هشام الجخ يبدع بأداء رائع في مسلسل (سره الباتع)
كتب: محمد حبوشة
قد يكون الشعر عبئا كبيرا على الشاعر، بل إن الصفة التي تلصق به جراء كتابته قد تصبح لعنة عليه، فكم من الشعراء من لم يتمكنوا من الاستمرار، فوجدوا أنفسهم قد أخذوا مسارات جديدة في الكتابة بجانب الشعر، أو توقفوا عن كتابته مكرسين جهودهم لاختياراتهم الأخرى، أو منقطعين عن الكتابة كليا، نذكر (رامبو) الذي توقف عن كتابة الشعر في عشرينياته متجها لخوض غمار السفر والترحال، أو (إدغار آلان بو) الذي فضل القصة القصيرة في النهاية وعمل عليها بجد، وأيضا (بول أوستر) صاحب (ثلاثية نيويورك) الذي اتجه بمسار روائي خالص.
ترى هل ماسبق يمكن أن يكون إشارة واضحة إلى تغيير مسار حياة الشاعر الشاب (هشام الجخ)، عندما غير وجهته – على غرار سابقيه – حيث دخل إلى عالم التمثيل من أوسع أبوابه مع المخرج الكبير (خالد يوسف) في مسلسل (سره الباتع)؟، وربما أراد (الجخ) خوض التجربة ربما – رغم تخوفاته الشديدة – على سبيل التجربة، ولكنها بدت لي على الأقل تجربة ناضجة، وهو الذي ظل طوال السنوات الماضية يقرأ قصائده الثورية الحماسية والمتمردة بطريقة تمثيلية توصل احساسه لمستمعيه بمشاعر متدفقة، خاصة وأن الدموع كانت تنساب من عينيه في مواقف كثيرة تتطلب التفاعل الحي مع جمهوره، ما يؤكد موهبته في التمثيل إلى جانب كتابة شعر العامية.
وقد بدا لي (الجخ) ممثلا جيدا يحمل مشاعر فياضة ولغة جسد معبرة عن مكنوناته الداخلية في شخصية (صابر) الفلاح الأزهري المثقف، وكأنه هنا تماهى مع الشخصية التي جاءت من لحم ودم تعبر عن مأساة مواطن مصري وهب نفسه فداءا لوطنه ضد المماليك تارة، وتارة أخرى ضد المحتل الفرنسي الذي قتل على يديه في الحلقة الرابعو من المسلسل.
(الجخ) أبدى تفوقا كبيرا في أدائه، وعندما نتأمل تجسيده لشخصية (صابر) سنجد أنه كان يذوب في تجربة التمثيل ككتابة شعرية سابقة له، بقصد التحدث عنها، إنما يفعل بشيء من المكر، بشيء من الوعي الإضافي على وعي ومشاعر سابقين كانا في أساس تلك التجربة، وبالتالي فإن مستوى نضج ملاحظاته وهو يتكلم عن تجربة الاحتلال المملوكيا مثل إلقاء قصيدة قديمة له، قد يطمس بحذاقة هفوات فنية في تمثيله مثل شعره، ليس لأنه قد يقول ما ليس في قصيدته، وإنما لأنه سيقول ما في نفسه، والواقع أن الأمر معقد، ففي الطيات العميقة من كل مشهد قام به كأنما يفصح عن قصيدة أسرار ربما لا تتكشف لنا من القراءة الأولى، وقد لا تتكشف حتى للشاعر الذي كتب القصيدة.
مع كل مشهد تمثيلي قصير بدا لي (الجخ) في كتابة جديدة له، يلاحظ الشاعر بغبطة مقلقة أحيانا، تحقق شيء من تطلع فني وجمالي ورؤيوي سبق أن صبا إليه وشغله يوما، إلا أن الأكثر حقيقية في الأثر الفني الجديد أن هذا الأثر يشكل (مقبرة) لتجربة سابقة لنفترض أنها قصيدة، أو قصائد منشورة في كتاب؛ فبفعل كفاح شعوري بطيء متواصل، وبحث رؤيوي مستمر، تمكن الشاعر (هشام الجخ) من قتل ما تؤسسه التجربة السابقة في مشاعره وفكره، ودفن ما جرى قتله في طبقة غير مرئية في الأثر الجديد، بل أثبت أن الشاعر يمكن أن يحس في أوقات ما، عندما يمسك بمشهد تمثيلي كما يمسك كتابا جمع فيه قصائده الجديدة بكاء كتيما وبعيدا للمشاعر والرغبات والتأملات الأولى التي كانت في كتاب سبق.
فإذا بمشاهد مؤثرة تتلامح هنا في كتاب جديد، لكنها لا تنفصل وتستقل عن مشاعر وخبرات وتأملات ورغبات مرتبطة بالضرورة بقصائده الجديدة، هذه مسألة مثيرة بالنسبة إلى، وربما لا يمكن لشخص، مهما كان قريبا من الشاعر، ومهما كان مرهفا ومتفهما لأحواله، أن يدرك هذا الغور من التجربة وأسرارها، فالشاعر الممثل (هشام الجخ) مع لحظة إدراك كهذه أصبح شخصا معذبا بأسراره الأولى (داخل الكادر) الذي قدمه بدقة تناهية المخرج (خالد يوسف).. إنها مسألة تتعلق بصراع غريب من نوعه بين زمان ظنناه انصرم، وزمان راهن ينصرم، باستمرار، وزمان سري متصل هو زمن الفن الذي يصل بينهما.
وفي الحلقة الثانية، ظهر صابر الذي يقوم بدوره الفنان هشام الجخ، صديق حامد وناصحه والمدافع عن الحق بكل قوة، وهو شاب أزهري في أوائل الأربعينات، ولد ونشأ في قرية صغيرة تدعى (كفر شندي) في عصر المماليك إبان الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، لكن المخرج (خالد يوسف) كان له كلمة أخرى، فقد رأى (صابر) بشكل مختلف وربط به خيوط العلم والوطنية والتدين وأطلق يديه – بعض الشيء – ليضيف الجخ على (صابر) بعض السمات كالعصبية والفصاحة والإيثار وإنكار الذات، (صابر) شاب قوي ميسور الحال متعلم فصيح مؤثر قارئ للتاريخ وعصبي بعض الشيء، ومن هنا جعل المخرج (خالد يوسف) من شخصية (صابر) الشرارة التي سيبدأ منها كل شيء، ليخرج لنا الشعب المصري سره الباتع، (صابر) ليس بطل المسلسل، ولكنه بطل خالد يوسف في الحقيقة.
هشام الخج في الحلقه الرابعه من (سره الباتع) ودع المسلسل بمشهد أكثر من رائع وروحه تغادر الجسد المسكون بالعذاب والخوف على تراب الوطن وكأن لسان حاله يقول قصيدته الرائعة:
لَا انَا حِمْلُ مَهْرُكِ ودَهِبكِ وَلَا جَايْ مْعَايَ عَاجِكِ
وَلَا حَمَلَ تَوْبَ مِنْ حَرِيْرَكِ وَلَا مَاسَةِ مِنْ تَاجكِ
دَهْ انَا بِالْكتَيّرِ حَاجَجَ مِنْ وَسَطِ حُجَاجُكَ
جِيّتْ لِكْ فِيْ شَهْرِ حَرَام فمُتَهَدْرَيشُ دَمِيَ
ماتَقْرْبَيشُ مِنِّيْ مَانْتِيشُ كِفَا هَمِّيْ
وَلِّيِ لْحَجَاجِكِ يَا امَّ الْجَبِيْنِ عَرَفَاتٍ
حُبَّكَ كَمَا الْصَّلَوَاتِ وَالْقِبْلَةَ مُشْ يَمِّي
يَا مَعَلْمَانِيّ الْهَوَا وَمَسْكِنّةً الْتَّبَارِيْحِ
حُبِّكَ نَّخِيْلٍ طَارَحْ مَيهزّهُوّشِ الرِّيَحُ
ارْمِيَ الْحَجَرَ جَارِحْ تُنْزِلُ رَطْبٍ مْجَارِيْح
إِزَايْ بْتِتْكَسَّرْ أشَوَاكِيّ جُوَّاكَيْ
أبكِيَ عَلَىَ صَدْرِكَ ألْقَى الْبُكَا تَّفَارِيحُ
إِزَايْ بْتِتْغَيَّرْ دُنْيَايَا جُوَّايَا أوَّلَ مَا أكُوْنُ جَنْبِكَ
وَإِزَاي يَجِيْلَكْ صَبَرَ تنَشَّفِي بُكَايَا وَالذَّنْبُ مُشْ ذَنْبِكَ!
يغادر (الجخ) أجواء مسلسل (سره الباتع) لكن يبقى أثرا لايفنى بفرط من موهبة تمثيلة تحتاج إلى توظيفها في القادم من الأيام، فنحن أمام ممثل يملك ناصية الأداء العذب على جناح فن الإلقاء كما يقول الكتاب.