى) لا يكتفي، فيضيف في جملة مرحة: (الكتاكيت!)، ما يدفع (القصري) لإفراغ كل ما في جيبه.
يصل الموقف إلى ذروته عندما ينتبه (إسكندر منسى) إلى وجود قرش برّاني بين النقود، ويعلو الحوار بينهما بطريقة ساخرة حتى ينتهي المشهد بتقمص القصري لدور المجنون بدوره، ليُفجر الضحكات ويُصبح هذا المشهد من كلاسيكيات الكوميديا المصرية.
(إسكندر منسى) لم يكن نجمًا يبحث عن الأضواء، بل كان النور الخفي الذي يجعل المشهد بأكمله ينبض بالحياة.
كل دور أداه كان جزءًا من سيمفونية هادئة لا تُسمع بسهولة، لكن عندما تركز فيها، تكتشف عمقها وسحرها، قد لا يعرف الكثيرون اسمه، لكنه في الحقيقة محفور في ذاكرة السينما المصرية كفنان عاش في الظل، لكنه صنع الضوء الذي أضاء قلوبنا.
رحل عن عالمنا في عام 1989، لكن أدواره بقيت تسكن في ذاكرة عشاق الفن، تروي لنا قصص الصمت الذي كان يعلو فوق كل صوت.
(إسكندر منسى)، الفنان الذي اختار أن يكون خلف الكواليس، لكنه ملك المسرح بحضوره الصادق، وترك لنا إرثًا يُعلّمنا أن الفن الحقيقي ليس في الأضواء، بل في النبض الذي يحرك الأرواح دون أن يطلب التصفيق.