بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
فن (التمثيل) في مصر من الفنون المتوارثة منذ القدم، وهذا دال من استغلال الحضارة المصرية لهذا الفن في صور عديدة أهمها فن الأداء المسرحي، وإذا كانت مصر في تاريخها الفني الذي نقله المؤرخون عنها، واضعين تصور أن التمثيل كان يتم في المعبد.
إلا أن هذا التأريخ يشوبه النقص، وهذا لأن مصر القديمة عرفت فن (التمثيل) خارج المعبد، إذ اُكتُشِفَ أثرٌ لممثل جوال يدعى إمحب ومن ضمن أقواله في لوحة إدفو: (كنت ذاك الذي يتبع سيده في كل جولاته دون ضعف في الأداء.. ولقد أرد على سيدي كل أدواره: فإذا (قام بدور) الإله كنت ( أقوم بدور ) الحاكم، وإذا أمات أَحْيَيت).
وهذا الممثل كان عضو في فرقة مسرحية، تتجول في القطر المصري لتقديم عروضها، إذ أن إمحب في (السطر 12) يوضح جولاته المسرحية، (فنعرف منه أنه انحدر معه إلى الجنوب حتى بلده (مبو) على أطراف النوبة، كما يصعد معه إلى الشمال حتى مدينة (أواريس) التي كانت قد استخلصت للمرة الثانية من أيدي الهكسوس).
وهذا دال على وجود فرق مسرحية في مصر القديمة، احترفت (التمثيل)، تقدم عروضها في القطر المصري ، ونستشف من هذا أن فكرة المسرح في مصر القديمة لم تكن قائمة على وجود مكان مخصص للعرض المسرحي، بل العرض المسرحي يمكن تقديمة في أي مكان ، فيمكن أن يكون في ساحة ، أو في قرية، وهكذا.
وفنانون العرض يقومون بتجهيز هذا المكان، كي يصلح لإقامة عرض (التمثيل) المسرحي، وهذا دال على فهم المصري القديم للمسرح في كونه عرض مسرحي، يقدم في أي مكان مناسب.
وهذا ما يطلق عليه المسرح الجوال في عصرنا الحديث ، وقد استمر هذا المسرح في مصر لفترة من الزمن في صورة فن المحبظين، وهم مجموعة من فرق (التمثيل)، كانت تقدم عروضها في أماكن مختلفة كما كان يفعل (إمحب) في مصر القديمة .
والمحبظين كانوا فرقاً مسرحية جوالة، وكانت تلك الفرق تقدم عروضاً مسرحية تمثيلية هزلية، في الشوارع أو ساحات بعض المنازل، وفي الأفراح، وفي المناسبات العامة، إلا أن هذا الفن وصف بأنه أقرب ما يكون إلى الدراما الحديثة.
وجود هذا الفن في القاهرة
وقد اندهش الرحالة (نيبر) من وجود هذا الفن في القاهرة إذ ينوه إلى ذلك بقوله: (لم نكن نتوقع أن نرى مسرحية (تمثيل) في القاهرة: ولكن كان يوجد في القاهرة مجموعة من الممثلين، مسلمين ومسيحيين ويهود، في نفس الوقت الذي وصلنا فيه إلى المدينة، وكان مظهرهم يدل عي أنهم فقراء.
وكانوا يمثلون مقطوعاتهم في أي مكان يدعون إليه مقابل أجر زهيد، وكانت عروضهم في الهواء الطلق، ويستخدمون فناء البيت مسرحاً لهم، وكانوا يستخدمون ستارة تكون حاجزاً بينهم وبين الجمهور ليبدلوا خلفها ملابسهم.
ويصف (نيبر) واحداً من عروض تلك الفرقة، بعد دعوتهم إلى منزل عائلة إيطالية تسكن في مصر لكي يشاهدوا تلك الفرقة، ويصف ذلك العرض بقوله: (القطعة التمثيلية كانت باللغة العربية، ولم أكن على دراية بتلك اللغة لكي أفهم الحوار..
ولكن القطعة التمثيلية اتضحت لي؛ حيث إن الشخصية الرئيسية كانت أنثى، ولكن كان يمثلها رجل في ملابس النساء، وكان يعاني كثيرا لإخفاء لحيته، وهذه البطلة كانت تدعوا المسافرين إلى خيمتها، وبعد سرقة حوافظ النقود الخاصة بهم، تضربهم بشدة بالعصي..
وبعد أن جردت هذه السيدة الكثيرين من ملابسهم، قام تاجر شاب أعلن عن ضجره من تكرار هذه الحيل الشهيرة وأعلن بصوت عالٍ رفضه للقطعة التمثيلية، وبقية المُشاهِدين أعلنوا استنكارهم للعمل ليثبتوا أن ذوقهم ليس أدنى من هذا الشاب، وأجبروا الممثلين على التوقف ولم تكن المسرحية قد اكتمل نصفها)
ومن تدوين (نيبر) عن مصر نستشف أن فن التمثيل المسرحي بمفهومه الحديث كان موجوداً قبل دخول الحملة الفرنسية، إذ أن (نيبر) كان قد زار مصر في الفترة السابقة على قدوم الحملة الفرنسية.
وهذا يعني معرفة المصريين بفن (التمثيل) الذي يشتمل على مجموعة ممثلين يمثلون مسرحية، أي قبل قدوم ممثلي الحملة الفرنسية، وقبل (أبو خليل القباني، ويعقوب صنوع)، وإذا لم نتمكن من التعرف على النصوص التي كان يؤديها الممثلون في تلك الفترة فهذا راجع إلى عدم التدوين.
وقد جاء ذكرهم عند (لين)، حيث إن (كثيرا ما يسلي المحبظون)، وهم ممثلون يضحكون الناس بنكات حقيرة. وكثيراً ما يُرَوْن أثناء الحفلات السابقة الممهدة للزواج والطهو في منازل العظماء، وأحيانا في ميادين القاهرة العامة، حيث يجمعون حولهم حلقة من المُشاهِدين، وألعابهم لا تستحق الذكر كثيرا.
المحبظين كانت فرق مستمرة
وهم على الأخص يلهون الجمهور وينالون ثناءه بفكاهات عامية و أعمال فاحشة، ولا وجود للنساء في فرق (المحبظين فيقوم بدورهن رجل أو صبي في ثياب امرأة)، ومن نقل الرحالة (نيبر ولين) نلاحظ أن المحبظين كانت فرق مستمرة تاريخيا في مصر في العصور الحديثة ، فما بين (نيبر ولين) سنين عديدة.
وعن معنى اسم المحبظين، ففي لسان العرب وردت كلمة حبظ للدلالة على الغضب، إذ أن حبظ: المحبنظئ: (الممتلئ غضبا كالمحظنبئ والكلمة في اللهجة العامية دالة على من يقومون بالتمثيل الساخر.
ويبدو أن معنى الممتلئ غضبا الدال على هذه الكلمة عائد إلى أن عروض هؤلاء الممثلين كما يفسرها (فليب سادجروف) في كتابه المسرح المصري في القرن التاسع عشر أن عروض المحبظين في أغلب الأحيان ذات طبيعة تهكمية.
إذ أنها موجهة ضد البيروقراطية التافهة الجشعة من جامعي الضرائب، ممن ينهبون الفلاحين ويروعونهم، وهذا يعني أنهم كانوا يغضبون للشعب، ويعبرون عن تلك المشاعر بأسلوب ساخر بهدف تقديم هؤلاء المستغلين بصورة حقيرة أمام الشعب، وهذا يرضي الشعب إذ يسخر منهم ويعبر عن غضبة بتلك المسرحيات الساخرة.
وهكذا نرى أن مفهوم المسرح في مصر، هو العرض المسرحي، فمع اختلاف العقيدة المصرية القديمة والحديثة، إلا أن المسرح بمفهومه العرض المسرحي لم يتغير في الشكل، ولكن تغير في المضمون.
وننوه بأن مصر القديمة والحديثة بتوارثها للعرض المسرحي هى من أوائل الدول التي أرست فن المسرح في العالم ، وحددته في صورة عرض (التمثيل) المسرحي ، وهذا هو الاتجاه السائد في العالم الآن.
علم (التمثيل) المسرحي
فقد ظهرت نظرية العرض المسرحي، التي توضحها (إريكا فيشر) في كونها طرحت نفسها كبديل للنظرية الدرامية، وجعلت من العرض المسرحي موضوعها وبؤرة اهتمامها.
ونتج عن هذا الاتجاه ظهور علم يطلق عليه علم (التمثيل) المسرحي، وهذا العلم له موضوع يدرسه، وقد تم (إرساء علم المسرح في ألمانيا باعتباره علمٌ للعرض المسرحي)، وهذا بالإضافة إلى جوليان هلتون في وضع نظرية للعرض المسرحي مستقلة عن النص الأدبي.
وهكذا تكون مصر هي المؤسس الحقيقي لفن المسرح القائم على صورة العرض المسرحي، والذي تحول في عصرنا الحديث إلي علم مسرحي ، قائم على دراسة فنية المسرح في صورة العروض.
وهذا الممثل الجوال (إمحب) يوضح أنه كان تابعاً لممثل رئيسي لم يذكر اسمه، وهذا يعني أن مصر كان بها ممثلون جوالون محترفون، مهنتهم فن (التمثيل)، وكانوا يؤدون شكلاً من أشكال العرض المسرحي.
ولكن لا ندري هل كان ارتجالا، أم أن هناك نصوص معينة يؤدونها؟، ولكن هذا الممثل يؤكد على وجود ممثلين في مصر ليسوا من رجال الدين، بل فنانين محترفين، يؤدون عروضهم في أماكن متعددة، في ربوع مصر.