بقلم الدكتور: كمال زغلول
ارتبط تاريخ فن المسرح بذكر مصر، وهذا التاريخ قد نوه بإشارات غير موسعة، عن طبيعة الفن التمثيلي المصري، وفق ما اكتشف من آثار تلقي الضوء، على فنون التمثيل في مصر القديمة، وبرغم الندرة في المعلومات حول طبيعة الفنون التمثيلية المصرية القديمة، إلا أنها تمدنا بمعلومات توضح كيف كان المصري القديم يمارس فنونه التمثيلية، ولقد أشار (الأدريس نيكول) إلى السبق المصري في فنون التمثيل المسرحي إذ ينوه بقوله: (ولعل التسلية المسرحية كانت موجودة قبل ذلك بمئات السنين، وغالب الظن أن (إيسخيلوس) وقدامى كتاب المسرح اليوناني كانوا مدىنين بدين كبير في موضوع مسرحياتهم و شكلها للممثلين من رجال الدين ، الذين كانوا يمثلون المسرحيات المقدسة في مصر القديمة.
وهذه الإشارة التي يسوقها نيكول كتاريخ مسرحي لفن المسرح لا تزال تمر بمرحلة من الجدل بين باحثي الآثار المصرية، وبعضهم ينقسم ما بين مؤيد ومعارض لفكرة المسرح المصري، فالبعض يرى أن فنون المسرح ظهرت في مصر أسبق من بلاد اليونان، والبعض يرفض تلك الفكرة تماما، ولكن برغم الندرة في المعلومات حول طبيعة الفنون التمثيلية المصرية القديمة إلا أن ما تم اكتشافه يمكن أن يكون نواة للتعرف على المسرح الشعبي المصري في القديم، وكيف كوّن المصري القديم مسرحه الشعبي منذ القدم حتى وقتنا الحالي.
والمسرح الشعبي مرتبط بثقافته الشعبية الخارج منها، وتاريخ المسرح اليوناني يدل على ارتباطه بثقافته الشعبية، وقد سبقت الإشارة إلى تعريف الموسوعة البريطانية للمسرح الشعبي، في كون المسرح الشعبي هو المؤسس للمسرح الكلاسيكي، والذي ظهر في بلاد اليونان، وأنه وليد الطقوس اليونانية لـ (دىونيسيوس)، أي أنه ارتبط بالثقافة الشعبية اليونانية وفق معتقداتها، ولكي نتعرض للب المسرح المصري لابد أن ننظر إليه من جهة ثقافته الشعبية، كما نظر الغرب للمسرح الكلاسيكي من خلال الثقافة الشعبية اليونانية، لكي نقف على كيفية تشكيل العروض المسرحية المصرية من خلال الوجدان الشعبي المصري .
المسرح والثقافة المصرية الشعبية
ارتبط الوجدان الشعبي في المسرح للإنسان المصري بالدين، وتشكلت حياته الاجتماعية والسياسية وفق منظور ديني، وقد انعكس هذا المنظور الديني على الفن المصري من خلال تأثر الإنسان المصري بشخصيات أسطورية وهى العائلة المكونة لأوزوريس، والتي أقيمت لها الأعياد والطقوس والاحتفالات بل والدراما المسرحية التي أشار إليها نيكول، وبتتبع هذه الشخصيات نتعرض للعقيدة المصرية القديمة.
يوضح (تيبو) العقيدة المصرية بأنها عقيدة توحيدية تعبد إلهاً واحداً، ويوضح ذلك بأنه (قطعا لم يتجه ملوك مصر وشعبها بتعبدهم نحو جمع من الآلهة الطوطمية (الوثنية كما يعتقد البعض)، بل العكس لقد عبدوا إلهاً واحداً، خالق الأرض: إنه إله الفخراني، حرفي، قام بتشكيل خلقه بواسطة الطين الصلصالى ومياه النيل، بعد ذلك نفث فيه من روحه.
وهذه العقيدة هى أساس الديانة المصرية القديمة (وإلى هذا الإله الأولى، أضيف آمون – رع (الشمس)، ونوت (السماء)، وجب (الأرض)، وحابي (مياه النيل)، حتى تجمع معا عناصر العالم (الهواء، والنيران، والأرض، والماء)، ومن بعدهم وُلِدَ كل من (إيزيس، ونفتيس، وست، وأوزوريس)، ثم من بعد ذلك حورس وأنوبيس، وفي أثرهم تكونت المملكة المصرية، وشعبها، وقراءتها.
وهذه المعبودات التي أضيفت إلى عقيدة التوحيد، لها تاريخ أسطوري إذ (يرجع قدماء المصريون تسلسلهم النسبي إلى حوالي 36620 عام (أي ما يعادل 25 دورة من ظهور نجم الشعري اليمانيةsathiaques مقدارها 1460 سنة) قبل الملك مينا وتكوين أول تقويم لهم، أو بالتحديد 40000 عام ق.م، وكان ملوك هذه الأزمنة السحيقة يسمون نثراً neter ولا يقل طول كل منهم عن حوالي خمسة أمتار (مثل الآلهة الذين ذكروا في سفر التكوين التوراتي)، وقد تسموا بأسماء: (بتاح، ورع، ونوت، وجب، وشو، وإيزيس، وأوزوريس، وست، وحورس، وتحوت، وماعت)، ولقد عملت هذه المخلوقات الخارقة للعادة على تعليم وتأهيل سكان وادي النيل وتموينهم.
ومن الواضح بشرية هؤلاء الملوك، وأنهم علموا المصريين مجموعة من الأشياء التي كونت ثقافتهم وحضارتهم وعلى رأسها المسرح، ومن أهم تلك الشخصيات الملكية أوزوريس وقد (عرف حكم أوزوريس بأنه عصر ذهبي، فقد كان يتسم بالاتزان والعدل والحكمة، وقد علَّم أوزوريس البشر كيف يزرعون القمح، ويصنعون الدقيق، ويعدون الخبز، ولذلك نجد المصريين كانوا يعتبرون الخبز دائما غذاءً إلهياً مقدساً، وبين للبشر كيفية التمييز بين الخير والشر، ثم سن من أجلهم قوانين عادلة قوية، وشجعهم على توخي الحقيقة والإقبال عليها.
المسرح والشخصية الأوزيرية
من الواضح جدا أنه يوجد دور بطولي لأوزوريس وعائلته، ولكن بطولة أوزوريس لم تكن بطولة معركة خاضها، ولكن بطولته تتمثل في كونه معلماً، وهنا نلمح بعداً آخر للبطولة الشعبية في المسرح، فليست البطولة في خوض المعارك والحروب فقط كما نتصورها دائما، ولكن البطولة هنا تظهر في دور أوزوريس وتعليمه الشعب المصري الحضارة، ولذلك كانت بطولته تتمثل في الأفعال التي علمها للشعب، وأصبح رمزاً للخير.
ولهذا نلاحظ أن الفعل في المسرح له دور كبير في الحياة المصرية القديمة، بل أصبح من المقدسات التي يعتنقها المصري، وتشكل وجدان المصري القديم على الفعل الأوزيرى للخير، وتبعه فعل زوجته إيزيس، وابنه حورس، ورفضه لفعل الشر الذي مثله في صورة ست.
فقد مايز المصري القديم في المسرح بين الفعل الخيّر والفعل الشرير من خلال العلاقة القائمة بين أوزوريس وأخيه ست، و نتيجة تلك الأفعال قدَّس المصري تلك الشخصيات، ونلحظ أن قيمة الفعل قد تنبه لها المصري القديم، ووضعها في لب اعتقاده، والنتيجة أن تلك الأفعال أصبحت جزءاّ من الثقافة الشعبية المصرية القديمة، وقد تشكل الوجدان الشعبي للمصري القديم من خلالها، ولهذا ظهرت لتلك الشخصيات احتفالات وطقوس وعرض مسرحي.
وإحياء لذكرى آلامه ومعاناته ، كان المصريون يشتركون في مواكبه وقد توجوا رؤوسهم بتيجان نباتية مصنوعة من الشوك المجدول في هيئة قبة، وهذه الاحتفالية هى أحد مظاهر الحزن على مصير أوزوريس، ويعبر الشعب عن آلامه بوضع تيجان الشوك على الرؤوس، وهي دلالة على مدى الألم الذي أصاب أوزوريس من أخيه ست.
المسرح واحتفال المصريون بالخصب
وقد كان المصريون يقيمون احتفالا لأوزوريس، ويخرجون في مواكب، وقد كانت النساء تحملن الأعضاء التناسلية الذكرية المنحوتة وتحركنها بواسطة خيط ، ويشير هيرودوت إلى أنه يكاد يكون احتفال المصريين بعيد (ديونيسيس) أن يشبه من جميع الوجوه احتفال اليونانيين به فيما عدا الرقص، وقد ابتكروا تماثيل بدلا من المذاكير، طول التمثال منها ذراعا، يمكن تحريكها بواسطة خيط، تطوف به النساء في القر ، وعضو التذكير بها متحرك لا يقل كثيرا في طوله عن باقي الجسم، ويتقدم الزمار الموكب، تتبعه النساء اللائي تتغنى بديونيسيس، أما عن السبب الذي من أجله كان عضو التذكير كبير الحجم ، وكان يتحرك دون سائر أعضاء الجسم ، فلذلك قصة يروونها..
ونلمح من قول هيرودوت – إشارة إلى سبق المصريين في تكوين الرموز التمثيلية التي تدل على قصة أوزوريس – أن قصة عضو التذكير الخاصة بأسطورة أوزوريس والذي أكلته السمكة وأصبح يرمز للخصب والنماء، قد تم اختزالها في صورة رمز، وتم صنع هذا الرمز بأكبر من حجمه الطبيعي ، ليكون دالا على مفهوم اعتقادي عندهم، يرتبط بعملية الخصوبة، ولكن توجد إشارة هامة في قول هيرودوت، وهي معرفة المصريين بفن العرائس على المسرح، وذلك من خلال التماثيل التي كانوا يصنعونها ويحركون جزءاً من أعضائها بخيط، وهذه فكرة العروسة المتحركة التي تستخدم في مسرح العرائس ، ولكن لم نجد أثراً لتلك العرائس المتحركة حتى الآن.
ونلاحظ هنا مدى التشابه بين المصريين واليونانيين في عيد أوزوريس، وخاصة تلك الاحتفالية التي كانت تقام في اليونان لديونيسيوس، ويشير التاريخ المسرحي دوما إلى خروج الدراما اليونانية من خلال تلك الأعياد التي كانت تقام لهذا لديونيسيوس في اليونان، وخاصة العيد الذي كان فيه اليونانيون يحملون العضو الذكري ويخرجون في مواكب.
ولكن كان لمصر السبق في تلك الاحتفالات، وهذا يعود لسبب هام ألقى هيرودوت عليه الضوء وهو أن (ميلاميوس بن أموثيونهو الذي أدخل عبادة “أوزوريس” إلى اليونان تحت اسم جديد هو “ديونيسيوس ” ونقل معه جميع الاحتفالات الخاصة بأوزوريس ، وقد تحدث عن ذلك بقوله: ” ويخيل إلى ( ميلاميوس ) بن (أموثيون ) * لم يكن يجهل الاحتفال بل كان به عليما لأن ( ميلاميوس ) في الواقع كان أول من أدخل في بلاد اليونان اسم ( ديونيسيس) والاحتفال بعيده وموكب الذكر . إلا أنه لم يفهم بدقة كل ما يتعلق بالفكرة التي جاءهم بها . ولكن الحكماء الذين تلوه هم الذين شرحوها بالتفصيل . أما عن موكب الذكر الذي يقام لديونيسيس ، فميلاميوس هو أول من أدخله ، ومنه تعلّم اليونانيون ما يعملون.
وهذا يعني أنه كان هناك تأثراً بمعتقدات المصريين من قبل اليونانيين، ودخل في لب ثقافتهم عبادة أوزوريس، ونقل معه جميع أشكاله الاحتفالية إليهم، وقد رأي هيرودوت أن المصريين هم أوائل الشعوب التي عرفت الاحتفالات والمواكب وقد تعلمها اليونانيون عنهم ونقلوها إلى بلادهم، وهذا دال من قوله: (ولقد سبق المصريون الشعوب إلى إقامة الأعياد العامة والمواكب العظيمة، وعنهم تعلمها اليونانيون. ودليلي على ذلك أنها تقام عند المصريين منذ زمن بعيد، بينما لم يحتفل بها اليونانيون إلا منذ وقت قريب).