فيلم (فبراير الأسود).. ما أشبه فساد الليلة بالبارحة!
كتب: محمد حبوشة
فيلم (فبراير الأسود)، هو لون من ألوان الكوميديا السوداء، وعلى الرغم من كونه كان فيلما جريء جدا من الناحية السياسية، وهادف لدرجة كبيرة يقاوم السيل الجارف من الأفلام التجارية، إلا أنه لم يحقق النجاح المطلوب في حينه عام 2013 عبر شباك التذاكر.
وربما لم يكن ليجاز عرض (فبراير الأسود)، إلا بسبب ظروف مصر واتساع الحريات الكبير، حيث جاءت قصته الجريئة بعد أحداث 25 يناير، التي غيرت كافة الموازين السياسية والاجتماعي في مصر.
ويبدأ الفيلم ببداية جميلة تمهد لتصرفات وموقف العائلة التي تحظى بعدد كبير من العلماء، ومن ثم تتوالى المواقف الطريفة الأخرى والكوميديا السوداء حتى ينتهي الفيلم بنهاية جميلة مفتوحة متعددة الاحتمالات.
وذلك رغم أن بطله (الدكتور حسن/ خالد صالح) لم يحقق هدفه الأساسي في تحقيق العيش بأمان له ولعائليته، في ظل محاصرتهم بتحديات جسيمة أفسدت عيشهم.
تدور أحداث فيلم (فبراير الأسود) فى الفترة من فبراير 2010 إلى فبراير 2011، حيث كان الدكتور حسن (خالد صالح) أستاذ علم الاجتماع يؤمن هو وأسرته بأن الأمل مازال موجودا، رغم أحداث 25 يناير 2011، التي أثرت سلبا على حياة المصريين.
كما كان لدى (الدكتور حسن) أمل في أن أحوال البلد ربما تتحسن، ومن هنا كان يعمل على نشر هذا الأمل فى قلوب من يحيطون به من أسرته الكبيرة، إلى أن أوقعه القدر فى حادث أثبت له سذاجة أفكاره.
وقد تأكدت سذاجته عندما وقع هو وفوج من الناس أثناء رحلة (سفارى) فى الواحات فى منطقة رمال متحركة، وجاءت قوات الإنقاذ فأنقذوا أولا لواء أمن الدولة وزوجته وأولاده، ثم ثانيا أنقذوا المستشار ورجل الأعمال وزوجتيهما.
إهمال فريق الإنقاذ
لكن فريق الإنقاذ لم يعودوا في المرة الثالثة، وتركوا حسن (أستاذ علم الاجتماع) وزوجته وأولاده، و(صلاح/ طارق عبد العزيز) الحاصل على (دكتوراه فى الكيمياء) وزوجته وأولاده فى الرمال إلى أن انقذتهم كلاب وذئاب الصحراء، وأوصلوهم إلى بيتهم فى مبالغة مقبولة إلى حد ما.
هنا أدرك (الدكتور حسن) – بحسب قصة (فبراير الأسود) – أن فرصته وفرصة أمثاله من العلماء و الباحثين معدومة فى العيش بكرامة وأمان فى مصر الخارجة لتوها من أتون أحداث عاصفة في يناير.
وبحسب قصة (فبراير الأسود)، اجتمع مع عائلته، وقرروا أن فرصتهم الوحيدة هى أن يهاجروا إلى دولة تحترم العلم والعلماء، وإذا فشلوا وبقوا فى مصر، فليرتبطوا بأحد افراد المنظومات المحميه التى تحظى بالأمان الاجتماعى فى مصر.
ومن خلال عرض الدكتور (حسن) على السبورة لشرح أبعاد الأزمة لعائلته، فإن منظومة الأمن تتمثل أولا في (أمن الدولة والمخابرات، ثانيا منظومة العدل (القضاه والمستشارين والنيابة)، وثالثا منظومة الثروة (رجال الأعمال) وما عداهم هم خارج منظومة المجتمع الآمن على مقدرات حياتهم.
بدأت جرعة الكوميديا التي كتبها المؤلف والمخرج المبدع (محمد أمين)، تزيد مع بدء محاولاتهم بالهجرة مع السفير الإيطالي، ولكنهم يفشلون، ثم بدأو بالتقرب من قاضى شاب (عادل/ أحمد زاهر) ودفعوه ليخطب ابنة الدكتور حسن (بعد أن فسخوا خطوبتها مع خطيبها العالم الشاب (معتمد/ ياسر الطوبجي).
ولكنهم فشلوا أيضا، بعد أن تم فصله من القضاء بسبب اعتراضه على تزوير الانتخابات، وأعادوا نفس الكرة مع ضابط أمن دولة (طارق/ إدوارد)، ثم فشلوا أيضا بعد أن تم فصله بسبب رفضه تلفيق قضيه لناشط سياسى.
وفى خضم المحاولات يرى (الدكتور حسن) فيما يرى النائم مشهد تكريم (حسنى مبارك) لمنتخب مصر بعد بطولة أفريقيا 2010، ومشهد كابتن المنتخب (أحمد حسن وهو يقف بجوار رئيس الجمهورية شخصيا)، فيقرر (حسن) أن يدفع بابنه المحب للفيزياء لاحتراف كرة القدم.
يأتى مشهد النهاية في فيلم (فبراير الأسود)، بعد عام كامل من المحاولات فى منزل الدكتور حسن بعد أن عاد الضابط لعمله، وقرر أن يتزوج من ابنة (الدكتور حسن)، وفجأه يدخل القاضى الشاب، بعد أن عاد هو الآخر إلى عمله ويطلب الزواج من ابنة (حسن).
والمفارقة هنا أنه كان فى الخارج يقف العالم الشاب (معتمد) – خطيبها السابق (قبل حادثة الواحات) فى الشارع فى حالة انهيار-، فجأه نسمع أصوات مظاهرات ومسيرات أحداث 25 يناير، يقرر الدكتور (حسن) أن يلغى جميع الخطط والمحاولات ظنا منه أنه ربما تأتى هذه الثورة بنظام يصلح المنظومة الفاشلة ويجعل للعلم و العلماء قيمة.
تحجيم الجهات السيادية
وربما ظن الدكتور (حسن) أن تلك الأحداث قد تحجم سيطرة الجهات السيادية ورجال الاعمال على الوضع فى مصر.
يأتي آخر كادر فى الشريط السينمائى المبهر على مستوى القضية والأداء الجيد لفريق العمل، حيث يمتد هذا الشريط لساعتين، تجلس ابنة الدكتور (حسن) فى فستان الفرح وأمامها العرسان الثلاثة (رجل القضاء، ورجل الأمن والعالم الشاب)، لتنتظر ما ستسفر عنه الأمور حتى تختار رجل المرحلة المقبلة الفيلم.
وأستطيع القول أن (محمد أمين) كان مبهرا على مستوى الفكرة والتنفيذ، من خلال ما لاحظت من تطور واضح على مستوى الصورة أيضا، وللأمانة كان أداء الممثلين منظبط مع لمسات إبداعية متوقعة من (خالد صالح).
في عام 2010 كان قد بلغ الفساد الاجتماعي والسياسي في مصر حدا ينذر بانفجار مجتمعي قريب، مما دفع المخرج والكاتب (محمد أمين) لكتابة فيلمه (فبراير الأسود)، ليندد من خلاله بدولة النفوذ والفساد اللذين عصفا بطبقات المجتمع المصري.
وذلك من خلال تصوير واقع حياة عائلة عالم مصري ينتمي للطبقة المتوسطة، تضطر للتخلي عن مبادئها وقيمها سعيا للحصول على الأمان، الذي تكتشف أنه لا أحد بالمجتمع المصري يحظى به سوى (الأسياد) بمصر، الذين يحظون بشبكات أمان حتى نهاية المدى.
رأي النقاد في الفيلم
يرى الناقد الفني (وليد سيف): أن الفيلم يصور حالة الواقع الاجتماعي في مصر قبل أحداث 25 يناير، وأن المواطن لجأ لاستخدام أساليب مشروعة وغير مشروعة ليحمي نفسه في وطنه الذي لا يحمي سوى الجهات السيادية فقط.
وحتى يحمي رب الأسرة نفسه وأسرته في الوطن، كما يوضح هذا الكاتب الصحفي والناقد (رامي عبد الرزاق) في أن الأب (حسن) سعى لاستقطاب أحد الأشخاص من الفئات الآمنة داخل أسرته، كأن يبحث عن زوج لابنته من هذه الفئات، أو أن يخرج من أسرته من ينضم لتلك الفئات.
وكعادته في السباحة ضد التيار، يقول الناقد السينمائى (طارق الشناوى)، إن فيلم (فبراير الأسود عبارة عن خيال (كسيح)، ولم تشفع النجاحات السابقة لمخرج العمل (محمد أمين)، الذى صعد فى الآوانة الأخيرة إلى عالم الإخراج السينمائى بأعماله (فيلم ثقافى، وليلة سقوط بغداد، وبنتين من مصر).
ويقول (الشناوى): إن العمل غرق فى الخيال، وهو منهج اتبعه المخرج (محمد أمين) فى أفلامه الأخيرة حيث تناول أعماله قدرا من الغلظة فى التعبير اللفظى والحركى، وفى فيلمه (فبراير الأسود) كانت لديه فكرة رائعة.
ولكن الحالة نفسها فى التعبير السينمائى على مستوى كتابة السيناريو لم تحقق أى وهج، حتى أبطاله أراهم مطفئين، (خالد صالح) الذى كانت له أعمال فنية عديدة، يمنحها قدرا من الخصوصية، وتشع ضوءا.
هذه المرة كان هناك شىء من الظلام يغلف ـ ليس فقط الأحداث ـ ولكن الشخصيات حتى المشاهد التى كان من المفروض أن تبعث على الضحك، لم تثر فى كثير من الأحيان سوى النفور.
أما الناقد (على أبو شادى) – رحمه الله – فقال: إن الفكرة القائم عليها الفيلم تمثل مفتاح ساذج وضعيف لفيلم فبراير الأسود، يطالعنا به (محمد أمين)، بعد مقدمة لدكتور حسن وعائلته إلى اللحظة التى ينتزع فيها وطنيته ويقرر السفر والرحيل خارج البلاد، لتفشل خطتهم الساذجة والسمجة والفجة فى الحصول على الحماية من خلال حصول ابنته على الزواج من أحد رجال السلطة.
إمكانية تحقيق الأحلام
فيلم (فبراير الأسود)، الذي تم إصداره في عام 2013، يعتبر واحدا من الأعمال السينمائية البارزة التي استطاعت إلقاء الضوء على قضايا اجتماعية هامة في المجتمع.
كما أن الفيلم يسلط الضوء على قيمة الأمل والإيمان بإمكانية تحقيق الأحلام رغم الظروف الصعبة التي تحيط بالفرد والعائلة، ومن هنا يعكس فيلم (فبراير الأسود) رسالة إيجابية حول قوة العائلة والمحبة في التغلب على صعاب الحياة الشاقة في مصر.
وعلى الرغم من عدم نجاح الفيلم في تحقيق كافة الأهداف المعلنة وغير المعلنة، وكذلك إخفاقه الكبير في شباك التذاكر، إلا أن فيلم (فبراير الأسود) ترك بصمة في قلوب المشاهدين وأثر بقوة في الساحة السينمائية المصرية.
تتنوع رسائل الفيلم وتفاصيله بشكل ملحوظ، مما يجذب الجمهور ويثير الانتباه إلى المواضيع الهامة التي يتناولها العمل، ويبرز دور الفن في التعبير عن الواقع بأسلوب إبداعي يلهم الجماهير ويثير النقاش البناء حول القضايا الشائكة.
تحثنا قصة (فبراير الأسود) – بحسب آراء النقاد المعتدلين في هذا الوقت – على التفكير بإيجابية، والاعتقاد بأن كل تحد يمكن تجاوزه بإرادة وصبر وثقة بالنفس، تدعونا الشخصيات إلى تبني مواقف متفائلة حتى في أصعب الظروف لتحقيق التغيير والتحسين في حياتنا وفي محيطنا.
وبهذه الطريقة، ترك فيلم (فبراير الأسود) رسالة إيجابية تلهم المشاهدين بالتفاؤل والإيمان بأن كل ظلام يأتي بنور، وأن الصمود والثقة قد يكونان المفتاح لتحقيق الأهداف وتجاوز الصعاب.
تألق (خالد صالح، وطارق عبد العزيز)
وأشهد أنه تألق النجمان الراحلين: (خالد صالح، وطارق عبدالعزيز) في فيلم (فبراير الأسود) بأداء قوي ومميز يظهر مدى احترافيتهما واستمراريتهما في تقديم أدوار مميزة، فقدم (خالد صالح) أداء مميز في دور الدكتور حسن.
حيث نجح (صالح) في التعبير عن تراجيديا الشخصية وتضارب المشاعر التي يمر بها الشخصية خلال الأحداث المتلاحقة، وقد عرف الراحل (خالد صالح) بقدرته على استغلال التفاصيل وإظهار التأثير العميق للظروف على الشخصية، مما جعل أداءه مؤثرا ومقنعا.
ومن جانبه، قدم أيضا (طارق عبدالعزيز) أداءا قويا ومقنعا في دور (الدكتور صلاح)، حيث نجح في تجسيد الشخصية بمصداقية وقوة تعبير، مما جعل الشخصية تبدو واقعية وملموسة للمشاهدين، كما برز (عبدالعزيز) بقدرته على تقديم الشخصيات القوية والملهمة، وتأثيره الإيجابي على تطور الحبكة الدرامية.
وفي النهاية: على الرغم من الهجوم الكاسح على فيلم (فبراير الأسود) – في حينه – إلا أن تجربة (محمد أمين) – الذي غالبا ما يفكر خارج الصندوق – ترك لنا شريطا سينمائيا يعبر عن الواقع الأليم، ولسان حاله يقول: (ما أشبة فساد الليلة بالراحة).. و ربما هذا إسقاط يعتبر في محله الآن!