محمد نوح .. المتمرد الذي غنى لمصر أروع أناشيدها، وفتح الطريق للكينج
كتب : أحمد السماحي
نحيي اليوم الذكرى الحادية عشر للمبدع محمد نوح، صاحب التجربة الخاصة جدا في الغناء المصري، تجربة كان عنوانها ثورة شعرية وموسقية كاملة، ولم تكن الثورة في الكلمة واللحن فقط، ولكن كانت أيضا في الأداء الذي أسر الجمهور بغنائه المختلف الجديد في شكله ومضمونه عن كل الموجود على الساحة الغنائية المصرية، ففي الوقت الذي كانت تغني سيدة الغناء العربي أم كلثوم بشكل كلاسيكي (ماخطرتش على بالك يوم تسال عني، وعنيا مجافيها النوم، النوم يا مسهرني)، وكان النغم الخالد عبدالحليم حافظ يغني (موعود معايا بالعذاب، موعود ياقلبي) عام 1971، كان محمد نوح يغني كلمات تدعو الى الثورة ضد كل ألوان السبات ويرج المسرح بقوة صوته في مسرحية (المشخصاتية) مع سهير المرشدي وأحمد عبدالحليم وهو يغنى قائلا:
الفن هو اللي فاضل، ويا الغلابة يقاتل، يناضل
لحد الفجر ما يطلع، لحد الحق ما يرجع
أخضر بلون السنابل
إقرأ أيضا : حدوتة (مدد.. مدد.. شيدي حيلك يا بلد) رائعة (محمد نوح، وإبراهيم رضوان) الخالدة
ويغني محمد نوح أيضا من خلال المسلسل الإذاعي (حبي أنا) التجربة الدرامية الوحيدة لعبقري مصر بليغ حمدي، أغنية من كلمات عبدالرحيم منصور بعنوان (وبعودة الأيام) التى تقول:
وبعودة الأيام، إرجع يا حمام، ريتك، ريتك، ترجع بيتك
دوبنا القلب بمحبة وحب، والسمرا آهي واقفة
وكلها حب وعيونها يا عيني ما بتنام بعدك يا حمام
جوانا سنين، ونهارها حزين، من ليلة بعدك ماحنش راسيين
والسمرا يا عيني ما بتنام، بعدك يا حمام
محمد نوح فتح الطريق لمنير
محمد.. مفردات جديدة
لم تكن أغنية (وبعودة الأيام) هى الوحيدة التى غناها محمد نوح في مسلسل (حبي أنا)، ولكنه غني أيضا من كلمات عبدالرحيم منصور في نفس المسلسل (ما تحلفيش يا مصر بالغلة، ولا بالحليب الصابح).. أغنيات كثيرة قدمها نوح كانت تغير ملامح ومعاني الأغنية المصرية، التى أراد من خلالها أن تكون معزوفة عشق للوطن فيها وعي وأمل بالمستقبل، فالمتابع لرحلة الأغنية المصرية منذ بدايتها وحتى ظهور محمد نوح، سيجدها شيئا وبعده شيئا آخر، حيث أضاف محمد نوح لقاموس الأغنية المصرية مفردات جديدة لم يسبقه أحد في غنائها.
إقرأ أيضا : عندما اتهموا( محمد نوح) بالشيوعية، وحولوا (النهار) إلى أنغام الشباب !
وانتشلنا من المفردات العادية التى كانت استهلكت على حناجر المطربين لأخرى بكر، قوية صادحة بالحق والخير والحرية والجمال، وهذه الأغنيات هى التى فتحت الطريق لأجيال جديدة من المطربيين ليعبروا عن أنفسهم بشكل مختلف مثل محمد منير الذي استوعب تجربة محمد نوح جيدا، واستكمل التجربة بعده، من خلال تقديمه أغنية جديدة من حيث الكلمة واللحن والتوزيع.
محمد نوح وتأثره بسيد درويش
في أحد الحوارات التى دارت بيني وبين (عم محمد نوح) سألته عن سر تميز الكلمة في أغنياته؟ فقال: سيد درويش هو السبب، فاهتمامه بالكلمة وتأثيرها كتب له الخلود حيث كان ما يميز تجربته أن أغانيه كانت من وسط الناس ومن خلال الناس، ونظرا لعشقي لهذا الرجل وحفظي لكل تراثه فقد تأثرت به وبما قدمه.
محمد نوح ونكسة يونيو
ظهر محمد نوح كمطرب بعد النكسة، فعندما حدثت نكسة يونيو 1967 شعر بالانكسار، وفقد إيمانه بمعطيات كثيرة كان يحترمها ويقدرها، وقرر أن يحول انكساره إلى غناء وصراخ، فأمام الشعور بالضياع لا تجد مخرجا سوى الصراخ، أراد أن يقول من خلال أغنياته أن الوطن لم يضع، فمعركة واحدة في حياة شعب ليست مقياسا، أراد التأكيد على أن العروبة فكرة والأفكار لاتموت، ولم تقابل تجربة محمد نوح الغنائية بالترحاب بالعكس تمت محاربته، والسلطة طاردته وتربصت به، ففي الوقت الذي كانت الإذاعة الرسمية تقدم (شنبو في المصيدة) و(العتبة جزار) و(الطشت قالي) و(ما أشربش الشاي أشرب أزوزوه) كان صوت محمد نوح يصرخ في كل مكان :
الطبل طيط والزمر، طيط، اصحي بقي لتعيش عبيط
الطبل طاط والزمر طاط، اهرب ياراجل م الممات
جوع وانت ساكت يا وله دا الجوع شعار المرحلة
ويصرخ : آه، آه يابلدي، الف سلامة وعافية يابلدي
ياختي وامي وابويا وولدي ردي عليا يابلدي
ردي عليا يا بلدي، دي عليا يابلدي
بس يا هل ترى بكره يا بلدي، حتكملي نفس المشوار
وحيضحكوا في الشمس ولادك ولا حينكويوا بالنار
ردي عليا يابلدي، ردي عليا يا بلدي
كان محمد نوح يغني لـ (بكره) لإيمانه أن الفن الحقيقي هو القادر على أن يغزل أيام المستقبل، فيغني أيضا في مسرحية (المشخصاتية) أغنية رائعة بعنوان (الخوف) من كلمات الشاعر زكي عمر يقول مطلعها:
وخوفنا كتير ومات منا كتير من الخوف
كنّا لا بننطق ولا بنسمع ولا حتي بنشوف
يابكره الجاي أنا في عرضك تجيني أمان
تعال راكب الرهوان تعال فارس الفرسان
تعال دق علي البيبان وصحيني وخد ايدي.
وعديني لبر الشمس والضحكه
وخليني امد الخطوه علي السكة
محمد نوح ونجوم في الكلمة
كان من حسن حظ محمد نوح ظهوره مع ظهور جيل جديد من الشعراء الموهوبين واكب تجربته الغنائية، وأعطوه شموس غنائية لا تنسى، من هؤلاء الشعراء (إبراهيم رضوان، زكي عمر، عبدالرحيم منصور، سيد حجاب، عبدالرحمن الأبنودي)، كل هؤلاء أعطوا لمحمد نوح أشعار رائعة وقوية ومؤثرة عندما نتأملها الآن نجدها تعبر عن كل العصور وبعضها يصلح بقوة للوقت الراهن، مثل أغنية (شيلي طرح الحزن السودة) التى يقول في جزء منها:
يا بلدنا يا أم ولدنا، يازادنا يازوادنا
السكة طويلة وغريقة، ومفيش غيرنا معداوي
بس مدام في القلب غناوي،عمرنا ما نحس بضيقة
هات يدك وادي يدي، عدي يابلدي عدي عدي
محمد نوح ويا مصر
بعد نكسة 1967 وهب محمد نوح نفسه وصوته لبلده وأحب التخفيف عن الناس من مرارة الهزيمة، فيغني أيضا للشاعر والنحات سامح حمدي :
يا مصر عمري فداكي، يا مصر قلبي معاكي
يا مصر ابني وبنتي واخويا، وابني لاجل النصر فداكي
بكرا يا مصر حمامك يرجع للبنية، بس يا مصر انا ليا وصية
يوم ما استشهد طلي عليا، يوم ما استشهد طلي عليا .
محمد نوح وإبراهيم رضوان
كان لقاء محمد نوح بالشاعر المبدع صاحب القاموس اللغوي الخاص إبراهيم رضوان محطة مهمة في مسيرة (نوح ورضوان)، وكانت البداية من خلال الأيقونة الخالدة (مدد مدد شدي حيلك يا بلد) التى مازالت تتردد حتى اليوم وتتغنى في كل المناسبات الوطنية المهمة والتى يقول مطلعها:
مدد مدد شدي حيلك يا بلد
ان كان في ارضك مات شهيد فيه ألف غيره بيتولد
بكره الوليد جاي من بعيد، راكب خيول فجره الجديد
يا بلدنا قومي واحضنيه دا معاه بشاير الف عيد
قومي انطقي سيبك بقا، م النومة جوه الشرنقة
دا النصر محتاج للجلد مدد مدد شدي حيلك يا بلد
وتتوالى بينهما الدرر الخالدة التى مازالت عالقة في أذهان محبي الغناء منها (لا تنسانا، زي القمر، حبيبي يا حبيبي، كانت، أديني قلت، أفرد جناح الشوق، آه لو يروق الحال، يا عصفورين) وغيرها الكثير.
محمد نوح والأبنودي
جمع محمد نوح شمل مجموعة من أصحاب الكلمة المختلفة تحت جناحه، فها هو لقائه بالشاعر عبدالرحمن الأبنودي يثمر عدة أغنيات مهمة أهمها (أحميني) التى يقول فيها:
احميني، من ليل الغربة داريني، لميني
ضميني دفيني علشان الي جاي غطيني
وامسحي بقميصك طين ، وان كنت غشيم ربيني
انا لسه بفتح عيني سامحيني، وحياتك ما تصديني
وحياة الي جاي ضميني، انا ابنك شادد حيلي
وف حبك أقول مواويلي، وحياتك ما تصديني
مشوارنا لسه في أوله
كان مشوار محمد نوح مع الكلمة متميزا للغاية فيه الكثير من التمرد، والكثير من الحب، والكثير من الصدق، والأهم فيه حلم كبير ببلد أجمل وأرقى، وكان دائما يردد لي ولغيري من الذين اقتربوا منه ( بداخلي شعورا غريبا يؤكد لي أن ما فعلته لن يفهمه الناس إلا بعد رحيلي عن الدنيا، لأنني كنت أنظر إلى المستقبل بعين مختلفة، ومشاعر مختلفة عما هو سائد، هناك بشر يموتون وهم أحياء، وآخرون يعيشون بعد موتهم).
وأعتقد أن (عم محمد نوح) مازال موجودا بيننا الآن، والدليل أن حركة البناء والتعمير والتشيد الموجودة الآن في مصر تستدعي من كل واحد مننا الصبر والتحمل، وأن نعود ونسمع هذه الكلمات التى قام بغنائها محمد نوح، وتصلح أن نرددها الآن: (مشوارنا لسه في أوله، ومدام بدأنا نكمله، واستحملوا ولاتيأسوش)! ألم أقل لكم أن نوح مازال بيننا؟!