بقلم: بهاء الدين يوسف
لعل السؤال الذي يظل يطرح نفسه عليك وأنت جالس لمدة ساعتين وثلثي الساعة تقريبا تشاهد أحدث أفلام المخرج البريطاني ريدلي سكوت (نابليون) هو سبب انتاج هذا الفيلم في هذا التوقيت الذي لا يتوافق مع ذكرى ميلاده أو وفاته.
ولا يقدم رؤية جديدة للشخصية التي أثارت الجدل – ولا تزال – منذ ظهورها على مسرح السياسة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر.
نحن المصريون نعرف (نابليون) جيدا منذ أن جاء على رأس جيش جرار فيما عرف بالحملة الفرنسية على مصر، التي مثلت بداية التصور الإمبراطوري الفرنسي لتوسيع حدود الجمهورية الناشئة والسيطرة على موارد وخيرات العالم الثالث.
لكن فيلم (ريدلي سكوت) صدمنا بشدة حين قدم مشهدا ضمن فيلمه الجديد (نابليون)، الذي بدأ عرضه عالميا في نهاية شهر نوفمبر الماضي يصور فيه الجنرال القصير وهو يضرب الأهرامات الثلاثة بالمدافع بينما يتابع مشهد القصف وهو يسد أذنيه.
المشهد كما استفاض في تفنيده العديد من المتخصصين في سيرة الحملة الفرنسية، كان صادما، لأن أحدا ممن كتبوا عن الحملة الفرنسية على مصر من قبل لم يرصد من قريب او من بعيد محاولة (نابليون) أو القادة الذين تولوا قيادة الحملة بعده قصف أو نسف الاهرامات أو غيرها من الاثار المصرية الشهيرة.
لكن الغريب فعلا أن الفيلم قدم المشهد بشكل عرضي على طريقة الأفلام التجارية دون أن يكلف المخرج أو المؤلف (ديفيد سكرابا) نفسيهما محاولة توضيح لماذا حاول نابليون قصف الاهرامات؟!.
ولماذا لم يستمر في المحاولة حتى ينجح في تدميرها إذا كانت تلك هي خطته؟!
إقرأ أيضا: بهاء الدين يوسف يكتب: (هوليوود).. والفضائيات في خدمة المخطط الصهيوني (2)
السؤالان السابقان يجيبان عن سؤال أكثر شمولا يتعلق بجودة العمل السينمائي (نابليون) الذي حقق إيرادات جيدة جدا في الأسبوع الأول من عرضه العالمي، مع توقعات بأن تتجاوز الإيرادات تكاليف الإنتاج بمعدلات كبيرة.
لكن الفيلم من وجهة نظر فنية بحتة لايمكن أن يصنف ضمن الأعمال الملحمية بأي حال، بل يمكن تصنيفه حسب المصطلحات المصرية بأنه فيلم (سمك لبن تمر هندي)، لاتوجد فيه قضية رئيسية ولاخيط أساسي يمكن تتبع وتحليل شخصية (نابليون).
التي جسدها الممثل (خواكين فينيكس) من خلالها، كما أن (ريدلي سكوت) وقع في خطأ ساذج حين حاول جمع اكبر عدد من احداث حياة الجنرال الفرنسي قصير القامة في فيلم واحد.
فكانت النتيجة تقديم تابلوهات متفرقة لا تشعر معها كمشاهد بالترابط ولا تغريك بالاندماج مع الأحداث بل يمكن أن تشاهد الفيلم على عدة أيام دون أن تشعر في اليوم التالي بأنك تحتاج إلى مراجعة ما شاهدته في اليوم السابق.
مخرج (نابليون) سقط في معضلتين
في اعتقادي أن مخرج (نابليون) سقط في معضلتين رئيسيتين، الأولى محاولة تجميع أكبر قدر من الأحداث والقضايا التي تخص شخصية تاريخية دون التركيز على موقف أو قضية واحدة رئيسية تكون مدخلا للشخصية التاريخية وتحليل دوافعها دون الوقوع في فخ الرصد الدرامي الموسع الذي غالبا لا ينتج دراما متماسكة.
ولنا في فيلم (ناصر 56) مثالا جيدا على ذلك، حيث نجح الراحل (محفوظ عبد الرحمن) في التقاط قضية محددة هى تأميم القناة ثم (عدوان 56) لتكون مدخلا لتقديم شخصية جمال عبد الناصر.
المعضلة الثانية هى كيفية التعامل مع الشخصية التاريخية، من ناحية الاكتفاء بتقديم المعلومات الموثقة أو اللجوء الى التناول الدرامي لها بما يحرر العمل الفني من قيود التاريخ ومعلوماته.
والغريب بالفعل أن (سكوت) نفسه له أكثر من تجربة في هذا السياق، أبرزها فيلم (المصارع) الذي قدمه عام 2000 للممثل الاسترالي (راسل كرو).
حيث تدخل سكوت في صياغة العديد من التفاصيل الخاصة بشخصيات الفيلم التاريخية بداية من المصارع (ماكسيموس) الذي جسد دوره (كرو).
وكان تجميعة من عدة شخصيات تاريخية، وصولا إلى الإمبراطور (كومودوس) الذي لم يكن منحرفا صاحب سلوكيات شاذة مثلما قدمه سكوت في الفيلم.
كذلك لم يكن الفيلم موفقا في تقديم تصور حقيقي لشخصية (نابليون) وتفسير الكاريزما التي تمتع بها رغم قصر قامته.
وإنما على العكس صوره الفيلم في أكثر من مشهد على أنه رجل أبله استفاد من الظروف المحيطة، ومن صراعات القوة بين منافسيه دون الوقوف على دوره المهم كقائد عسكري ملهم استطاع أن يحصل على رتبة الجنرال في الجيش الفرنسي وهو في السادسة والعشرين من عمره.
لكن لا أحد يستطيع التكهن هل تعمد (البريطاني) ريدلي سكوت تقديم شخصية (نابليون) بهذه الطريقة التي لاقت ترحيب النقاد البريطانيين بسبب الملحمة التاريخية الرائعة كما كتبت صحيفة (التايمز) في تعليقها على الفيلم.
إنما المؤكد أن ما قدمه الفيلم أثار غضب النقاد الفرنسيين، حيث كتبت صحيفة (لوفيغارو) عن الفيلم قائلة إنه يمكن إعادة تسميته بـ (باربي وكين تحت الإمبراطورية) في سخرية من اختزال تاريخ (نابليون) العسكري الهائل في علاقته غير المفهومة بجوزفين.
علاقة (نابليون) بزوجته الأولى
المخرج الشهير حاول الخروج من الإطار التاريخي الكلاسيكي الذي وضع نفسه فيه في فيلم (نابليون) بمحاولة التوسع في تحليل علاقة (نابليون) بزوجته الأولى (جوزفين) التي جسدت دورها الممثلة (فانيسا كيربي).
ومحاولة تصوير تأثيرها الشديد عليه، لكنه أوقع نفسه في شرك جديد، يتعلق بالرؤية المعلبة للشخصية التاريخية التي تأثرت (الرؤية) بالمعلومات المتناثرة حول سطوة جوزفين وسيطرتها على (نابليون).
لكن (سكوت وسكرابا) لم يقدما طوال أحداث الفيلم التي استمرت 158 دقيقة كاملة مشهدا واحدا يحاول تحليل وقوع الإمبراطور الفرنسي الذي حير العالم في وقته تحت سيطرة السيدة التي كانت تكبره بست سنوات.
واخفقت في أن تنجب له وريثا للحكم ما دفعه لتطليقها والزواج من (ماري لويس) دوقة بارما، لم يفسر الفيلم رغم طول مدته تعلق (نابليون) المرضي بجوزفين حتى بعد أن أقدم على طلاقها والزواج بسيدة أخرى.
ولم يجد المؤلف في ما يقرب من عشرة آلاف كتاب كتبت عن الجنرال الفرنسي ما يفسر ارتباطه بزوجته الأولى سوى ما قدمه في مشهد حواري جمعهما دون سياق درامي مقبول.
تبدو فيه (جوزفين) وكانها تلقن زوجها كلمات مثل: (أنا نابليون لا أساوي شيء بدونك!).
نأتي اخيرا إلى الجانب العسكري الذي كان يفترض أن يحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام طالما أن الفيلم يتناول حياة واحد من أهم القادة العسكريين في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
يمكن القول دون تجن على المخرج أنه كان مخيبا للآمال حيث اعتمد (ريدلي سكوت) بشكل مبالغ فيه على الجرافيك أكثر من تصوير المعارك على أرض الواقع.
ولجأ لمداراة ذلك الى تخفيف الإضاءة في مشاهد المعارك الحربية في محاولة لإضفاء نوع من الغموض والتشويق فيما يبدو على تلك المشاهد.
لكن الأمر لم ينجح معي على الأقل وأزعم من خلال متابعة ما كتب عن الفيلم في أوروبا إنه لم يكن ناجحا مع المشاهدين هناك أيضا.
باختصار يمكن القول أن المخرج الذي تخصص من قبل في أفلام المعارك والخيال العلمي نجح في تقديم فيلم يزيل الهالة التاريخية عن واحد من أبرز الشخصيات التي أثرت في تاريخ القارة الأوروبية في فترة بداية تأسيس الفكر الامبراطوري.
لكنه غالبا لن يستطيع أحد الإشارة إليه كمرجع درامي أو تاريخي لفهم شخصية (نابليون).