بقلم الناقدة: علا السنجري
وسط عدد كبير من الأعمال المعروضة في المولد الرمضاني، يأتي مسلسل (صلة رحم) بابداع يفرض جودته بواقعية مكتوبة باحتراف، ورسم ممتاز للشخصيات بابعاد نفسية واجتماعية، مع الاهتمام بكافة التفاصيل الكبيرة والصغيرة دون مط أو تطويل.
الكتابة في (صلة رحم) هى البطل الرئيسي لـ (محمد هشام عبية)، قدم العمل بكتابة مبنية جيدا في تحريك الشخصيات والأحداث بشكل بواقعي يتشابه مع أشخاص تجدهم حولك في كل مكان.
قدم أكثر من مجموعة تشكل شريحة من المجتمع، مثل الأطباء باختلاف مكان عملهم، (ليلى) تعمل في عيادة نفسية بتكاليف عالية وديكور بسيط مريح، بينما (حسام) زوجها يعمل في مستشفى حكومي في عيادات الطوارئ.
ودكتور (خالد) زميله يستغل عمله من أجل عيادة في بير السلم لعمليات الإجهاض، الأحياء الشعبية من خلال الكوافير مدام (مرفت ونورا وحنان)، وبائع الملابس على الرصيف، (فرج) الصعيدي زوج (حنان) بتناقضه.
خلق المؤلف في (صلة رحم) ناس تعرف جيدا الدين والأخلاق، لكنها تهاب القانون وتعمل ألف حساب له، قدم تناقض الشخصيات من خلال الصراع بين الحلال والحرام.
وذلك من خلال الممرضة (سهام) التي تعرف جيدا ما تفعله حرام، رغم أنها متزوجة من شيخ، لكنها تخاف من العقاب إذا عرف ما تفعله.
حوار (حسام) مع والدته حول ما يفعله والذنب الذي يحمله لترك والده لهم، فيريد أن يصبح أب بأي شكل، (حسام) تخلى عن مبادئه من أجل مصلحته رغم علمه أنه يخالف القانون الذي أراد أن يطبقه من قبل على زميله.
(محمد هشام عبية) قدم (صلة رحم) رسمه بعناية شديدة جدا حول موضوع شائك، وهو من وجهة نظري كيف يتطهر الإنسان من مخاوفه وخطاياه وصراعه في تحقيق قناعاته، وأن كانت تخالف الدين والأخلاق، وذلك من خلال مناقشة تأجير رحم.
استطاع أيضا المؤلف أن يجعل المشاهد يرفض تصرف الشخصية، لكن في ذات الوقت يتعاطف معها ويجد لها مبررا يظهر الجانب النفسي ودوافع كل شخصية، مما يجعل المشاهد يتقبل ما يقوم به من تصرفات رغم أنه يرفض الخطأ.
مما يخلق حالة من الجدل والنقاش داخله ليقرر ما هو الصح، في النهاية قدم عمل بلا مواعظ مباشرة أو حوارات كلاسيكية.
(صلة رحم) يناقش الإجهاض
ناقش كذلك مؤلف (صلة رحم) عمليات الإجهاض في العيادات السرية وما ينتج عنها من أضرار، قدمه من خلال الدكتور (خالد) الذي يرى أنه يقدم خدمة لبنات وقعت في الخطأ مرة واحدة لكن المجتمع يحاسبها عليها عمرها كله.
فهو صاحب مبدأ يساعد الفتاة مرة واحدة فقط، لكنه لا يشجع على الرذيلة مما يجعله يرفض إجراء العملية لأكثر من مرة لنفس الفتاة.
ناقش أيضا الابتزاز العاطفي الذي يمارسه (شاكر) مع نورا، التخلي عن المبادئ للاحتياج للمال، قرار الأهل بزواج ابنتهم السيئ كما في حالة (حنان).
حقق أيضا (محمد هشام عبية) في (صلة رحم) المعادلة الصعبة، جاءت النهاية رائعة ومنطقية كما البداية، حافظ على السياق الدرامي للأحداث، مما جعل آخر حلقة مقنعة وممتعة.
(حسام) تملكه العناد ولم يرضي بالقضاء في نصيبه من الأولاد، فمات وهو يحمل ابنه الذي ظل يحلم به، قام بالتزوير والاحتيال ومخالفة الشرع من أجله.
جاء العقاب على يد (الشيخ جابر) الذي قام بالإبلاغ عن زوجته لأنه لم يتحمل كذبها وعملها مع الدكتور (خالد) في الإجهاض، اعتراف زوجة (زياد) له بالخيانة ويطلقها لإنه لا يقبل الغلط.
بقاء كل من (ليلى وحنان) أمام الطفل في حالة حيرة وحزن، (حنان) تشعر بالخوف والترقب، تاركا النهاية مفتوحة بينهم.
البطل الثاني في (صلة رحم) هو المخرج (تامر نادي)، قام بتحويل العمل إلى صورة مرئية رائعة، استطاع إدارة فريق العمل جيدا ليتم صنع لوحة فنية فريدة متفردة بايداع لا حدود له.
اهتم بالتفاصيل الصغيرة لتساعده في صنع تلك اللوحة، مثل زوايا التصوير التي تحمل رسائل وتلميحات عن كل شخصية، ليزداد المشاهد أكثر التصاقا بالشاشة ليلتقط تلك الرسائل.
استخدام (تامر) لكل العناصر مثل الإضاءة والديكور والموسيقى ليكمل نجاح الصورة المرئية، مثل مشهد (ليلى وحسام) بعد عودتها للبيت وكشف حقيقة تأجيره للرحم متناغم جدا بين الإضاءة والموسيقى والحوار.
كذلك مشاهد (حسام وجيهان)، وأيضا مشهد (سهام) وزوجها (جابر) قبل أن يقوم بالابلاغ عنها.
(تامر نادي) يعي حركة الكاميرا
(تامر نادي) يعي جيدا تأثير حركة الكاميرا، استغلها جيدا ليوفر للمشاهد متعة بصرية، اكتمل ذلك باختيار أماكن التصوير وتوظيف الديكور والملابس بما يناسب كل شخصية، ليخرج العمل لوحة فنية متكاملة، حتى اختياره لبوستر المسلسل.
أشرف الزفتاوي (المبهر) وضع موسيقى رائعة لـ (صلة رحم) ليصبح شريكا في الحوار بكل مشهد، لحن كل مشهد حسب الشخصية التي به، فهو يلحن موسيقى متفردة غير متكررة وبلا اي استسهال.
بل هو يحفز عقل المشاهد بموسيقاه ليبقى مترقبا الأحداث، وليكمل الصورة المرئية لدى (تامر نادي)، لست متخصصة في الموسيقى كي أحدد أغلب الآلات التي استخدمها لكني مشاهد يتذوق الجمال الذي قدمه.
(أشرف) خلق تناغم بين الشخصيات في المواقف المؤثرة والحزينة، يزيد من توتر الحدث باختيار آلات الكونترباص والتشيللو، يؤكد بلغته الخاصة الموسيقية الخوف والتوتر في مشاهد الحوادث والمشاكل.
يدمج الموسيقى مع نبضات الشخصيات، ليقدم (أشرف الزفتاوي) أفضل موسيقى تصويرية لعمل درامي اجتماعي.
جاءت أغنية التتر أيضا رائعة من كلمات محمود فاروق وألحان إيهاب عبد الواحد لتعبر عن موضوع العمل ببساطة، وتلخيص جيد للتسليم بالقضاء والقدر بصوت (محمد عدوية) المناسب جدا للكلمات ليؤديها باحساس الوجع .
(إياد نصار) قدم في (صلة رحم) شخصية الدكتور (حسام) المتخصص في التخدير بانفعالاته المضطربة ورفضه الدائم للقضاء، يتخلى عن مبادئه من أجل هدفه، يجازف بكل شيء، أدائه متطور وغير متكرر.
(إياد).. التحكم في ملامح وجهه
استطاع (إياد) التحكم في ملامح وجهه لتظهر مدى الأنانية والعناد لديه لإرضاء رغبته، فهو يبدع في كل شخصية يقدمها.
الفنان (محمد جمعة) موهبة لم تخرج بعد كل ما لديها من إبداع، لكنه في دور الطبيب (خالد) المتخصص في النساء والتوليد كان قديرا جدا، تمكن من الشخصية من حيث الصوت وطريقة الكلام وطريقة حياته الميسورة.
لكنه يقوم بعمله في عيادة سرية في مكان شعبي مختبئ عن العين، فرغم أن ما يفعله خطأ، إلا أنه صاحب مبدأ أيضا، فهو لا يستغل من تلجأ اليه ويساعدها لمرة واحدة لإعطائها حق استكمال حياتها بلا عقاب.
استطاع الفنان (محمد جمعة) التحكم في تعبيرات وجهه بين السخرية من متناقضات المجتمع وإحساسه بالحزن والندم لفقدانه مستقبله وحريته في مشهد التحقيق معه.
(عابد عناني) يتحدى نفسه في هذا العمل بثقة وإبداع دون أي مبالغة في الأداء ليقدم دور (زياد) الذي لا يقبل الخطأ، ولابد من عقاب، يحاول تصحيح حياة أخته من أخطاء (حسام).
(عمرو القاضي) نضوج فني في دور (الشيخ جابر) دون افتعال مع التمكن من طبقة صوت ليبدو كشخص متدين طبيعي ليس إرهابي، يعرف الحلال والحرام مما يدفعه للإبلاغ عن زوجته مضرا بسمعته وسمعة أولاده، المهم إرضاء ضميره.
(محمد السويسي) في دور (فرج) الصعيدي العاشق الظالم والمكسور الذي لديه حب التملك، لا يترك (حنان) في حالها لأنه تركته، أداء يدل على موهبة كبيرة.
(محمد دسوقي) في دور (شاكر) بملابسه وطريقة كلامه المناسبة للمنطقة الشعبية، وكذلك (محمد المغربي) في دور الممرض (سامي)، مواهب تركت أثرا جيدا.
حضور متميز للفنان الكبير (نبيل نور الدين) الأب الذي يعالج أخطاء ابنته، ويتقبل كل قرارتها مهما كانت العواقب.
(يسرا اللوزي) عودة رائعة
(يسرا اللوزي) عودة رائعة تمكنت من انفعالات (ليلى) الطبيبة النفسية، ليس لديها توازن بين قلبها وعقلها وعملها، تزوجت من مريض لديها.
وعندما فقدت ابنها والإنجاب معا وصدمتها في زوجها لخيانته تدفعها لإدمان مهدئ، اضطرابها النفسي يدفعها في علاقة مغامرة مع يوسف الذي يحاول استغلالها، قدمت (يسرا) مشاعر حب وكره بمنتهى السلاسة.
(ريام كفارنة) ممثلة ذات ثقل وحضور وتمكن من اللهجة المصرية، أظهرت موهبتها في شخصية الدكتورة (جيهان)، التي تحاول استعادة حبها القديم مع (حسام).
(أسماء أبو اليزيد) السهل الممتنع في التمكن من إجادة شخصية (حنان) من خلال التعمق في نظرات العين وملامح الوجه.
(هبة عبد الغني) دور مختلف عما قدمته من قبل، من خلال الممرضة (سهام) بإفيه: (فين حلاوة أبلة سهام )، جعلت المشاهد يعتقد أنها حقيقة وسوف تخرج من الشاشة تطالبه بالحلاوة.
(سهام) بنظرتها المتوترة أن يعرف زوجها حقيقة عملها وطريقة لبسها البسيطة بألوان داكنة، وملامح وجه مجهد بلا مكياج، يكتمل ذلك بطريقة حديثها ومساواتها مع كل فتاة تذهب لخالد، ونبرتها مع زوجها، دور أثبت موهبة (هبة عبد الغني) بامتياز.
أداء رائع كل من (داليا خليف ونورا عبد الرحمن)، غير أن (ريم حجاب) أثبتت أن الموهبة تفرض نفسها حتى لو في مساحة دور صغير، مثل دور المحامية (مديحة خلع).
كذلك لفتت (مريم الجندي) الأنظار إليها في مشهدين في دور (إيمان) التي تحاول بيع قطعة من جسدها من أجل ابنها.
(صفاء جلال) جيدة في دور (ميرفت) صاحبة الكوافير في الحي الشعبي التي تقف بجوار البنات، وكذلك القديرة (سلوى محمد علي).
ظهور (الشيخ خالد الجندي)
ظهور (الشيخ خالد الجندي) في وسط الأحداث ليقدم حوار عن الحكمة من الابتلاء والقضاء والقدر، ناقشه الطبيب (حسام/ إياد نصار) حول أحكام الشرع في استئجار الرحم، مما أفاد المعنى والمغزى من العمل بشكل عام، ولم يقع في المواعظ المباشرة.
ولكن الحديث الذي ورد على لسان (الشيخ خالد) والذي يقول: ( يا عبدي أنت تريد وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لي فيما تريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما تريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد)، هو ليس من الأحاديث المؤكدة.
كنت أتمنى أن يكون الحوار في (صلة رحم) أكثر دقة خاصة لمن هو في مكانة (الشيخ خالد الجندي)، كما وجدت أنه تم البحث عن هذا الحديث في الانترنت، مما يدل على أن الحوار لقى صدى واسع لدى المشاهدين.
من وجهة نظري البسيطة كمشاهد تابع عمل درامي، أعتقد أن مسلسل (صلة رحم) أفضل عمل قدم من حيث الكتابة والإخراج والتمثيل والموسيقى والتصوير، فكل شيء خدم الكتابة جيدا ليقدم صورة نفسية عن ما يدور بداخل كل شخصية، كما يقدم خارجها جيدا.