بقلم الدكتور: كمال زغلول
تحدثنا في المقالات السابقة عن فن المسرح في مصر القديمة بشكل عام، وتعرضنا إلي الاشكال الاحتفالية في مصر القديمة، واليوم نتحدث عن نشأة العرض المسرح، فكما درسنا سابقا أن المسرح اختراع يوناني، وبدأت نشأته عن الاحتفالات والطقوس الخاصة بديونيسيوس، والذي أوضحنا أنه أوزيريس، وقد تم نقل عبادته واحتفالاته إلي اليونان القديمة، وقد بدأنا المقالات الأربعة الأولي لنتعرف عن الشكل الاحتفالي والعقائدي؛ المرتبط بمسرحيات المسرح المصري، كمدخل للتعرف على أصول النشأة المسرحية للمصريين، وفي هذا المقال نتعرض إلي نشأة فن المسرح في مصر القديمة، والذى انتقل فيما بعد للعالم، وأصبح الأن علم قائم بذاته، يسمى (بعلم المسرح) ومادته الدراسية والبحثية هي العرض المسرحي، وهو اتجاه فنى حديث لا يدرس النص المسرحي بل يهتم بدراسة المسرح بمعناه الحقيقي الفني الجمالي وتأثيره في النفس البشرية.
إقرأ أيضا : كمال زغلول يكتب: أوزوريس في مسرح مصر القديمة (2)
وكانت البداية الحقيقة للمسرح وبالأخص العرض المسرحي في مصر القديمة، ويخبرنا (إيخر نفرت – Ikhernofret)، أول ممثل في التاريخ الإنساني، والذي يذكر في الكثير من المراجع الأجنبية، بأنه أول ممثل في التاريخ يقوم بتمثيل فعل إنساني أمام جمهور، ولقد أشار إلي ذلك (ديور) في مؤلفة (التمثيل الآفاق والأعماق) بأنه (أول كاهن عرفه التاريخ يتحول إلى ممثل هاو، فمنذ حوالي أربعة آلاف سنة – 1870 ق. م) قام – ربما في مسرحية أبيدوس للآلام – بمحاكاة شخصية وتجسيد فعل، أمام جمهور: شرع في الدفاع عن أبيه، وصد العدو عن قارب (نشمت)، لقد هزم أعداء (أوزيريس) وقام بالزحف العظيم the Great Coming Forth ، لقد تتبع الإله في خطواته) وأيضا ذكره (تشيني) في مؤلفة (تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة) بنفس الوصف، وقد قدم (إيخر نفرت) نفسه للعالم من خلال ما سجله عن نفسه في لوحة جدارية موجودة الآن في متحف برلين يصف عليها كتابة دوره وأدائه التمثيلي في العمل المسرحي وما يقوم به من أعمال أخرى.
أوزوريس والعرض المسرحي
إذ يقول: (لقد مثلث ظهور آب – وات ap-uat حينما خرج ليدافع عن أبيه.. وقد رددت العدو على عقبيه من زورق نشمت neshmet ، وقهرت أعداء أوزوريس، وقمت بتمثيل (القوة الجبارة) وتتبعت الإله في كل خطواته، وأنا الذي جعلت زورق الإله (يتحرك)، وهكذا حتى يصل إلى الذروة العليا فيقول: (وأنا الذي جعلته – أي أوزيريس، يقوم في الزورق الذي يحمل جماله) وجعلت قلوب سكان الشرق تمتلئ بالغبطة، كما جعلت المسرة بين سكان الغرب، من خلال العرض المسرحي، وذلك عندما رأوا الجمال وهو نازل في أبيدوس (جالبا أوزيريس حنتي – أمنتي khenti amenti ، رب أبيدوس، إلى قصره)، ونرى مما سبق أن (إيخر نفرت) كان يؤدي دوره مستعينا بالديكورات اللازمة للمنظر في العرض المسرحي، مما يعني أن الممثل المصري القديم أستعمل الديكور والإكسسوارات المسرحية في أدائه التمثيلي للشخصية، ومن هنا أقول هذا الممثل نعلم أهم الأشياء الخاصة بفن التمثيل المصري القديم، وهو ظهور العرض المسرحي بصورة مغايرة للطقوس والاحتفالات.
إقرأ أيضا : كمال زغلول يكتب: الدراما المنفية في المسرح المصري القديم (3)
إذ قام (إيخر نفرت) بالتمثيل أمام جمهور مشاهد، وأن العرض المسرحي يختلف كل الاختلاف عن الاحتفالية والطقس، وذلك لأن العرض المسرحي لابد وأن يحوي ممثلاً وجمهوراً مُشاهِد تجمعهما علاقة حسية جمالية، وتلك العروض تعد أولى المراحل في ظهور فن الممثل في مصر، ويكون (إيخر نفرت) أول ممثل في التاريخ قام بالتمثيل أمام جمهور، سابقا بذلك (ثسبيس) اليوناني، ومن اللوحة الجدارية الخاصة (بإخر نفرت) نستشف الطريقة التي كان يعمل بها الممثل في تلك العروض، وتلك الطريقة قد تقترب إلى ما يقوم به الممثل في وقتنا الحالي لتمثيل شخصية في العرض المسرحي.
إذ يعمل الممثل على تخيل الشخصية، ودراستها في أبعادها الثلاثة (الاجتماعية والمادية والنفسية )، وبعد تلك الدراسة يضع الممثل تصورا حول كيفية الأداء التمثيلي لتلك الشخصية، فيحدد الطبيعة المادية للشخصية والتي تشتمل على جسد الشخصية، فيتصور الحركة والإيماء والإشارة الخاصة بالشخصية، ويحدد الطبقات الصوتية لطبيعة تلك الشخصية، وينتقل إلى تصور الشخصية في بعدها الاجتماعي، ويتعرف على نشأتها الاجتماعية، وتعاملها اجتماعيا مع شخصيات النص، وينتقل إلى أهم الأبعاد وهو البعد النفسي، ليدرس الطابع النفسي لتلك الشخصية، وتقديمها في العرض المسرحي بما يتناسب مع الحالة النفسية للشخصية ثم يقوم الممثل بعمل التدريبات اللازمة لكي يقوم بعرضها أمام الجمهور.
العرض المسرحي الشعبي هو الأساس
وتلك الطريقة التمثيلية كانت أساس فن التمثيل الشعبي في مصر، وهى التي أدت إلى ظهور فن العرض المسرحي الشعبي، وقد قامت تلك الطريقة بوضع الأسس والقواعد التي قام عليها العرض المسرحي ونستطيع استنباطها في النقاط التالية:
أولا: المكان:
إذ لا بد من وجود مساحة مكانية تجمع العارضين بالمُشاهِدين، وهذه المساحة يتم تقسيمها بين العارض والمُشاهِد، ويتم تصميم كل مساحة وفق الهدف والغرض التي أنشأت من خلاله، ولذلك نرى أن المكان المسرحي يتضمن مساحتىن هما:
أ – المساحة الخاصة بالجمهور: إذ لابد من تنظيم الجمهور في تلك المساحة بطريقة تسمع لجميع الحضور من رؤية العرض المسرحي من جميع الزوايا حتى يستثني للجهور متابعة العرض المسرحي بكل إمكانياته المعروضة.
ب – المساحة الخاصة بالعارضين: تصمم وفق المَشاهِد التي يتم عرضها، بمعنى أن تكون مناسبة لحركة الممثلين وديكوراتهم وجميع الامكانات التي يقدمون بها العرض المسرحي.
ثانيا: الزمن الخارجي:
وهو الزمن الذي يجمع العارضين بالمُشاهِدين، وهو الزمن الذي يتم فيه العرض ، وهذا الزمن هام جدا بالنسبة للعارضين والمُشاهِدين، فعلى مستوى المُشاهِدين يحدد هذا الزمن قدرة المُشاهِد على متابعة العرض، بمعنى الفترة الزمنية التي تجعل المُشاهِد في حالة من التركيز والمتابعة لأحداث العرض، إذ لو طال هذا الزمن يمكن للمشاهد أن يفقد تركيزه ولا يستطيع المتابعة، وعلى مستوى الممثلين فهو هام؛ إذ يتم في هذا الزمن حساب طاقة الممثل وقدرته على تمثيل العرض في الزمن المحدد الذي يستطيع المُشاهِد عبره مشاهدة العرض، ويتم تنظيم طاقة الممثل في هذا الزمن حتى يستطيع تمثيل العرض في الزمن الخارجي.
ثالثا: المكان الداخلي
وهو المكان الذي تجري في أحداث العرض المسرحي، وهذا المكان خاص بالمساحة المسرحية المخصصة للتمثيل، ويتم إعداده بطريقة تمثيلية مشتمل على المرئيات المسرحية التي توحي للمشاهد أنه في المكان الذي تحدث فيه الأحداث الخاصة بالعرض بالمسرحي.
ثالثا: الزمن الداخلي:
وهو الزمن الذي تدور فيه أحداث العرض المسرحي، وهذا الزمن بالرغم من أنه يوحي للمشاهد بالزمن والعصر الذي تتم فيه الأحداث، إلا أنه يرتبط بمجموعة من الأزمنة الخاصة بالتقنية المسرحية للعرض وهي:
أ – زمن ترابط الأحداث ببعضها البعض في وحدة زمنية محددة ذات إيقاع مميز بالعصر الذي تمثل فيه المسرحية.
ب – زمن ظهور الشخصيات وتصوير أفعالها في الزمان والمكان، بالإضافة إلى الزمن الذي تستغرقه الشخصية في الدخول والخروج أثناء تمثيل العرض المسرحي.
ج – زمن المؤثرات الموسيقية والغنائية والرقص.
د – الزمن الخاص بكل شخصية يقوم بأدائها الممثل داخل العرض المسرحي.
رابعا: الممثل المسرحي
من أهم الأشياء داخل العرض المسرحي هو ظهور شخصية الممثل الذي يقوم بالأداء الحي للشخصية التمثيلية، إذ هو الشخص الذي يتحول من شخصيته الحقيقية إلى شخصية مغايرة تماما عن واقعه، ويوظف جميع إمكاناته الجسدية والصوتية أي جهازه الخارجي لإيصال طبيعة تلك الشخصية للمشاهد، ومعتمدا في ذلك على جهازه الداخلي المتمثل في الإحساس والشعور والحس والذهن.
خامسا: الجمهور
أساس العرض المسرحي هو الجمهور المتذوق للأعمال الفنية، ويتميز جمهور المسرح بصفة الانسجام مع العرض المسرحي في الحس والذهن والشعور والخيال والتصور ، وهذا الانسجام له ابعاد حسية للعرض المسرحي ، تكمن في اشتراك الجميع من ممثلين ومشاهدين في شعور جمعيا موحد وهوما يعرف بوحدة الشعور.
وهكذا بدأ العرض المسرحي الشعبي المصري وفق القواعد التي ذكرناها سابقا، وقد لاحظنا أن لها بعد تاريخي في المسرح المصري الشعبي، ولا غرابة في كون العرض المسرحي المصري قد استمر في الحياة المصرية الحديثة، وفق الأسس والقواعد السابقة، وقد تعلمها العالم من مصر، وفي النهاية نعيد ونذكر بأن الدراسات الفنية الحديثة تركز الآن على علم المسرح الذى مادته العرض المسرحي الذى كان اختراع مصر ظهر في مصر القديمة.