بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
(أبو السعود الإبياري) وإسماعيل ياسين (التعارف):
من السويس وصل (إسماعيل) إلى القاهرة حطاما إنسانيا، إناءا من فخار تشقق تحت ضغوط الحياة ومآسيها.
حاولت القاهرة بجبروتها وصخبها أن تحول الكسر إلى فتات غير أن يدا هائلة أحاطته ترميما وحماية لحفظ ماء موهبته من أن تتسرب من شقوق الفخار وتختلط بتراب الأرض لتضيع إلى الأبد يد (أبو السعود الإبياري).
غالبا ما يكون الممثل الكوميدى هو أتعس خلق الله، وانغماسه في الضحك والإضحاك هو محاولة لتحقيق التعادلية مع جبال الهموم ووديان الأحزان التي شكلتها، إما طفولة بائسة أو صدمات تراصت داخله كمستودع بشرى للانفعالات العميقة.
ليصبح تقمصه المستمر لمئات الشخصيات بمثابة ركوبه سيارة مدرعة يهرب بها من اعماقه المنهارة الصاخبة بالزلازل والبراكين إلى بواطن أخرى أكثر هدوئا وأمانا، ومحاولاته الفائقة للإضحاك هى اثبات للذات.
إنه ليس بالتعيس وإنما هو سعيد بل لديه من السعادة فائضا يصدره للآخرين، وقد وصفه (أبو السعود الإبياري) بأنه شارلى شابلن الشرق.
في السويس كان (ياسين) الأب تاجرا للذهب بالوراثة عن الجد، ولكون (ياسين) ابنا مدللا، وفي انتشار الاحتلال الإنجليزى بالسويس فقد انتشرت بها الحانات والملاهى الليلية لخدمة جنودهم.
(إسماعيل ياسين) والبؤس صغيرا
مما ساعد على مزيد من الانحراف لياسين الأب حتى ذهبت تجارته ما بين إهمال ورهونات إلى حد الإفلاس، مهملا زوجته وابنه الصغير (إسماعيل).
ساءت الحالة بهما فرثت ثيابهما وأصبحا يتسولان الطعام من الأقارب والجيران، انفجرت الأم في شجار مع الأب – يعنى مش شايف حالى أنا و ابنك بقينا ازاى، احنا بنشحت اللقمه يا ياسين.
وأنا اعمل ايه، الحرب مبورة التجارة؟
انت اللى سايب رزقك وداير تلف على الشرب والنسوان.
احتدت المناقشة لتسقط الأم فجأة إلى الأرض وهي تردد توصيتها على طفلها (إسماعيل) لتصمت بعدها الى الأبد.. ولإحساس الأب بالذنب في كونه سبب موت زوجته ينغمس أكثر في الشراب ليفقد ما تبقى لديه من نقود.
وينتهى به الحالي إلى تسول قوت يومه حتى عمل في النهاية صبيا في محل أحد صبيانه القدامى.
إقرأ أيضا : محمد عبد الواحد يكتب: إضحك كركر مع (أبو السعود الإبياري).. (الست بديعة).. (2)
بعد فترة يتزوج (ياسين) الأب من زوجة لا تطيق رؤية ابن ضرتها (إسماعيل) في البيت لتذيقه صنوف العذاب وتعامله كخادم بالبيت و تمنعه من اكمال تعليمه.
بل وتوعز إلى الأب أن يدفع بابنه الى جدته والتي مازالت على يقين بأن (ياسين) هو السبب وراء موت ابنتها، لتجد في وجود ابنه (إسماعيل) في بيتها فرصة للانتقام من الاأب في صورة الآبن ليستمر مسلسل تعذيبه من جديد..
كان (إسماعيل) يهرب الى الشارع فيلعب مع الأولاد ويغنى لهم فيلاحظ استحسانهم لأداءه و يشعر بتميزه، ويجد في التميز فرجة نور يهرب بها من ظلمة أيامه بأن يكسب منه لقمة عيشه.
(أبو السعود الإبياري) و(إسماعيل ياسين)
فيبدا في المشاركة في إحياء الأفراح، و في إحدى الأفراح يقابل (إسماعيل) ابيه (ياسين) ويتعانقان في بكاء، فيطلب الأب من ابنه العودة معه إلى البيت، وهناك يبدا في إغداق المال عليه مما يضع (إسماعيل) في تعجب.
ليكتشف فيما بعد أن هذه النقود مزيفة، بل وأن أبيه يساعد عصابة تزيف الشلنات والريالات على تصريفها، و حينما يواجهه (إسماعيل) يتشاجر معه الاب ويجبره على الاستمرار في تصريفها.
لا يجد (إسماعيل) مهربا من تنفيذ أوامر أبيه فيشكو لأصدقائه من ورطته لينصحه البعض بالذهاب الى القاهرة ودراسة الموسيقى.
في القاهرة كان المعهد مغلقا في إجازة صيفية ليضطر (إسماعيل) إلى النوم في المساجد فيطرده منها خادميها بقسوة وقد الصق أحدهم به تهمة السرقة.
أصبح (إسماعيل) يقاسم مجاذيب الست الطعام الذى يقدمه لهم أهل الخير، مستمرا في محاولة الاشتراك في بعض الأفراح فيسمعه في إحداها شاب من عائلة (قدرى باشا) ليعجب بأدائه و يصطحبه معه الى قصر العائلة.
يحبه سكان القصر، ليعمل (إسماعيل) سكرتيرا خاصا للشاب، ويمضى معه كل يوم إلى المسارح والملاهى والسينما، ليبدأ في العثور على بغيته والتعرف على نجوم الفن و بخاصة المنولجيستات.
تقدم (إسماعيل) إلى (بديعة مصابني)، كونها صاحبة أضخم فرقة استعراضية في هذا الوقت، وقد ألحقته للعمل بالفرقة كمنولجيست، غير أن هذا القرار كان عن غير رضى من ابن اختها والقائم بإدارة اعمالها أنطوان الذى ناصب (إسماعيل) العداء منذ أول لحظة عمل.
بينما كان أكثر المتعاطفين مع (إسماعيل) وإيمانا بموهبته وبحثا عن عروق الذهب في جبل التراب هو كاتب الفرقة الأول (أبو السعود الإبيارى)، كان أبو السعود يستشرف في (إسماعيل) موهبة فطرية هائلة تحتاج الى توظيفها بالشكل الصحيح.
تزامن ظهور (إسماعيل) امامه مع بحثه الدائب عن الطرف الثانى معه كى يكونا ثنائيا موازيا للثنائى الصاعد بسرعة الصاروخ (بديع خيرى) كاتبا، و(نجيب الريحاني) ممثلا).
(أبو السعود الإبياري) والإفيهات
كان (أبو السعود الإبياري) ذو مهارة فائقة على كتابة الإفيهات ورأى في (إسماعيل) القدرة الجبارة على أداء هذه الإفيهات بطريقته الخاصة، وقد كان ذلك أحد أسرار التجاذب الذى دام طويلا بينهما سواء في السينما او المسرح.
استمر (أنطوان) في محاولات الوقيعة بين بديعه و(إسماعيل) حتى قامت بطرده، لكن (أبو السعود الإبياري) أعاده إليها محملا بهدية من (التومباج) العجمى الذى تهوى (بديعة) تدخينه مع توضيحه لها أن كراهية (أنطوان) لإسماعيل هى مبعث الوقيعة بينهما لتعيده (بديعة) الى العمل.
و يتحمس (أبو السعود الإبياري) للكتابة لاسماعيل ياسين عديدا من المنولوجات الناجحة تتضح فيها حرفيته في الكتابة الغنائية والحس الكوميدى الفريد، ببساطة مفردات تكاد تصل الى اللغة الحياتية الصرفة لكنها بغنائية شاعر متفرد وكوميديا متخصص و درامية روائى ممتزج بمسرحى.
من أمثلتها منولوج (أصلى مؤدب):
ألف قضية و ألف رزية يوماتى يجونى
من أحبابى ومن أصحابى واللى جابونى
ليه ؟، وعشان ايه؟.. أصلى مؤدب
يوم تلاتين في الشهر تصور تبقى أنا حالتى جنسها ايه
اتعب أنا وأشقى وأدور على شلن اتعشابه يا بيه
بعد مساعى ومد دراعى ألقى صديق بحبوح يدينى
جيت اتمشى رايح اتعشى القى صاحب لى مستنينى
يشتكى حاله وبؤس عياله ويمثل لى روايته بشكل
يلهف منى غصب عنى شلنى و أبات أنا من غير أكل
ليه و علشان ايه ؟ و اديله ليه ؟ اصلى مؤدب
يجى واحد يستفرد بيا مغرور فاهم نفسه خفيف
و عليه دم بيلطش ميه و ينكت و اسمع يا لطيف
بعد شويه يطب عليا واحد تانى عامل لى مغنى
و يغنى لى عينى يا ليلى.. ويقول لى اتفرج على فنى
حسه يخللى الطوب يتالم ويقول له ارحمنى من الضرب
والشمس تغيم وتضلم وتهرب من شرق لغرب
ليه وعلشان ايه ؟.. وأسمعه ليه ؟ أصلى مؤدب.