بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في قلب القاهرة العتيقة، حيث تتشابك الأحياء الشعبية وتتردد أصداء التاريخ في أزقتها، خرج للنور صوت فنان شعبي لم يكن كغيره من الأصوات.. هو المونولوجست (محمود شكوكو).
من (درب المحروق) في الدرب الأحمر.. ذلك المكان الذي شهد مزيجًا بين الحياة القاسية والجمال الشعبي العفوي، وُلد (محمود شكوكو) في الأول من مايو عام 1912.
لم يكن يعلم حينها أنه سيصبح أحد رموز الفن الشعبي، رغم أنه الفنان الذي عاش بين الناس، واستطاع بمهارته وحسّه الشعبي العميق أن يترك بصمة لا تمحى في ذاكرة المصريين.
الفراشة على طريق النجاح
كانت حياة (محمود شكوكو) في بدايتها حياة بسيطة مثل أي شاب مصري آنذاك، عمل في النجارة، تلك المهنة التي تتطلب الدقة والصبر، لكنه كان يمتلك في داخله شغفًا آخر، فبداخله كان يعيش حلم الغناء والتمثيل، وحين أتيحت له الفرصة الأولى، لم يتردد في اقتناصها.
بدأ (محمود شكوكو) مشواره الفني كأي فنان شعبي من الحفلات والأفراح.. متنقلاً بين الحارات والأزقة.. مغنيًا بصوت يحمل بين طبقاته روح الناس ومعاناتهم، لم يكن مجرد مغنٍ بل فنان يخلق تواصلاً عميقًا مع الجمهور.
كلما غنى، كانت أنغامه تخرج من قلبه إلى قلوب الناس.. فتتحول أزقة الحي إلى مسرح شعبي تردد فيه الضحكات والأنغام.
الكوميديا في أبهى صورها
حين نضجت موهبة (محمود شكوكو) وأصبح اسمه يتردد في أوساط الفن الشعبي، جذبته السينما، ووجد في الفيلم الكوميدي مجالاً للتألق.
كان فيلم (عنتر ولبلب) نقطة تحول في حياته الفنية، حيث جسد شخصية الكوميدي المحبوب، ونجح في رسم الابتسامات على وجوه المشاهدين بفضل روحه الخفيفة وملامحه المصرية الأصيلة التي عكست انتماءه للطبقة الشعبية.
(محمود شكوكو) لم يكن بحاجة إلى تجميل أو تصنع.. كانت بساطته سر نجاحه، فهو لم يحاول قط أن يتجاوز حدود البساطة التي نشأ فيها.. بل حول تلك البساطة إلى قوة دفعته إلى الصفوف الأمامية من نجوم الكوميديا في زمنه.
إحياء التراث الشعبي
لكن (محمود شكوكو) لم يتوقف عند حدود التمثيل والغناء، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد كان عاشقًا لفن (الأراجوز).. ذلك الفن الشعبي الذي يروي قصص الناس وحكاياتهم، أتقن (شكوكو) فن تحريك الدمى، وكان يحيي (الأراجوز) بمهارة فنية فريدة.
بين يديه كانت تتحرك الدمى وكأنها تمتلك روحًا.. تروي قصص الأحياء الشعبية التي عرفها (شكوكو) جيدًا.
كان (الأراجوز) بالنسبة له وسيلة للتعبير عن الحياة اليومية، عن الأفراح والأتراح، وعن انتصارات الناس وهزائمهم.. في كل حركة من حركات الدمى، كان (محمود شكوكو) يقدم مزيجًا من الفكاهة والمرارة، وكأنه يلخص حياة المصري البسيط بمهارة وحب.
رمز خالد وتمثال شعبي
إن حب الناس لـ (محمود شكوكو) لم يتوقف عند تصفيقهم لأعماله أو ضحكاتهم التي أطلقها في قاعات السينما والمسارح.
لقد تجاوزت شهرته حدود الفن لتصل إلى صنع تماثيل له بالزي المصري التقليدي – الجلباب والطربوش – والتي كانت تباع في الأسواق.. كانت تلك التماثيل رمزًا لفنان شعبي أحبه الناس، وربطوا بينه وبين تراثهم العميق.
لم يكن لأي فنان مصري آخر أن يحظى بهذا الشرف، وهو ما يجعل من (محمود شكوكو) ظاهرة فنية تستحق الدراسة والتأمل.. لقد تمكن من أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الشعبية المصرية، حتى بعد رحيله.
فراشة الفن التي لم تحترق
كان (محمود شكوكو) مثل الفراشة التي تحلّق من زهرة إلى أخرى، تجمع بين ألوان الفنون المتعددة.. لكن ما ميزه عن غيره من الفنانين هو أن الفراشة لم تحترق من اقترابها من الضوء.
لم يغيره بريق الشهرة، ولم تغره أضواء الاستوديوهات، بل ظل الفنان البسيط الذي يعكس روح الناس في أعماله.. والذي يجد سعادته في إسعاد الآخرين دون أن يبتعد عن جذوره.
إن حياته كانت تجسيدًا لهذه الفكرة؛ فكرة البساطة والتواضع في مواجهة الشهرة والنجاح، كلما اقترب من أضواء الشهرة كانت تزداد أجنحته بريقًا. لم يفقد يومًا ذلك السحر الذي جعله قريبًا من قلوب الناس، بل كلما تألق زاد التصاقًا بجذوره الشعبية.
الرحيل.. وبقاء الأسطورة
في 21 فبراير 1985، رحلت الفراشة.. رحل (محمود شكوكو) عن دنيانا، لكنه لم يرحل عن قلوب المصريين.. ظل فنه حيًا يتردد في الأفراح والحارات، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظات التي كان فيها يُضحكهم ويمتعهم بفنه العميق والبسيط.
لقد رحل (شكوكو)، لكن ذكراه بقيت كالشجرة التي تظلل الحارة الشعبية، وكأنه لم يغادر أبدًا، أعماله لا تزال تضحك، و(الأراجوز) لا يزال يروي قصص الناس بمهارة شكوكو التي لا تضاهى.
إن أسطورته لا تزال حية، لأنه لم يكن فنانًا فقط، بل كان رمزًا للحياة الشعبية المصرية، وللإنسان الذي يجمع بين بساطة الروح وعمق الفن.
في النهاية، يظل (محمود شكوكو) بمثابة (فراشة الفن الشعبي) التي حلقت بعيدًا عن وهج الأضواء لكنها لم تذبل أبدًا، وظلت تلهم أجيالًا جديدة بفنها وحبها للحياة.