بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
خلال زيارتها لـ (إسرائيل) بعد هجوم السابع من أكتوبر قالت وزيرة الخارجية الألمانية (أنالينا بيربوك): (في هذه الأيام كلنا إسرائيليون).
تصريحها هذا جسّد منطق الدولة الملتزم بالدفاع عن أمن (إسرائيل)، أو ما يُعرَف بـالألمانية (Staatsräson)، وهو حجر زاوية في السياسة الخارجية الألمانية.
فهذا المنطق يعتبر أن أمن (إسرائيل) على ارتباط وثيق بالمصلحة القومية الألمانية إذ يرى العديد من صنّاع القرار الألمان أنه نتيجة منطقية لمسؤولية ألمانيا عن (المحرقة النازية).
ويعود الدعم الألماني لـ (إسرائيل) إلى السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حيث مهّدت التعويضات والدبلوماسية الطريق لعلاقات إيجابية بين (إسرائيل) وألمانيا وأتاحت لألمانيا الغربية أن تتخطّى الوضع الذي جعل منها دولة منبوذة.
وفي الفترات الأخيرة، أصرّ السياسيون الألمان على تقديم دعم سياسي ومادّي مستمر لإسرائيل باعتباره واجبًا وطنيًّا، وهذا ما عبّرت عنه بصورة خاصة المستشارة الألمانية السابقة (أنجيلا ميركل) عام 2008، حين أضفت طابعًا قانونيًّا على (Staatsräson)، في خطاب أمام (الكنيست) الإسرائيلي.
لكن الحكومة الحالية ذهبت أبعد من ذلك، فمنذ حرب السابع من أكتوبر، دأب المستشار (أولاف شولتز) على تكرار أن ألمانيا تقف بحزم إلى جانب (إسرائيل)، في حين اقترح وزير العدل الألماني (أن يُفرَض إعلان حق (إسرائيل) في الوجود شرطًا للحصول على الجنسية الألمانية).
المستشار (أولاف شولتز)
كما تعرّض مناصرو حقوق الإنسان الفلسطيني لموجة قمع غير مسبوقة، بلغت ذروتها مع حملة للشرطة الألمانية ضد المشاركين في المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين.
وحظر العاصمة برلين رفع الأعلام والكوفية الفلسطينية في المدارس، وهو ما وصفته صحيفة (ذا هيل) الأمريكية بقولها (إن ما يحصل في ألمانيا من حملات منظمة ضد داعمي الفلسطينيين أمر لم يسبق له مثيل في تاريخ هذا البلد منذ الحرب العالمية الثانية).
وفي الأشهر التي تلت السابع من أكتوبر، ركز القادة الألمان اهتمامهم على ضحايا هجوم (طوفان الأقصى) ومصير الأسرى في غزة وتصاعد معاداة السامية، وما اعتبروه تهديدا وجوديا لأمن إسرائيل.
وواصلت برلين رفض الدعوات لوقف إطلاق النار، رغم المستويات التاريخية من القتل والتدمير الذي تقوم به إسرائيل في غزة.
تغييب غزة
منذ اللحظات الأولى للحرب على غزة تشبهت تغطية وسائل الإعلام الألمانية مع موقف حكومتها من تلك الحرب إلى حد بعيد، فالتوازن في التعامل مع القصة شبه غائب في الإعلام الألماني، كما هو غائب في التصريحات السياسية منذ هجوم 7 أكتوبر.
فمنذ اليوم الأول خرجت الصحف الألمانية بافتتاحيات تتحدث عن ضرورة أن تقدم ألمانيا الدعم غير المشروط لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، مستندة إلى المسؤولية التاريخية للدولة التي تسببت بـ (المحرقة) النازية، وتعهدها منذ ذلك الحين بألا يتكرّر ذلك.
كما كان لافتا دفاع الإعلام الألماني عن استمرار الحرب، وتجاهله أعداد الضحايا من المدنيين، بل مع أنه يذكر أعداد القتلى نقلاً عن وزارة الصحة في غزة، فهو دائماً يشير إلى أن الوزارة مرتبطة (بحماس) وأنه بالتالي، لا يمكن التأكد من صحة الأرقام.
ومن ثم، فإنه يغيّب القصص الإنسانية الواردة من غزة بشكل كامل تقريباً، في حين يركز القصص الإنسانية على الضحايا الإسرائيليين.
كذلك اهتم الصحفيون الألمان الذين يغطون الحرب كثيراً بتقارير وروايات الجيش الإسرائيلي ويعرضونها من دون تشكيك، وبدت القنوات والصحف الألمانية، وكأنها تبرّر استهداف (إسرائيل) للمستشفيات والمدارس في القطاع.
ودائماً تقرن قصصها عن استهداف الإسرائيليين للمقرات المدنية بأن (حماس) تستخدمها مخازن أسلحة، مع استعانتها عن قصد بخبراء قانونيين يسندون هذه النظرية.
علما بأن الأمم المتحدة تقول بأنه لا يجوز، بحسب المواثيق الدولية، استهداف المستشفيات حتى ولو كانت تستخدم من قبل مسلحين.
ومن ثم مثلت عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) إسماعيل هنية في طهران، نقطة فاصلة فى فضح تحيز الإعلام الألماني لإسرائيل، بل وكاشفة معها عن كيفية قيام (إسرائيل) بالسيطرة عليه من خلال مجموعة (أكسل شبرينجر) إحدى أكبر المجموعات الإعلامية الألمانية.
إذ راحت منذ اللحظات الأولى لجريمة الاغتيال لتفتح أبوابها أمام المسؤولين الإسرائيليين لشرعتنها وإضفاء المصداقية عليها وتبريرها أمام الرأي العام الألماني.
إذ سارعت لاستضافة مستشار الأمن القومي الإسرائيلي (تساحي هانجبي)، – عبر تنسيق مع تل أبيب – الذى أكد من جانبه على أن إسرائيل لن (تقف مكتوفة الأيدي) إذا شنت إيران هجوماً رداً على عملية اغتيال (هنية).
وقال (هنجبي) في المقابلة التي أجرتها معه وسائل إعلام تابعة للمجموعة، ومنها صحيفة (بيلد) الألمانية: (إن مهاجمة إسرائيل أمر سيدفعون ثمناً غالياً للغاية عليه، وآمل ألا يفعلوا ذلك، فسيكون من الخطأ فعل ذلك. لأن إسرائيل قوية جداً).
صحيفة (بيلد) الألمانية
تصريحات (هنجبي) عكست حالة التماهي بين تل أبيب وبرلين، وفتحت معها المجال لطرح تساؤلات بشأن الدور المتعاظم لمجموعة (أكسل شبرينجر)، وتمكن إسرائيل من السيطرة على الرأي العام الألماني من خلالها.
فمن هى تلك المجموعة وكيف تمكنت من خداع الألمان والكذب عليهم بعدما تحولت لأداة إعلامية فى قبضة (إسرائيل).
كذلك وفى أعقاب التصعيد الإسرائيلي – الإيراني الأخير على خلفية اغتيال (هنية) في طهران، نقلت وسائل إعلام تابعة للمجموعة تصريحات خطيرة لنخب سياسية ألمانية.
منها تصريح رئيس لجنة شؤون الدفاع في البرلمان الألماني، (ماركوس فابر): إنه يجب على ألمانيا أن تساعد إسرائيل، على سبيل المثال عبر إصدار موافقة سريعة على صادرات الأسلحة.
أما رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، (جوزيف شوستر)، فكان أكثر وضوحا، حيث قال: (إن مسؤولية ألمانيا التاريخية تجاه أمن إسرائيل ليست ملزمة قانونا..
لكن من وجهة نظري، فإن هذا يعني بالطبع أن ألمانيا ستقف عسكريا أيضا إلى جانب الدولة اليهودية في حالة وقوع هجوم بالحجم الذي يتم التهديد به حاليا).
ومثلهما دعا خبير شؤون السياسة الخارجية في الحزب المسيحي الديمقراطي، (رودريش كيزفيتر)، إلى أن تعرض الحكومة الألمانية المساعدة العسكرية على (إسرائيل) للدفاع في ضوء تعرض الأخيرة لتهديدات بهجمات محتملة من إيران).
أما خبير شؤون الدفاع في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، (أندرياس شفارتس)، فقال (أن حماية إسرائيل تمثل مصلحة وطنية لألمانيا، وفي حالة الطوارئ يجب أن تتبع هذه الكلمات الكبيرة أفعال موازية لها).
تأسست مجموعة (أكسل شبرينجر) الألمانية التي تفوق قيمتها المليار يورو بعد الحرب العالمية الثانية وقامت المؤسسة بالبداية بالتركيز على نشر الصحف والمجلات اليومية.
ومؤسسها هو (أكسل شبرينجر)، وتمتلك العديد من الصحف مثل (بيلد) و(فيلت)، و(بزنس إنسايدر)، و(بوليتك يوروب)، والعديد من العلامات التجارية الإخبارية الأخرى، إضافة إلى أكبر موقع للإعلانات المبوبة في إسرائيل (Yad2)، ولديها 16 ألف موظف.
مؤسس (أكسل شبرينجر)
وفي الآونة الأخيرة، كان لافتاً خبر استحواذها على صحيفة (بوليتيكو) الأمريكية، بمليار دولار، بعد نجاح الأخيرة في تأكيد حضورها لاعباً مهماً في الإعلام الأمربكي.
ومنذ الحرب الإسرائيلية على غزة قامت برفع علم (إسرائيل) للإعراب عن تضامنها المطلق لما تقوم به القوات الإسرائيلية داخل القطاع، وهو ما كان واضحا أيضا عبر تغطيتها الإعلامية الداعمة لإسرائيل.
هذا الدعم المطلق من جانب المجموعة، كان دافعا لخروج 9 موظفين حاليين وسابقين في 6 مؤسسات إعلامية تابعه لها بتصريح جماعى لمجلة (فورين بوليسي) الأمريكية – مشترطين عدم الكشف عن هوياتهم.
قالوا فيه: (إن موقف ألمانيا المتشدد بشأن الحرب على غزة عرّض عملهم للخطر، وأضر بالثقة والمصداقية التي استغرق تطويرها سنوات أو عقودا.
الأدلة والشواهد على العلاقة الوثيقة بين (إسرائيل) ومجموعة (أكسل شبرينجر) وأدواتها الإعلامية كثيرة، لكن ربما هناك منها ما كان فاضحا لها وكاشفا معه عن عمق الصلة بينهما.
فعلى سبيل المثال، هاجمت صحيفة (فيلت) التابعة لها نساء غزة لارتفاع معدل المواليد في القطاع، متهمة إياهن بإنجاب الأطفال لـ (قتل اليهود)، وقال كاتبها (آلان بوسنر) في مقال له: (إنه منذ 17 عامًا، ظلت حماس تدعو النساء هناك إلى إنجاب المزيد من الأطفال حتى لا تنفد الإمدادات البشرية لمحاربة اليهود، -بحسب تعبيره.
وقال (بوسنر): (حماس) ظلت تدعو النساء لإنجاب الأطفال من أجل تعزيز قدرتها البشرية ومهاجمة (إسرائيل).
تفسير السلوك الألماني
سلوك الحكومة الألمانية ومجموعة (أكسل شبرينجر) يظهر معه كيفية عمل اللوبي اليهودي بكل قوة داخل برلين واتباعه خطى السياسة الخارجية والأمنية الأمريكية.
حيث يتم تغطية موضوع (المحرقة) بشكل مستمر على شاشات التلفزيون والصحف الألمانية، ما يذكر الألمان بأنه رغم أن الجريمة المعنية ارتكبها أسلافهم، فإن الأجيال الحالية أيضا تتحمل نفس القدر من المسؤولية.
ولعل من أسباب السياسة الألمانية المتطرفة في تأييد (إسرائيل) هي الطبيعة الائتلافية للحكومة الألمانية وتنافس الشركاء الأصغر في الائتلاف – الحزب الديمقراطي الحر، حزب الخضر على خطبة ود واشنطن.
وفي الواقع، يبدو أن القادة الذين يديرون سياسة ألمانيا الخارجية المعروفة بماضيها فيما يتعلق (المحرقة النازية)، يبذلون جهدا خاصا ليكونوا في طليعة الداعمين لإسرائيل ودفع العالم نحو نسيانها، صارخين بأعلى صوتهم إنه (من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها).
فى نقد الانحياز لإسرائيل
ربما من الأهمية بمكان، اقتباس بعض من تصريحات الدكتور (ميشيل لودرز)، وهو أستاذ جامعي زائر في كليات عدة داخل ألمانيا وخارجها، والذي يعُدّ واحدا من الأصوات الألمانية القليلة التي لديها اطلاع واسع على أوضاع المنطقة العربية.
وعمل سنوات صحفيا ومراسلا في الشرق الأوسط لصالح مؤسسات ألمانية، وأصدر كتبا عدة نالت انتشارا واسعا؛ منها: (الأخلاق قبل كل شيء؟، كيف أخفق الغرب في أفغانستان؟).
تلك التصريحات التى تحدث فيها عن (الهوس الألماني) في دعم إسرائيل وتضييقها على الفلسطينيين، وكيف تخسر ألمانيا سمعتها في العالم لهذا السبب، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من آثار سلبية.
مؤكدا على أن (ألمانيا تعدّ نفسها دولة ذات علاقة خاصة مع إسرائيل بسبب الماضي الألماني الحديث)، وما حدث في (المحرقة)، لكن العلاقة أصبحت أكثر تشددا، وباتت ألمانيا تتقرب أكثر من إسرائيل خلال السنوات الماضية.
ويبدو أن السياسيين الألمان والعديد من صناع الرأي يعتقدون أن دعم إسرائيل دون قيد أو شرط، يعني أنهم تعلموا الدروس الصحيحة من التاريخ الألماني الحديث).
الدكتور (ميشيل لودرز)
كما يرى (أن تمسك ألمانيا بمواقفها الحالية سيأتي بنتائج عكسية، لأن الناس لن ينسوا هذا الموقف الألماني، ومن المقبول أن تشعر ألمانيا بروابط قوية مع إسرائيل، لكن من المؤكد أنه من غير المقبول أن نلتزم الصمت عندما يتعلق الأمر بموجة الدمار الهائلة الواقعة في غزة.
وبالطبع يجب أن أقول: (إن ألمانيا تتبع إلى حد كبير خط الحكومة الإسرائيلية، وقطاعات واسعة في ألمانيا باتت تعتمد السردية الإسرائيلية التي تعدّ انتقاد إسرائيل معاداة للسامية)، وقال فاضحا سياسة برلين: (ألمانيا تخاطر بالفعل بدفع الثمن في المستقبل.
الناس لديهم ذاكرة قوية، ومن المؤكد أن العرب والمسلمين يلاحظون الموقف الألماني، ولن يكون بالطبع من السهل إقامة علاقات جيدة مع عدد منهم، وعندي كذلك تخوّف من أن يكون هناك شعور بالرعب تجاه الدول الغربية التي تدعم هذه الفظائع في قطاع غزة..
كما أخشى أن يترجم الغضب ذات يوم إلى أعمال عنف أو حتى أعمال إرهابية، وأعتقد أن هذا يشكل تهديدا حقيقيا في أوروبا وفي ألمانيا).
إجمالا يعكس ما سبق تواصل الاختراق الإسرائيلي للإعلام الغربى الذى اثبت العدوان الراهن على غزة بكل ما حمله من جرائم بشعة فاقت كل ما سبقها من جرائم عبر القرون الماضية.
أن كل ما يدعيه الغرب وإعلامه ومؤسساته من فضيلة ومن مناصرة لحقوق الإنسان، ودعم ومساندة للحريات هو محض كذب وشعارات زائفة ومجرد حبر على ورق بلا أي ثمن)
والحديث موصول..