بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
مع ازدهار فن المسرح في عصرنا الحديث، وارتباطه بـ (المسرح) الأوروبي، ومحاكاته (تقليدا)، لم يتبادر إلي ذهننا سؤال، وهو لماذا مثل المصري في مصر القديمة والحديثة ؟
وللإجابة على هذا السؤال، لابد من الرجوع إلى مصر القديمة، لأن الحضارة المصرية القديمة اعتمدت على فن التمثيل في نقل حضارتها إلى الآخرين، وعلى مستوى (المسرح)، فمصر من أوائل الدول التي قدمت العروض المسرحية، والتي توازي عروضنا الحديثة.
ونلاحظ أن المصري القديم مثل مسرحيات لأسباب، فمن العروض التي وصلتنا سوف نجد أنه كان ينقل تاريخ الصراع على ملك مصر في الماضي، من خلال الإخوة الأربعة (أوزير، ست، إيزيس، نفتيس)، في صورة إلاهية مزعومة لهؤلاء القوم السابقين.
فقد سميّ هذا العصر بعصر الآلهة، ويبدأهم بآدم عليه السلام، مستعرضا أحداث غرق الأمنتت (يبدو أنه طوفان نوح)، حتى استقرار الحكم لحورس ابن أوزير، على كل مصر (الوجه البجري والقبلي).
ونلاحظ أن المصري القديم مثل على (المسرح) لهدف ديني وسياسي، فقد عمل المصري على تقديس بعض من البشر مثل آدم عليه السلام، وهو يظهر في التاسوع كأول الآلهة المزعومة، وله الحكم في جميع القضايا، مثل حمل (إيزيس) بدون زوج، حين حكم بأن الطفل ابن أوزير، مثال من مسرحيات إيزيس التي وصلتنا:
آتوم: يقول هذه التي حملت سرا، هى فتاة حملت وستضع دون تدخل من الآلهة حقا، وهذا يعني أنه غرس أوزيريس، وليحجم هذا العدو الذي قتل أباه عن تحطيم البيضة الصغيرة وليضمن الساحر الأكبر له الاحترام ولتطيعوا أيتها الآلهة ما تقوله إيزيس.
ونجد في (مسرحية الأسرار) التي تمثل مصرع أوزير، كيفية استيلاء (ست) على حكم مصر بعد صراع كبير ممتد إلي سنوات بينهما، وهى إن كانت دينية تهدف إلى رؤية الأسرار الخاصة بأوزير.
حكم البشر الأوائل
إلا أنها تنبه إلى ضياع الملك المصري، وانهيار مصر على يد ست، ثم تظهر إيزيس التي تصارع ست، وتنجب حورس، وتسترد الملك ويحكم جب لحورس بكل ملك مصر، وهذا عند بداية استقرار الحكم في مصر وظهور الملكية.
واعتبر الكهنة أن ملك مصر يمتد بنسب لهؤلاء الآلهة المزعومة، وحاميه حورس، ولهذا كان يمثل المصري هذه المسرحيات، لترسخ أن حكم البشر الأوائل الذي حولهم الكهنة إلي آلهة، وهم السلطة الحاكمة في العصور القديمة، نافذ ، وأن الملك الفرعون إله ينتسب لهم، ولهذا السبب مثل المصري القديم على (المسرح).
وكما سبق القول، أن المصريين القدماء كانوا على التوحيد الخالص، وهذا من نصوصهم، ثم انحرفوا إلي عقيدة تأليه الإنسان، ولكن لم يستمر الحال، وعاد المصريون إلي العقيدة الحقيقية وهي عبادة الله الخالق.
استمر التمثيل على (المسرح) في مصر، في صورة العرض المسرحي (تحت مسمى المحبظين، وفي هذه المرحلة نتساءل نفس السؤال لماذا مثل المصريون المحدثون؟، ومن العروض التي وصلت إلينا نعرف الإجابة ، فقد كانوا يقومون بموجهة الغرباء والمحتلون لأرض مصر:
ويصف (نيبر) واحداً من عروض تلك الفرقة (إن الشخصية الرئيسية كانت أنثى ولكن كان يمثلها رجل في ملابس النساء، وكان يعاني كثيرا لإخفاء لحيته، وهذه البطلة كانت تدعوا المسافرين إلى خيمتها، وبعد سرقة حوافظ النقود الخاصة بهم، تضربهم بشدة بالعصى.
وبعد أن جردت هذه السيدة الكثيرين من ملابسهم، قام تاجر شاب أعلن عن ضجره من تكرار هذه الحيل الشهيرة وأعلن بصوت عالٍ رفضه للقطعة التمثيلية، وبقية المُشاهِدين أعلنوا استنكارهم للعمل ليثبتوا أن ذوقهم ليس أدنى من هذا الشاب، وأجبروا الممثلين على التوقف ولم تكن المسرحية قد اكتمل نصفها).
ولم يتحمل المشاهد الإيطالي تكملة عرض (المسرح)، فقد مس وتره، وضغط على الوجيعة، ونرى لهم عرض آخر من العروض السياسية الخاصة بالشعب المصري.
وقد وصفه لنا (إدوارد لين) وكان أشخاص الرواية: ناظرا أي مدير إقليم، وشيخ بلد وخادمة، وكاتبا قبطيا، وفلاحا مدينا للحكومة وزوجة وخمسة أشخاص آخرين يظهرون أولا في هيئة موسيقيينَ وراقِصَينِ.
وبعد قليل من الطبل والزمر والرقص يظهر الناظر وبقية الممثلين، فيقول الأول: (كم قرشا دين عوض بن رجب ؟)، فيجيب العازفون والراقصان الذين يقومون الآن بأدوار فلاحين: مر النصراني بالبحث في السجل).
حفل ختان ابن الباشا
ويحمل الكاتب النصراني دواة كبيرة في حزامه، ويلبس لباس الأقباط ويعْتَمُّ بالعمامة السوداء، فيسأله شيخ البلد: (كم على عوض بن رجب؟)، فيجيبه: (ألف قرش)، فيسأله كم دفع؟، فيقول: خمسة قروش.
فيخاطب الفلاح قائلا: (يا راجل، لماذا لم تحضر النقود؟)، فيجيبه: (ليس عندي نقود) فيصيح شيخ البلد: ليس عندك نقود؟ اطرحوه، فيأتون بجزء من معي منفوخ على شكل سوط ويضربونه به.
يستغيث الفلاح بالناظر قائلا: (وشرف ذيل حصانك يا بك!، وشرف سروال زوجك يا بك!، وشرف عصابة رأس امرأتك يا بك!)، وينتهي بعد عدة صيحات، ثم يقاد إلى السجن.
وتحضر امرأته لتطمئن عليه، فيرجو منها أن تأخذ قليلا من الكشك والبيض والشعرية وتذهب إلى منزل الكاتب وتستعطفه ليخلصه، فتذهب الزوجة بالهدية إلى منزل الكاتب، وتسأل من هناك عن المعلم (حنا) الكاتب، فيدلونها عليه.
فتقول له (يا معلم حنا، تفضل بقبول هذه الهدية وانقذ زوجي، الفلاح المدين بألف قرش)، فيقول: (أحضري عشرين قرشا أو ثلاثين رشوة لشيخ البلد)، فتنصرف وسرعان ما تعود بالنقود، وتسلمها إلى شيخ البلد، فيأخذها ويقول: (حسنا جدا، اذهبي إلى الناظر).
فتنسحب وقتا لتتكحل وتتخصب، ثم تفصد الناظر وتحييه، فيسألها عما تريد فتخبره أنها زوجة عوض المدين بألف قرش، فيقول: (وماذا تريدين؟)، فتجيب: (إن زوجي مسجون واستنجد بمروءتك لتخلصه).
وتبتسم، وهى تلح في طلبها، وتظهر أنها راغبة في مكافأته على هذا المعروف، فيقبل ذلك، ويقوم بالدفاع عن الزوج، ويخرجه من السجن، وقد مثلت تلك الهزلية أمام الباشا لتنبه إلى سلوك القائمين على أمر الضرائب.
وهذا العرض قدم في حفل ختان ابن الباشا (محمد على) أمام والي مصر، وهو مضمونه سياسي يهدف إلي تعريف الحاكم بفساد السلطة، وجباية الضرائب في شكل هزلي .
ومما سبق نلاحظ ، أن فن التمثيل على (المسرح) في مصر كان له هدف قديم وحديث، فالقديم يخص الوثنية المصرية، أى الآلهة البشرية المزعومة، وكان الهدف منها سياسي ديني.
الثاني عند عودة المصري إلى عقيدته الصحيحة اهتم بالإنسان المصري، وصارعه مع الأجانب والمحتلين وصراعه مع السلطة في عصره، وهذا دال على أن المسرح المصري في تاريخه ، من المؤسسين للعرض المسرحي، وقد توارثه، وقدموا عن طريق المحبظين الحياة المصرية في صراعها الإنساني مع المحتل والسلطة.
وبظهور (المسرح) المتأورب، تم انقراض فرق المحبظين، وكان أشهرهم فرقة (أولاد رابية)، وقد ظهرت بجانب العروض البشرية عروض العرائس، ولكن هذه العروض سوف نستعرضها في مقالات لاحقة.
ومما سبق نؤكد على فنيه مصر في العرض المسرحي، وظهور فن التمثيل في (المسرح) الذي يخص الإنسان المصري في صراعه الحياتي، عن طريق فرق المحبظين الجوالة.