بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
أعلن البيت الفني للمسرح عن خطته في مؤتمر صحفى التي تضمنت تقديم عمل يروى سيرة الشيخ محمد متولى الشعراوى ، ضمن ما يقرب من أكثر من 40 عرضا آخر، وفور الإعلان اشتعلت معركة كبرى وصلت إلى تقديم طلب إحاطة بمجلس النواب حول العرض، كما ناقشت عدة مقالات صحفية و برامج تليفزيونية الموضوع، وتوالى (الأخذ والرد) ما بين بيانات للمسئولين عن وزارة الثقافة وعن المسرح، وبيانات مضادة من جهات دينية كالأزهر الشريف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وتضخمت المعركة حتى غطت على بعض الأخبار المهمة، ولكن البعض رأى – وأنا منهم – أنها معركة تثير الحزن والأسى وتنذر بعواقب الأمور.
ولابد أن أقر بداية أننى لست مع تقديم سيرة الشيخ، فتقديم تلك السيرة – أو أي سيرة – لابد وأن يتسم بالصدق والموضوعية، وألا نجعل من صاحب السيرة شخصا ملائكيا منزها عن الأخطاء وبالتالى فالتعرض الموضوعى لمواقف الشيخ السياسية وعلاقته بالحكام على مر العصور لن يعجب مريديه والعاشقين له، كما أن علاقته ببعض الكيانات الاقتصادية التي جرمها القضاء والتي تسببت في مآسى لمواطنين كثيرين كشركات توظيف الأموال تضع علامات استفهام. وإذا تغافلنا عن هذه الجوانب من سيرته فكيف سنغفل عن فتاواه التي تتعارض مع فتاوى آخرين ومع توجه الدولة فيما يخص فوائد البنوك والختان والموقف من شركاء الأمة والوطن من الأقباط؟
فهل في مقدورنا أن نذكر كل هذا في سيرته وهي تقدم على المسرح؟، وهل نتعرض لمواقفه السياسية أم نغفلها؟، هل نناقش فتاواه أم نذكرها كما هى؟ أم نكتفى بسرد الوقائع كيوم الميلاد ومكانه والمناصب والجوائز والتكريمات؟، وما الفائدة إذن من تقديم تلك السيرة إذا لم تناقش – أو على الأقل تعرض – أفكار صاحبها؟، وما الجديد الذى لا يعلمه الناس عن سيرة الشيخ ومن الممكن أن يقدمه العرض؟
إن من يريد أن يتكلم عن مواجهة الإرهاب باسم الدين لابد و أن يختار نموذجا كالشيخ محمد حسين الذهبى الذى اغتالته يد الإرهاب بسبب تفنيده لآراء تلك الجماعات، ومن يريد أن يتكلم عن تجديد التعليم الدينى لابد وأن يختار نموذجا كالشيخ حسن العطار الذى أدخل علوما كانت جديدة على الدراسة في الأزهر، ومن يريد أن يتكلم عن تجديد الخطاب الدينى في عصور سابقة
لابد وأن يتكلم عن نموذج الشيخ محمد عبده، و من يريد أن
يتكلم عن نموذج الشيخ الثائر الذى وقف في وجه الظلم فهناك العشرات من مشايخ الأزهر في عصر المماليك وفي أثناء الحملة الفرنسية (كالشيخ البكرى و الشيخ الشرقاوى).. النماذج المضيئة كثيرة ولكنها للأسف أقل شهرة!
وهنا نتوقف أمام سؤال مهم: هل نقدم سيرة رجل غير معروف أم نلجأ للأشهر؟، والحقيقة أنه سؤال خاطئ، وصحيح السؤال هو: لماذا نقدم هذه السيرة أو تلك؟، ما الهدف الذى نريد ايصاله؟، ما المحتوى الذى تتضمنه هذه السيرة أو تلك؟، فعلى سبيل المثال عندما اختار كاتبنا الكبير نعمان عاشور بعد النكسة أن يقدم دراما وثائقية لجأ إلى سيرة الشيخ رفاعة الطهطاوى رائد التحديث والتجديد وناقل العلوم الغربية وأبو الترجمة في العصر الحديث، و أسمى تلك السيرة – أو العمل المسرحى – بشير التقدم وتم تقديمها على المسرح باسم (باحلم يا مصر).
هكذا يتم اختيار الشخصيات التي تقدم سيرتها على المسرح: يحكمها المحتوى وليس الشهرة، و في اعتقادى إنه كلما كان هناك جديد في سيرة الشخصية لا يعلمه المشاهد كلما كان أفضل، ولهذا فاللجوء إلى غير المعاصرين يعتبر أكثر ثراء، فالكثيرين يعرفون من هو الشيخ الشعراوى – سواء مع أو ضد – لكن القلائل من يعرفون الشيخ على عبد الرازاق مثلا.
أما أوجه الأسى والحزن الأخرى التي انتابتنى – وانتابت آخرين مثلى – فهي بسبب ردود أفعال كل الأطراف المشاركة في المعركة، فلقد تطرف كل جانب في ردة فعله، المحبين للشيخ رفعوه فوق النقد وبالغوا في الإشادة به التي وصلت الى حد التقديس، فقالوا عليه أنه من العلماء الربانيين!! و أنه من ثوابت الأمة !!، وانتهوا إلى أن الهجوم عليه هجوم على الدين أو على الأقل وراء هذا الهجوم أغراض خبيثة.
أما بعض الذين هاجموا تقديم العرض فقد تطرفوا أيضا في هجومهم حتى أنهم نبشوا في علاقة مدير المسرح القومى بأحد المشايخ – في حين أنهم المدافعين عن حرية العقيدة – و كان من المقبول أن يحاسبوه عما قدمه المسرح في سنوات رئاسته، ولكن ليس من المقبول أن يحاسبوه على معتقداته، وفي نفس الوقت كنت أتمنى أن يدافع المسئولون عن اختيارهم للشيخ ويعرضوا للجميع وجهة نظرهم في اختيار الشيخ مثالا لمسرح السيرة، ولكن الكل أمام الهجوم الضخم تخلى عن المشروع وقال أن النص لم يتم الموافقة عليه لضعفه فنيا!!
هنا نأتى لوجه آخر محزن، فتقديم سيرة الشيخ كان من المفترض أن يتم عن طريق عمل فنى، ولكننا حكمنا على العمل قبل أن يظهر للنور، وحكمنا عليه لأسباب غير فنية، وهذا يحمل بذور خطر داهم فأي جماعة الآن تستطيع أن تعارض عملا فنيا وتمنعه من الظهور قياسا على ما حدث، وهكذا نصبنا أنفسنا رقباء وتعدينا على سلطة الرقابة على المصنفات الفنية، ولا ندرى من غدا يستخدم نفس السلاح ولأى الأغراض!!، والأخطر أننا أرهبنا الرقيب الجالس في مكانه فصار يخشى سلطة جماعات الضغط على وسائل التواصل الاجتماعى، ويضع أن القاعدة هى المنع وليس الإباحة (و الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح)، ثم نعود لنشكو انخفاض سقف الحرية المتاح!!
و أعود لأكرر أن المسرح يملك من الهموم والمشاكل ما هو أجدر بالمناقشة بكثير من مجرد أمسية كان سيراها المئات، كما أن منع عرض مسرحى لن يرفع عن المسرح المصرى القيود الكثيرة التي تم تكبيله بها.