بقلم: محمود حسونة
الهجوم الذي يتعرض له مسلسل (سره الباتع) وراءه أسباب عدة، ليس من بينها أنه عمل تافه، أو أن إيقاعه ساقط أو أن الصورة فيه ضبابية أو أن طرحه سطحي أو أن مضمونه مناهض للقيم وطاعن في الوطن، أو أن مخرجه خال من الموهبة، أو أن أبطاله غير مناسبين للشخصيات التي يمثلونها وعاجزين عن التقمص والاقناع.
البعض يهاجم المسلسل لموقف سياسي أو فني أو أخلاقي ضد مخرجه (خالد يوسف)، وهم بذلك يحاكمون الشخص من خلال إبداعه ولا يقيمون العمل الفني، والبعض الآخر يهاجمه نتيجة مضمونه الذي يدين كل محتل لمصر مساوياً في ذلك بين احتلال الفرنسيين المحروسة عام 1798، واحتلال جماعة الاخوان الارهابية لها عام 2012.. نعم الاحتلال الفرنسي احتلال أجنبي، والاحتلال الإخواني احتل خلاله فصيل من الشعب المصري الوطن، ولكن كل منهما حاول طمس الهوية المصرية والعبث بثقافة شعب صنع وأسس التاريخ وتغيير ملامح وحدود دولة تحدت الزمن، وتجاوزت الكثير من المحن وقهرت المحتلين والطامعين من كل بقاع الأرض بعد أن قهروها وحاولوا إذلال شعب لم ولن يقبل بالإذلال لا من العدو ولا من الصديق ولا حتى الشقيق.
من يريد أن يتخذ موقفاً من (خالد يوسف) فليفعل ويقاطع المسلسل وهذا حق لكل مشاهد، ولكن أن يطعن هذا أو ذاك حالة إبداعية متكاملة شارك فيها مئات الفنانين والمبدعين انتقاماً من شخص فهو غير مقبول، وأن تسعى الكتائب الإخوانية وتابعيها ممن عميت قلوبهم وطُمست عقولهم لتشويه عمل يكشف حقائق عايشناها جميعاً خلال يناير الأسود فهو ما لا ينبغي تمريره والتسليم به، وأن يصفي البعض حساباته مع العمل عبر مواقع التواصل الاجتماعي فهو ما لن ينطلي على عاقل ولا على ذواق للفن باحث عن القيمة مقدّر للابداع مؤمن برسالة الفن الهادف.
(خالد يوسف) بحث ونقّب حتى اهتدى لقصة الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس (سره الباتع) والتي كتبها في الستينات ليستوحي منها دراما تكشف أصالة المعدن المصري عبر التاريخ، والمسلسل يختلف عن القصة كلياً ولا يأخذ منها سوى (التناتيف) البسيطة ليربط بين مصر اليوم ومصر الأمس، فمصر هي مصر لا تتغير، والجينات المصرية لا تتبدل، والهوية المصرية لم تتغير عبر التاريخ، ظلت عصية على الهكسوس والفرس والرومان والمماليك والعثمانيين والفرنسيين والإنجليز، ولم يستطع الغزاة بمختلف ألوانهم وأشكالهم تغيير ثقافة الفلاح المصري الذي يعتبر أرضه هى عرضه، يدفع حياته راضياً مرضياً دفاعاً عن الوطن والأرض والعرض، وهى أشياء تمثل له الكرامة والعزة التي لا قيمة للحياة بدونهما.
المسلسل يتمحور حول شخصية (السلطان حامد) الذي يتبارك به الناس، ولا يعرفون له أصل ولا فصل، وهو ما يدفع بالشاب العصري حامد المسمى على اسم السلطان تبركاً، للبحث عن سره الباتع، فهم يظنونه قادراً على شفاء المريض وقضاء حاجات أصحاب الحاجة، له مقام في إحدى القرى، وبالبحث يتضح أن له مقامات متعددة، ولكنه ليس كباقي الأولياء، فهو سلطان وليس ولي ولا شيخ، والسلطان حامد فلاح مصري عاش في قرية (شطانوف) في زمن الحملة الفرنسية على مصر، بركاته ليست مستمدة من كونه رجل دين، ولكن من كونه بطلاً مصرياً أصيلاً، قاوم المحتل الفرنسي، وسعى لحماية أهل قريته من بطش الفرنجة، وقاوم العبث بثقافة وهوية أهله وناسه، وبعد أن قتله الفرنسيون قرر أهله وأحبابه تخليده بإقامة مئات المقامات له حتى لا يهتدي إلى جثمانه المحتلون، وأصبح له تابعين أو كما يسميهم المسلسل (أبناء)، مقطوعي الإصبع مثله وعلى جبينهم وشم عصفورة، وتشغل حكايته غير المعلنة حامد العصري ليواصل البحث عن سره الباتع، حتى يكتشف حقيقته لدى الفرنسيين بعد أن اندثرت بمرور الزمن عند المصريين، وفي ذلك دلالة على أن الآخر يعرفنا ويحفظ تاريخنا المدون وغير المدون أكثر منا، ولعل ذلك ما يفسر ولع الأوروبيين وبشكل خاص الفرنسيين بالحضارة المصرية القديمة.
المسلسل يحمل الكثير من الرسائل لمن لا يكتفي بالفرجة ولكن ينشغل أكثر بما وراء المشاهد.
معظمنا أهل ريف، ومعظمنا يتبارك بأصحاب الأضرحة المنتشرة في معظم قرى مصر سواء وسط الحقول أو داخل القرى، وللأسف أن الكثير جداً منا يعرف اسم صاحب هذا المقام أو ذاك ويزوره ويضع المال في ضريحه ويشعل الشمع على جنباته وهو لا يعلم أصله ولا فصله، و(السلطان حامد) واحد من هؤلاء الذين أنجبتهم مصر، ومن يبحث ويدقق سيجد أن غير المعروفين من أبطالنا وأوليائنا أضعاف أضعاف المعلومين، فلا توجد قرية في هذه الأرض إلا وأنجبت بطلاً قاوم ودافع عن كرامتها، أو ولياً كان حارثاً لقيمها وهويتها وثقافتها، ولكن مشاغل الزمن تركت الأضرحة وطمست السير.
عندما كتب (يوسف إدريس) قصته ربط فيها بين ماتعرض له المصريون في زمن الحملة الفرنسية وما حدث خلال العدوان الثلاثي على مصر، وعندما كتب خالد يوسف سيناريو المسلسل ربط بين الاحتلال الفرنسي والاحتلال الاخواني، الذي استغل ثورة الشباب في يناير ليمتطي الشعب والثورة ويخطف الدولة من أبنائها ويحولها بالنسبة للحالمين بالتغيير للأفضل إلى كابوس يجر مصر إلى غياهب الزمن ويسعى لتغيير هويتها وطمس معالمها وتحويلها من دولة صنعت التاريخ إلى دولة العشيرة والقبيلة، ولذا فقد كان الهجوم على المسلسل شرساً أملًا في أن يمنع ذلك الرسالة المرجوة من الوصول إلى جمهورها المستهدف، أو التشكيك فيها.
(خالد يوسف) لا يدين انتفاضة يناير ولا يدافع عنها، وقد حرص على أن يتخذ منها موقفاً محايداً وهى من الأمور التي لم تكن متوقعة خصوصاً أنه كان يعتبر نفسه من رموزها، ولعله مفاجئاً لبعضهم انصافه للجيش وشهدائه دفاعاً عن الوطن وحماية لكل مصري واستعادة لأمن ضاع واندثر بفضل الانتفاضة وفترة الحكم الاخواني غير المأسوف عليها.
كل ممثل في المسلسل كانت له دلالته وخصوصاً أبطال زمن الحملة الفرنسية، ومثلما شاهدنا البطل شاهدنا الخائن والعميل، ومن العناصر النسائية أم البطل وحبيبته، ومن الفوارق المهمة بين القصة الأصلية ليوسف إدريس ورؤية خالد يوسف الدرامية أن المسلسل أضاف الكثير من الشخصيات، لنجد أنفسنا أمام أكثر المسلسلات ثراءً وتشعباً، حيث شارك فيه 60 بطلاً ترك كل منهم بصمته، ومن حق كل منهم أن يتباهى بمشاركته في هذه التجربة الوطنية غير التقليدية.
حامد زماننا جسده بشكل نمطي أحمد فهمي، أما السلطان حامد فقد جسده بابداع الفنان أحمد السعدني ليكتب اسمه بحروف من نور بين كبار فناني هذا الجيل، وشاركته التألق والتميز الفنانة حنان مطاوع في دور حبيبته صافية، رمز الأرض المصرية المتفجرة حباً ووفاءً وعزة، وفي دور أمه أبدعت الفنانة هالة صدقي، وبشكل عام تميز نجوم مرحلة الحملة الفرنسية على نجوم المرحلة المعاصرة.
خالد يوسف لم يتألق فقط في اختيار القصة في أول تجاربه الدرامية ولا في تناولها لأبعادها، ولا في الصورة السينمائية، ولكنه أبهر المشاهد أيضاً في إدارته المجاميع وتشكيله بهم لوحات فنية تخلد في ذاكرة المشاهد.