بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
يدفعنى كثير من الأصدقاء الى كتابة مذكراتى أو بمعنى أدق كتابة سيرتى الفنية، معتقدين أنها ستفيد في تأريخ جزء من حركة المسرح المصرى الذى عاصرته لأكثر من خمسين عاما قضيتها بين كواليسه ووسط صانعيه من كتاب وممثلين و إداريين وفنيين، بل إن بعضا من الناشرين عرضوا التعاقد معى فورا لنشرها!، خاصة مع عرض مسرحيتي الحالية (مش روميو وجوليت)، والحقيقة أننى كلما هممت بالجلوس للكتابة، أتراجع خشية غضب بعض الأصدقاء والزملاء.
فطبيعتى الصريحة قد لاتعجب البعض و آرائى – التي تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب – قد تغضب البعض الآخر، عدا طبعا المترصدين والمتشككين والشتامين بأجر أو بدون، وهناك عشرات الأمثلة وقعت بسبب رأى نشرته هنا أو هناك، فلماذا أخسر الناس؟
و لكن عندما رويت لصديق أثق في رأيه سلسلة المعارك والصراعات والاحداث الغريبة والعجيبة التي خضتها حتى تم افتتاح مسرحيتى الجديدة (مش روميو و جولييت) على المسرح القومى منتصف هذا الشهر.
قال أن ما حدث هو مسرحية أخرى تستحق أن يراها الجمهور ليعرف حجم المعاناة التي يعانيها الفنانون في عملهم وأن الفكرة السائدة عن سهولة (الفن)، وسهولة (عمل الفنانين) لابد و أن تُصحح.
ومضى يحدثنى أن من واجبى أن أروى هذه الوقائع للأجيال الجديدة – أو من هم اصغر منى سنا و خبرة – ليعلموا أن المتاعب تصيب الجميع، لافرق بين مخرج معروف و آخر في بداية حياته العملية.
وسط الأزمات والمتاعب
وأن يشطبوا من قاموسهم كلمة (اليأس)، فربما كان الله يؤخر عنهم ما يطلبون ليعطيهم الأفضل، كما أن من واجبى أن أنبه لأوجه القصور في حياتنا المسرحية.
لاأنكر أن حديثه شجعنى كى أكتب تلك الأحداث كما وقعت، ولكن ما شجعنى أكثر أننى اكتشفت أن هناك وسط الأزمات والمتاعب أشخاص ساعدونى ووقفوا بجانبي، وأنهم يستحقون الشكر.
ولزاما على أن اسجل شكرى لهم بعد شكرى لله الذى أعطانى أكثر مما استحق ومنحنى القدرة على الاحتمال وألا أحزن على ما فات.
و من هذا المنطلق قررت ان أروى القصة كاملة:
منذ عامين تقريبا قدمت عرضا غنائيا عن المخرج المصرى العبقرى (عزيز عيد) – في افتتاح الدورة الخامسة عشر للمهرجان القومى للمسرح المصرى التي كانت تحمل اسمه – صادف هذا العرض نجاح باهر وإشادة من معظم النقاد و المسرحيين.
تجلت في التحية النهائية للعرض التي وقف فيها الجمهور مصفقا لفترة طويلة – بما فيهم الأستاذة الدكتورة إيناس عبد الدايم – وزير الثقافة في ذلك الوقت – و بعد مراسم الافتتاح اقتربت منى الدكتورة ايناس لتقول: أمال بيقولوا معندناش مسرح غنائى ليه؟ ما ييجوا يشوفوا.
وفوجئت بها تطلب إعادة تقديم العرض على مسرح الأوبرا لعدة ليالى، و هنا تدخل الأستاذ (إسماعيل مختار) رئيس البيت الفني للمسرح آنذاك طالبا أن تكون تلك الإعادة على المسرح القومي.
وهنا قالت الوزيرة: الأوبرا إمكاناتها أكبر، وإمام إلحاح (إسماعيل) قالت الوزيرة نعرضه في الأوبرا و بعدين القومي، و كان ذلك غاية ما أتمنى.
في نفس الليلة وجدت الأستاذ الدكتور (مجدى صابر) رئيس دار الأوبرا يبحث عنى ليطلب منى تقديم عمل غنائى لأحدى فرق الأوبرا، فاتفقنا على لقاء بمكتبه بعدها بأيام، وهكذا في غمضة عين أصبحت أمامى فرصتان لتحقيق حلم يراودنى منذ سنوات طوال:
مسرح غنائي حقيقي أو مسرح غنائي بالمعنى العلمى، والمقصود بالمعنى العلمي هنا أن تكون الأغنيات جزءا أساسيا من العرض لا يستقيم الموضوع بدونها، ويختل بناؤه إذا تم حذف أيا منها.
وهى ليست أغاني فردية لوصف الحالة كما يحدث في المسرح عادة، ولكن أن يكون الحوار أيضا مغنى أو موقع و أن تشارك جميع شخصيات المسرحية في الغناء.
وأقرب الأمثلة على ذلك الأوبريتات القديمة التي أبدعها كتابة بيرم التونسي وبديع خيري وغيرهم، و لكن حلمى كان أكبر من مجرد أوبريت فمنذ قرأت في شبابى عن التجربة الغنائية (عيسى المسيح النجم الأعظم) وشاهدتها.
أوبرا شعبية – Rock Opera
وقد تم نقلها إلى الشاشة كفيلم مستعينين بنفس شريط الصوت الخاص بالمسرحية – لأنهم لا يصورون المسرحيات على المسرح – و أنا مبهور بهذا الشكل الموسيقى الذى يسمى (أوبرا شعبية – Rock Opera).
فالمعروف أن الأوبرا هى مسرحية مغناة من بدايتها لنهايتها، وربما تتخللها بعض الحوارات القليلة الموقعة، ولكن الغلبة فيها للغناء، ولكن الأوبرا لها قوالب موسيقية كلاسيكية ربما لا يستسيغها البعض.
وفي نهاية ستينات القرن الماضى ظهرت مسرحيات موسيقية مغناة من البداية للنهاية و لكن بألحان شعبية وليست كلاسيكية كالأوبرا، ربما كان أشهرها عرض (تومى) 1968 الذى قدمه عازف الجيتار (بيت تاونسند).
ليحكي قصة شاب موسيقى ضرير (تومي ووكر) وكفاحه حتى صار شخصية مشهورة وزعيما روحيا، و يرى النقاد أنه عمل هام ومؤثر في تاريخ موسيقى الروك، ثم جاء عرض (عيسى المسيح النجم الأعظم – 1970)، لكل من (تيم رايس ) كاتبا و(أندرو لويد ويبر) ملحنا و الذى عرض لسنوات طويلة بنجاح ساحق.
وبعده جاء العرض الرائع (الحائط – 1979) لفرقة (البينك فلويد) ليحكى عن شخص بنى حائطا حول نفسه ليحميها من متاعب الحياة وإحباطاتها.
تطورت (الروك أوبرا) بعد ذلك لتصبح (موضة) الاعمال المسرحية، وتسابقت أمريكا وإنجلترا في تقديم روائع كثيرة منها: (البؤساء، شيكاغو، شبح الأوبرا، أما في مصر فظلت المحاولات محدودة.
ولكن الأسبق لها كانت تجربة الموسيقار الكبير (محمد نوح) مع الشاعر الرائع (صلاح جاهين) في تقديم أول أوبرا شعبية من إخراج وإنتاج المخرج الكبير (جلال الشرقاوى) في منتصف الثمانينات (انقلاب).
وللأسف صادف العمل كثيرا من سوء الحظ، ربما سببه كان إحساس المتفرج أنه يجلس أمام ممثلين يحركون شفاههم ، فالعرض بكامله مسجل!
توجهت إلى بيتى الأول: المسرح القومى بصحبة الأستاذ (إسماعيل مختار) للقاء الصديق (إيهاب فهمى) مدير المسرح القومى – في ذلك الوقت – للاتفاق على إعادة تقديم عرض (عزيز عيد).
فقد كنت أفضل المسرح القومى لعدة أسباب: منها أن العرض عليه ليس محدودا بأيام قليلة مثل الأوبرا – التي لا يزيد أي عرض بها عن عشرة أيام موزعة على موسم بأكمله (6 شهور).
حياة (عزيز عيد)
ومضيت أشرح للاصدقاء (إسماعيل و إيهاب) ما أنوى عمله، فالعرض الذى تم تقديمه في افتتاح المهرجان في 35 دقيقة سوف يتحول إلى عرض طويل (ساعتين)، فحياة (عزيز عيد) بها من الأحداث والوقائع ما يملأ مسلسلا وليس مسرحية فقط.
كما شرحت لهما كيف أن العرض سيستعرض بشكل غنائى تاريخ مصر في سنوات اتسمت بالتحولات التاريخية، منذ (حادث دنشواى) في 1906 مرورا بالحرب العالمية الأولى وصولا الى ثورة 1919، وما بعدها من هبات وطنية تطالب بالجلاء وانتفاضة 1935، وينتهي بالحرب العالمية الثانية حيث مات (عزيز عيد) قبل أن تنتهى.
ومن خلال الأحداث سنرى تأثر الفن بالسياسة والاقتصاد، وجزءا من حياة ومعاناة فنانينا الكبار الذين عاصرهم (عزيز) مثل (نجيب الريحانى و يوسف وهبى و جورج أبيض وفاطمة رشدى).
وبعد الوصف والشرح والأحلام فوجئت بأن خطة القومى بها عرضان لم يتم افتتاحهما، بل إن الثانى لم تبدأ بروفاته بعد، وبالتالى فالمتوقع هو تقديم العرض بعد ستة شهور على الأقل.
لم أعترض بالطبع فلكل مسرح خطته، ولا أقبل لنفسى اقتحامها أو تعديلها، ولكنى طلبت أن يتم التعاقد معى كى أبدأ التحضير، فلقد كان للمسرح القومى معى في السنوات السابقة عدة وقائع لا تُطمئن وتجعلنى لا أثق بالوعود الشفهية، حتى جاء عرض (مش روميو وجوليت).
وتلك قصة أخرى..