محمد عبد الواحد يكتب: (روزاليوسف).. صناعة كاتب اسمه (إحسان عبد القدوس).. (7)
بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
لـ (إحسان عبد القدوس) ما يزيد عن الـ 600 رواية وقصة و49 فيلما سينمائيا ومئات المقالات السياسية ذات الأثر البالغ في الأحداث السياسية المصرية.
حكاية اسم:
حملت (روزاليوسف) بابنها (إحسان) بعد زواجها من الفنان المهندس (محمد عبد القدوس).. ولدته بعد انفصالها عنه بشهرين في يناير عام 1919.. ظل اسم إحسان نغزة دائمة في ظهره كطفل ذكر.
تسبب هذا الاسم (الحريمى) في التنمر به وإحراجه في مواقف عدة بين زملائه ومدرسيه في المدرسة.
ولكى يصالح الأب محمد عبد القدوس ابنه – وبصفته كاتب مسرحى إلى جانب كونه ممثلا – فقد كتب مسرحية لم يحصل لها على مقابل سوى طلبه لشرط واحد هو أن تنتشر لوحات باسم هذه المسرحية في جميع أنحاء القاهرة .. كان اسم المسرحية (إحسان بيه).
أما عن اللقب (عبد القدوس) فهو لا يمت للعائلة بصلة.. فالجد هو الشيخ الأزهرى (أحمد رضوان).. والجد على رغم صرامته والتزامه الدينى الأقرب إلى التزمت كان محبا للموسيقى.
يستقبل في منزله الواسع بشكل شبه يومى فرقة تخت شرقى رجالى تصدح بالأغانى والمواويل.. تعهدها (الشيخ أحمد) بالرعاية والمال والطعام والشاي مع النعناع، لترد الفرقة الجميل إلى متعهدها بأغنية مازالت تتردد حتى اليوم وبتوزيع حديث ( يا بتاع النعناع يا منعنع.. يا منعنع.. يا بتاع النعناع يا شيخ أحمد).
والمقصود هنا هو ؤ جد (إحسان عبد القدوس).. من ضمن أفراد هذا التخت الشرقى كان عازفا قبطيا مقربا إلى قلب (الشيخ أحمد) يدعى عبد القدوس.. أضاف الأب اسمه إلى اسم ابنه (محمد) ليصبح اسمه المركب (محمد عبد القدوس).
(إحسان) محامى فاشل
تخرج (إحسان عبد القدوس) من كلية الحقوق.. لكنه يعترف بإخفاقه كمحامى، يقول عن فشله: (كنت محاميا فاشلا لا أجيد المناقشة والحوار، وكنت أدارى فشلى فى المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت، وهو أمر أفقدنى تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامى فى أن أكون محامياً لامعا).
وحينما أراد دخول عالم الصحافة لم يطلب من أمه الحاقه بمجلتها روز ليوسف لعلمه بشخصيتها، وأنها سترفض ذلك لظنها أنه وراء طلبه مجرد كونه ابنها.
بدأ (إحسان عبد القدوس) في كتابة مقالات سياسية و أدبية و يرسلها الى مجلة (روزاليوسف) بأسماء مستعارة لتجد طريقها بالفعل إلى النشر، وتنال نصيبها من متابعة القراء وإعجاب هيئة التحرير.
بعد عشرات المقالات صرح (إحسان عبد القدوس) لأمه بأنه الكاتب الحقيقى لهذه المقالات فألحقته لفورها بالمجلة.. و عهدت إلى (محمد التابعي) بصقله.. ليحقق بالفعل نجاحات هائلة أصابته بالغرور.
حتى أنه طالب أمه ذات يوم أن يصبح رئيسا لتحرير المجلة لتفاجئه بطرده من مكتبها، بل ومن المجلة كلها لمدة طويلة حتى عاد بعدها معتذرا مستوعبا للدرس طالبا عودته كمحرر.
يقول (إحسان عبد القدوس) عن هذا الحادث أنه رغم علاقة الحب التي تصل إلى درجة العشق المتبادلة بينهما فقد طردته (لقد طردتنى أمى من العمل.. و كان الطرد وقسوته قد أثر على نفسيتى.
فقد حدث ذلك وأنا متزوج وصاحب أولاد صغار.. وقد ازدادت حالتى النفسية سوءا حينما ظلت عاما كاملا لا تخاطبنى.. و قد ترانى في مكان عام فتتجاهلني.. وأمد يدى لأقبل يدها فترفضها.
بل أنها ضربتنى يوما في مكتبى وبين زملائى عقب تخرجى وحصولى على ليسانس الحقوق.. كنت أعلم أن قسوتها أحيانا عليّ وعلى أختى من أجل أن نبتعد عن المسالك الخاطئة، وأن نلتزم طريق الصواب، كما أضاف: كانت أمي تؤمن بأهمية استقلال الشخصية إلى أبعد مدى).
هذا الرجل يجب أن يذهب
عام 1945 وحينما كان عمر (إحسان عبد القدوس) 25 عاما كتب في مجلة (روزليوسف) مقالا ارتجت له الأوساط السياسية في مصر.. نشرته (روزاليوسف) بعنوان عريض: (هذا الرجل يجب أن يذهب)، والمقصود بهذا الرجل هو سفير بريطانيا الذى تم تعيينه في مصر (اللورد نيكرن).
أشار (إحسان عبد القدوس) في مقاله إلى تاريخ هذا الرجل الذى يتم تعينه سفيرا الآن في مصر بأنه من وجه من قبل الإنذار الشهير للملك (فاروق) بضرورة تعيين (مصطفى النحاس) رئيسا للوزراء.. وأنه تعامل وكأنه ملكا لمصر.
فور نشر المقال تم القبض على (إحسان عبد القدوس) وتحويله إلى النيابة للتحقيق معه بتهمة الإساءة إلى شخصية صديقة لمصر.. كما تم مصادرة مجلة (روزاليوسف).
سارعت (روز) بالذهاب إلى مقر النيابة تصيح في المحقق (أنا رئيسة التحرير.. والمسؤولة عن النشر).. بينما أصر (إحسان عبد القدوس) على كامل مسؤوليته.
استمر كلاهما في إصرار على تبنى المسؤولية أمام وكيل النيابة الذى كان يتابع في ذهول محاولة كلا منهما إلصاق التهمة بنفسه لينهى الجدل بأمره بسجن إحسان عبد القدوس).
عقبت (روز اليوسف) على ذلك في مذكراتها بقولها: (انحاز وكيل النيابة لابنى .. وكانت الهزيمة من نصيبي).
تم إيداع إحسان عبد القدوس سجن الأجانب لأيام.. كانت زوجته تحمل ابنهما الرضيع – محمد عبد القدوس – على كتفها وتجلس به تحت شبالك الزنزانة تبادله النظرات من بعيد.. أفرج النقراشى باشا عن إحسان.
وقد برر فيما بعد لروزا سجنه لابنها بأن سماحه لمثل هذا النوع من الهجوم على الإنجليز في هذا التوقيت يعنى فشل المفاوضات معهم.. لذلك كان مضطرا لإيداعه السجن.
الإفراج عن (إحسان عبد القدوس)
بعد الإفراج عن (إحسان عبد القدوس) من السجن قالت روزا (الآن دفع إحسان ثمن تقلده وظيفة رئيس التحرير).
كان (إحسان عبد القدوس) متشبعا بعزيمة أمه.. وبروح التمرد التي تسرى في كيان روز ليوسف.. فلم يردعه السجن عن كتابة سلسلة جديدة من المقالات عام 1950عن الأسلحة الفاسدة في فلسطين عام 1948،
والتي كانت القيادة السياسية في مصر بقيادة الملك فاروق والنقراشى باشا قد قررت خوضها قبل الانتهاء من الانتداب البريطاني على فلسطين بأسبوعين فقط!!.. أقر البرلمان قرار الحرب.
ولضيق الوقت تم تشكيل لجنة سميت لجنة احتياجات الجيش ومهمتها إحضار السلاح بأسرع وقت دون أي رقابة عليها أو قيود.. فتم التوجه لتجار الخردة وشراء أسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية التي كانت مبعثرة على رمال الصحراء الغربية لمصر..
من ضمن العناوين لإحدى هذه المقالات في روز اليوسف: (محاكمة مجرمى حرب فلسطين.. القنابل اليدوية تنفجر بمجرد اللمس).
من ضمن الفقرات التي كتبها (إحسان عبد القدوس) في هذا المقال: (هؤلاء الشهداء والجرحى والمشوهون الذين تستيقظ القوانين واللوائح المالية في وجوههم لتعرقل صرف مرتباتهم لهم ولأهاليهم ثم تنام نفس القوانين واللوائح عندما تكون هناك صفقة من الصفقات المشكوك في أمرها..
هؤلاء الذين لا تزال جثث الأموات منهم مبعثرة في مقبرة بلا سور وبلا كرامة.. والأحياء منهم يطوفون شوارع القاهرة بأذرعهم وسيقانهم المقطوعة ووجوههم المشوهة يستجدون عملا).
ورغم تلقيه وأمه عشرات الرسائل المبطنة والصريحة تطالبه بالتوقف عن نشر هذه السلسلة، إلا انه لم يلتفت إلى تهديداتهم فتحولت إلى التنفيذ بضربه بعنف مرة وبمحاولات متكررة لاغتياله تم في إحداها طعنه أسفل خلف عنقه مما أصابه بجروح بالغة.
اهتز الرأي العام لما كشفته هذه السلسلة من مقالات (إحسان عبد القدوس) في (روزاليوسف) من الكم الهائل للفساد الموثق، والذى طال المتاجرة بدماء أبنائهم جنود مصر مما أدى إلى ضغط شعبى هائل على وزير الحربية دفعه للتقدم ببلاغ للنائب العام يطالبه بفتح تحقيق فيما نشر بروز ليوسف عدد رقم 149.
كان هذا الفوران الشعبى بداية دوران آلة ثورة يوليو التي بدأ ضباط حركتها في التواصل مع (إحسان عبد القدوس) ليشاركهم التمهيد الشعبى لثورة يوليو.. وليبدأ هو وأمه (روزاليوسف) مع الضباط الأحرار فصلا جديدا يكن يتوقعه أحد.