رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(عبد الخالق صالح).. ضابط البوليس البارع الذي ظلمه الفن!

كتب: محمد حبوشة

شاهدناه كثيرا على شاشة السينما، ومع ذلك لانعرف عن حياته إلا قليلا، فهو أحد مظاليم الفن الذين لم تسلط أضواء كاشفة، ربما لأنه لم يعش عصر السوشيال ميديا، إنه الفنان الكبير (عبد الخالق صالح) والد المخرج العظيم (علي عبد الخالق).

اشتهر (عبد الخالق صالح) بأدوار ضابط البوليس وزعيم العصابة، وقد يكون ذلك جراء تخرجه في كلية الشرطة، وممارسة العمل البوليس حتى وصل رتبة لواء، وصدر له قرار بتولي مديرية أمن سوهاج، لكنه لم ينفذ القرار وقرر التفرع للفن.

 من المؤكد أن (عبد الخالق صالح) شعر أن التمثيل يلبى الحاجة الى الدفء والحماية والامتلاء، ولعل الكثير من الممثلين يشعرون بالفراغ بعد انتهائهم من التمثيل، ذلك لأن أعماقهم تصبح خاوية أو مستنزفة، ومن هنا رأى (صالح) أن التمثيل نوعا من العلاج النفسى، وطريقة لتحرير الذات من هموم معينة.

من جهة أخرى، لابد أن الممثل (عبد الخالق صالح) كان يتملكه خوف من العزلة لكى يتوق إلى الأضواء الساطعة، ويرغب فى أن يكون محور الاهتمام والرعاية، لكن الظلام الإعلامي كان رفيق العزلة.

من هنا تأتى الحاجة الملحة لأن يكون الفنان مرئيا، فالحجب ينفى وجوده، إنه شكل من أشكال الدفاع عن النفس، لكن الأضواء تعنى أيضا الشهرة والثراء والنجاح: مجالات مغوية وذات إشعاع خاص.

عديدة هى مصادر الممثل، التجربة الحياتية، الخبرة الثقافية، الخيال، الذاكرة، الرصد والملاحظة، وهو مايؤكد أن (عبد الخالق صالح) رأي أن كل ممثل يحتاج إلى هذه المصادر، أو يبحث عن مصدره الخاص.

لأن ذلك يعزز طريقته فى الأداء ويثرى تجربته ويساهم فى تطوير إمكاناته وأدواته التعبيرية، يقول روبرت دى نيرو يتعين على الممثلين ان يعرضوا أنفسهم لما يحيط بهم، ان يخلقوا نوعا من الاتصال، ويحتفظوا بأذهانهم مفتوحة لتلقى كل ما يحدث فى هذا المحيط عاجلا أم أجلا، سوف تنسل فكرة لرأسك، شعور، مفتاح، أو ربما حادثة.

خبرته البوليسية أفادته  كممثل فيما بعد

خبرته البوليسية أفادته في التمثيل

ومن هنا أدرك (عبد الخالق صالح) أن خبرته البوليسية ستفيد الممثل فيما بعد، ويستطيع ان يربطها بالمشهد عند التنفيذ، انطلاق من أن الممثل لايستطيع ان يعزل نفسه عن المحيط.

إنه يتأثر ويتفاعل مع ما يراه وما يحدث وما يزخر به الواقع من نماذج وعادات وسلوكيات،  وردود الفعل التى عادة تكون عفوية وسريعة عند الفرد، لكنها عند الممثل تصبح مدروسة وخاضعة للتحليل وذلك بالتركيز عليها وتمديدها ومنحها خاصية استثنائية.

الممثل (عبد الخالق صالح) كان لايكف عن تأمل الآخرين، دراستهم تحليلهم، ومحاكاة حركاتهم وأصواتهم إذا اقتضى الأمر ذلك  على طريقة (دوستين هوفمان) يستمد مصادره غالبا من مراقبة الآخرين فى أماكن تواجدهم وهو يرصد فى المقام الأول إيقاعهم الخاص.

حتما لكل فرد إيقاعه المميز، ليس هناك تشابه بين إيقاعين، على الممثل أن يجد أولا الإيقاع الخاص للشخصية التى يخلقها، وأفضل وسيلة كان يفعلها (عبد الخالق صالح) هى متابعة الشخص عبر الشارع، التقاط طريقة مشيته، محاكاتها فيما تفعل ذلك، لاحظ ما يحدث لك بالتركيز على إيقاعهم الشخصى ستجد أنك قد أصبحت شخصا مختلفا.

(عبد الخالق صالح) كان يعي جيد أن الممثل يسعى إلى التماهى والتطابق مع الدور، حتى وإن كان متعارضا مع ذاته الحقيقة، انه يكيف ذاته ويلج الدور ليقطن فى الشخصية، وأثناء ذلك يقوم بتحويل نفسه ليس جسمانيا، كمظهر وانتحال حركى وصوتى، فحسب، بل أيضا ذهنيا وروحيا، بحيث يبدو مختلفا تماما.

هل تذكرون معي (عبد الخالق صالح) فى فيلم (الرجل الثانى) الذى قام ببطولته الفنان الراحل رشدى أباظة، ظلت الشرطة تبحث عن رئيس العصابة، أو الرجل الأول، ومن المفارقات أن الفنان الذى جسد شخصية رئيس العصابة كان فى الأصل لواء شرطة، وهو الراحل (عبدالخالق صالح).

ضابط بوليs في فيلم (الرجل الثاني)

رئيس البوليس السياسي

وهو رئيس البوليس السياسى فى فيلم (فى بيتنا رجل) الذى شك فى (عبدالحميد) رشدى أباظة، وقال لخطيبته (زهرة العلا) التى لحقت به فى المحافظة حتى لا يقوم بالإبلاغ عن (إبراهيم) عمر الشريف، وقال له فى لغة الظابط الداهية: (ماتنسوناش فى الملبس).

وكما قلت في البداية أنه والد المخرج علي عبد الخالق، وقد ولد فى 21 يونيو 1913 وتوفى فى 14 مارس 1978 بعد أن شارك فى 81 عملا، أبرزها (السلم الخلفى، ليل وقضبان، الشيطان امرأة، الشيماء، أغنية على الممر، بنات فى الجامعة، فى بيتنا رجل.

فضلا عن أفلام (الرجل الثاني، السبع بنات، البنات والصيف، غراميات امرأة، عنتر يغزو الصحراء، بداية ونهاية، لن أعترف، الزوج المتشرد، فطومة، لا تطفئ الشمس، دماء على النيل، عنترة بن شداد، طريق الدموع.

وأيضا أفلام (مذكرات تلميذة، يوم بلا غد، سلاسل من حرير، كلهم أولادي، أيام بلا حب، دنيا البنات، سر الغائب، الأشقياء الثلاثة، أنا الهارب، الرجل الثعلب، عروس النيل، عريش طائش، عريس لأختي).

تخرج (عبد الخالق صالح) فى كلية الشرطة، وعمل فى سلك البوليس، وأنهى حياته العسكرية لواء بالبوليس، بدأ حياته الفنية عام 1958، مع المخرج عز الدين ذو الفقار، وعمل فى المسرح العسكرى، ومع ثلاثى أضواء المسرح، ومثّل فى بعض الأفلام المشتركة مع إيطاليا.

(عبد الخالق صالح) واحدا من وجوه الشر في السينما المصرية، ونجح في وقت قصير بإثبات موهبته وجدارته في عالم الفن، وبعد أن هجر حلمه وشغفه في الفن لـ 25 عاما، استطاع أن يحقق حلم الطفولة ويدخل التمثيل فيكون من أهم وجوه خمسينات وستينات القرن الماضي.

رفض والده رغبته في الفن وأصر على ضرورة أن يصبح ضابط شرطة، وحين بدأ (عبد الخالق صالح) بإبداء رغبته في التمثيل قام والده بطرده، وتحت الضغط التحق بكلية الشرطة وأهمل شغفه وحلمه في الفن متبعا أوامر والده، كان من أفضل طلاب الكلية وعمل فيها حتى حصل على رتبة لواء.

بعد مرور 20 عام على نسيانه لموهبته نزولا عند رغبة والده، قابل صديق المدرسة الفنان الراحل (فاخر فاخر)، كانت تلك المقابلة بمثابة تحويل مسار لحياته، فهو صديقه المقرب وكانوا يقومون ببعض المسرحيات في المدرسة.

قرر الصديقين تجميع البقية وتكرار التجربة لاستعادة الذكريات، فتفاجأ صديقه بموهبته الفريدة وكان من ضمن المدعويين المخرج عز الدين ذو الفقار، أعجبته موهبة عبد الخالق وعرض عليه دور زعم عصابة في فيلمه الجديد (الرجل الثاني) فوافق على الفور، وقدم استقالته من كلية الشرطة ليبدأ مشواره الفني الحقيقي.

الغريب أنه بدأ التمثيل في مرحلة متأخرة من عمره، وإن كان قد عمل بالفن مايقرب من عشرين عاما، بعد أن ترك البوليس الذي كان قد تدرج في العمل به حتى وصل إلي رتبة لواء وعين مأمورا في قرية (سدس الأبرار) التابعة لمحافظة بني سويف.

براعته الشديدة في آداء دور رجل البوليس السياسي ذو الملامح الجامدة القاسية

براعته في أداء رجل البوليس

ومع براعته الشديدة في آداء دور رجل البوليس السياسي ذو الملامح الجامدة القاسية، إلا أنه برع أيضا في دور زعيم العصابة الذي لا يرحم، وعمل في المسرح العسكري، وشارك في مسرحيات ثلاثي أضواء المسرح.

هناك ممثلون يجسدون الشخصية بطريقة مباشرة وغير معقدة، ومع ذلك نحس بالصدق فى أدائهم، مثل (عبد الخالق صالح)، ويظهرون قدرة عالية على فهم الشخصية وتوصلها ببراعة واقناع، وآخرون يعايشون الأدوار لكن دون القيام بتحريات أو عملية استقصاء سيكولوجى بشان الشخصيات، بل يعتمدون على الخبرة والحدس والغريزة.

ولعل (عبد الخالق صالح) كان يجيد ممارسة المدرستين، بالتأكيد، فالعملية تقتضى وعيا فنيا ومعرفة ثقافية وسيكولوجية ومقدرة استثنائية لدى المخرج، فالشخصيات التى يتعين على الممثل أن يجسدها ينبغى معرفة خلفيتها الاجتماعية والتاريخية ودوافعها.

وأيضا: المحركات أو المكونات التى تجعلها تفكر أو تشعر أو تتصرفى بطريقة معينة، لكن من جانب آخر، لقد كان على الممثل (عبد الخالق صالح) أن يتحمل مسؤوليته فيما يتصل بعملية السبر.

فمقابل تجاهل المخرج، على الممثل أن يبادر من تلقاء نفسه، ودون أن يملى عليه أحد ذلك، إلى الكشف عن مخزون الذاكرة وفحص تجربته الحياتية والثقافية لعله يجد تماثلات مع الشخصية، أو حالات ومواقف تثرى وتعمق الشخصية، وذلك بعد دراستها من جميع جوانبها وعبر مختلف المستويات، وهو بدا لنا واضحا في أدواره المختلفة.

برع (عبد الخالق صالح) في أدوار رجل البوليس وزعيم العصابة الشرير معا

الشخصية تتعايش مع ذاته

يتعين على الممثل أن يدع الشخصية تتعايش مع ذاته، أن تكون جزءا منه من كيانه، لا أن تكون غريبة وشاذة ومستقلة، لهذا برع (عبد الخالق صالح) في أدوار رجل البوليس والشر معا، لذا كان هذا الممثل البارع صادقا ومقنعا فى دوره، إن شعر بنفور او كراهية للشخصية التى يؤديها.

وحتى لو اتخذ موقفا محايدا إزاءها، فإن خللا ما سيظهر جليا للعيان، لابد ان يحب الشخصية أيا كانت، ولابد أن يشعر بأنها تمثل جانبا منه الظاهري أو الخفى، ربما كان الممثل (عبد الخالق صالح) لايشعر بارتياح، أو لنقل بتماثل، مع شخصية شريرة على سبيل المثال .

لكن هناك حتما جوانب مشتركة بين ذاته، وهذه الشخصية ربما ليس فى السلوك، أو فى حركة ما، فكرة ما، طموح ما، اتصال حميمى بشىء ما.

طني أن أعماق الممثل (عبد الخالق صالح) مأهول بالشخصيات، بالوجوه والأقنعة، وعلى الممثل أو المخرج أو كليهما معا أن يكتشفا الوسيلة التى بها يمكن إطلاق راحها.. إطلاق الطاقة الإبداعية الكامنة.

عندما يختار المخرج ممثلا فإنه يجد فيه خاصية معينة ملائمة للدور، ولأن أوصاف (عبد الخالق صالح) كانت تتطابق مع الشخصية المجردة المرسومة على الورق أو فى الذهن، والتى عادة تأخذ شكلا بصريا محددا ليس جسمانيا فقط بل أيضا كأصوات وحركات كانت وراء نجاحه في أدوار الشر التي يقاومها رجل البوليس داخله.

رحم الله الفنان (عبد الخالق صالح) الذي يعد واحدا من الفنانين الذين حققوا شهرة كبيرة ونجومية خاصة في أدوارهم التي جسدوها بعيدا عن أدوار البطولة، وهؤلاء الفنانين يوصفون دوما بأنهم أصحاب الأدوار الثانوية، ولكن تظل بصماتهم واضحة في كل الأعمال التي شاركوا فيها.

ومازالت كلمات وجمل الكثيرين منهم محفورة في ذاكرة عشاق السينما المصرية، ربما أكثر من بعض الأبطال المشهورين، وذلك رغم عدم معرفة الكثيرين لأسماء هؤلاء الفنانين المتخصصين في القيام بأداء الأدوار الثانوية.

ورغم أن الكثيرين ربما لا يتذكرون اسم الفنان (عبد الخالق صالح)، إلا أن الجميع يتذكره بأدواره التي جسدها في عدد كبير من الأفلام السينمائية الشهيرة التي تمثل علامات مضيئة في تاريخ السينما المصرية.

في آخر أيامه
مع زوزو ماضي
مع حسين الشربيتي
ضابط البوليس الذي أجاد في التمثيل
زعيم العصابة قاسي الملامح

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.