كتب : محمد حبوشة
لا يعني التوق إلى الماضي عدم التطور في حياتك، لكن قد يجعلك التفكير المطول في الماضي غير مهيأ للتأقلم مع التحديات الحالية، قد تساعدك استعادة الماضي أحيانا – لتذكر طريقة تكيفك مع أحداث الحياة الصعبة والقديمة – على تعزيز ثقتك بقدرتك على التعامل مع ما تواجهه الآن، استمع إلى الأغاني القديمة، فقد يكون ذلك أمرا مريحا وضروريا لروحك، أو شاهد مسلسل من نوعية السيرة الذاتية لعظماء أثروا وأثروا حياتنا، استعد ذكريات ثقافة أيام شبابك وانغمس في ماضيك لتنعش إحساسك بهويتك، لكن من المهم ألا تبقى عالقا في الماضي، كي تحافظ على وجهة نظر متجددة وموضوعية، لا تفترض أن المستقبل سيكون أسوأ فقط لأن من هم في العشرينيات من عمرهم الآن أصغر سنا من جيلك، سيساعدك البقاء على تواصل مع الشباب الآن على التأقلم مع السنوات القادمة من حياتك.
ومن أجل هذا وذاك دائما ما ينتظر الجمهور أعمال السيرة الذاتية في الموسم الدرامي الرمضاني من كل عام، لأنها تكشف العديد من الجوانب الغائبة في حياة العظماء والمشاهير، إلا أن هذا العام والأعوام القلية السابقة أصيبت معظم أعمال السير الذاتية بلعنة التأجيل، بحجة ضخامة الإنتاج، أو لأسباب أخى مختلفة من هذه المسلسلات (محمد علي باشا، طلعت حرب باشا، شجرة الدر، مصطفى محمود، داليدا) وغيرها من أعمال حبيسة الأدراج، ومنها ما توقف بسبب الأزمات الانتاجية ومنها ما توقف لعدم اختيار الأبطال ومنها لأسباب خاصة بالورثة.
وتعد آخر أزمات مسلسل (الضاحك الباكي)، الذي يتناول تفاصيل حياة الراحل نجيب الريحاني والراقصة بديعة مصابني، هى اعتذار الفنان أشرف عبد الباقي عن أداء البطولة بعد الاتفاق على كل التفاصيل وبعدها قامت الشركة بترشيح الفنان هشام اسماعيل ليقوم بأداء شخصية نجيب الريحاني، إلا أن شركة الإنتاج لم تبلغه بموعد بدء التصوير، وأكد اسماعيل أن المخرج مجدي أبوعميرة ومحمد الغيطي كاتب العمل هما من رشحاه للدور، وبالفعل قام ببروفة ملابس وماكياج من فترة طويلة، ولم تبلغه الشركة بموعد التصوير خاصة وأنها لم تستقر على بطلة المسلسل التي ستجسد شخصية بديعة مصابني حتى الآن، وأخيرا تم الإفراج عن سيناريو محمد الغيطي واستقرت الشركة المنتجة على (عمرو عبد الجليل) بطلا والمخرج الكبير (محمد فاضل) مخرجا ليظهر للنور غدا السبت 22 أكتوبر على قناة cbc.
وإن كنت أتمنى أن يكون (الضاحك الباكي) ضمن أعمال (رمضان 2023) نظرا لأن ملامح الموسم القادم لا توحي بأعمال تعزف على الحس الوطني بعد أن ودعنا (الاختيار وهجمة مرتدة)، بل غالبية المطروح حتى الآن يجنح نحو اللون الصعيدي وكأننا اشتقنا لموضوعات الثأر وتجارة الآثار التي تعد السمة الرئيسية لهذه النوعية من الدراما التقليدية الغارقة في السطحية وفقدان الرسائل الاجتماعية التي تهدف إليها الدراما.
ظني أن مسلسلات مثل (محمد على باشا، طلعت حرب باشا، شجرة الدر، مصطفى محمود، أو داليد)، وهنالك عملين مهمين تم التعاقد من جانب (المتحدة) مع الكاتب الكبير (محمد جلال عبد القوي) بعنوان (أسد سيناء – سيد زكريا خليل، وعلي إبراهيم – أبو الطب المصري)، وهما بالمناسبة ينتميان لنوعية أعمال السيرة الذاتية التي ترصد بطولات جليلة أو إنجازات عظيمة لشخصيات أثرت في حياتنا، وكان حريا بها أن تخرج للنور في هذا الموسم الذي يبدو حتى الآن هذيلا متورايا – كما أرى من المعروض – وراء موضوعات لا تصنع الجدية ولا تقترب من المثل والقدوة.
فبعد أن تم الإعلان عن مسلسل (العالم والإيمان) منذ ما يقرب من أربعة أعوام ليتناول السيرة الذاتية للدكتور (مصطفى محمود)، وبالفعل تعاقد عليه الفنان خالد النبوي ليقوم ببطولته وعقد أكثر من جلسة تحضيرية للعمل مع السيناريست (وليد يوسف) الذي أكد أن سبب التأجيل يعود للجهة المنتجة التي تماطل في خروج العمل للنور، وحزين لتأخيره كل هذه الفترة لأنه استغرق وقتا طويلاً في كتابته، ويعتبره من أهم الأعمال التي سيقدمها في مشواره الفني، خاصة وأن الدكتور مصطفى حياته مليئة بالأحداث والأسرار، وأن الجمهور المصري في حاجة لتقديم مثل هذه النماذج في وقتنا الحالي.
ولاقى مشروع مسلسل (طلعت حرب) نفس المصير الذي كان من المقرر أن يطرح ضمن الأعمال الدرامية لرمضان قبل الماضي 2021، لكن تقاعس مدينة الانتاج الإعلامي في التحضير له جعل المسلسل حبيس الأدراج، وأوضحت مخرجة المسلسل أنعام محمد علي أنها كانت تتمني ظهور المسلسل هذا العام، خاصة أنه تم تاجيله أكثر من مرة دون أسباب واضحة من الجهة الانتاجية، ويبدو أنها حاولت جاهدة لاتمام المشروع خلال العام الحالي وفشلت أيضا، وأيضا مع مرور ذكرى تنصيب محمد على مؤسس مصر الحديثة واليا على مصر، تداول عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعى، صورة للنجم الكبير (يحيى الفخرانى) يجسد شخصية محمد على تلك الشخصية المثيرة بتفاصيلها فى تاريخ مصر، إذ مكنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به أن يستمر فى حكم مصر طويلا، ليكسر بذلك العادة العثمانية التى كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين.
الصورة يرجع تاريخها إلى عام 2010 وبدأ الحديث عن تحضير مسلسل عن حياة (محمد على باشا)، بطولة النجم (يحيى الفخرانى) وواجه العمل العديد من العقبات حتى توقف إنتاجه، وظهر بوستر للفخرانى يجسد فيه شخصية والى مصر حتى ظن الكثيرون أن العمل اقترب عرضه على الشاشات، إلا أن الفنان يحيى الفخرانى نفى الأمر وأكد أنه أفيش قديم يعود لعام 2011 ، وبسؤال المخرج شادى الفخرانى عن مصير العمل، قال فى تصريحات خاصة إن الورق جاهز ومنتهى منذ سنوات إلا أن الأزمة تتعلق بالأمور المادية.
وكان الراحل العظيم (يسري الجندي) قد بدأ حماسه لتقديم مسلسل (شجرة الدر) عام 2010، ورشح لبطولته الفنانة غادة عبد الرازق، والمخرج أحمد صقر لتولي إخراجه، وفي عام 2011، تعاقد المخرج السوري محمد عزيزية على تولي إخراج المسلسل، ورشح لبطولته الفنانة سلاف فواخرجي، وبعد قيام أحداث يناير، تم إسناد إخراج المسلسل إلى المخرج مجدي أبو عميرة، لتقديم العمل خلال عام 2012، وفي عام 2013 قام (الجندي) بسحب العمل من التلفزيون المصري، وقرر إنتاجه مناصفة مع أي شركة إنتاج أخرى، ليعود المسلسل مرة ثانية إلى يد المخرج محمد عزيزية، وبعدها بسنوات، أعلن الكاتب الراحل، توقف المسلسل بسبب الحاجة إلى ميزانية ضخمة.
والسؤال الذي يلح الآن: هل من شركة (المتحدة) أن تقوم بجدولة هذه الأعمال في خريطة إنتاجها من الآن فصاعدا بحيث يتم تغذية المواسم الرمضانية القادمة بتلك المسلسلات التي تلعب على (النوستالجيا) من ناحية، ومن ناحية أخرى تبعث على الحس الوطني الذي نحن أحوج ما يكون إليه الآن قبل أي وقت مضى بدلا من مسلسلات (غثاء السيل) التي تفرضها علينا في وقت تقوم فيه الحكومة ورأس الدولة (الرئيس عبد الفتاح السيسي) على إحداث تنمية شاملة تحتاج إلى هذه النوعية من القوى الناعمة التي ترسخ للانتماء للوطن وعرض سير الأجداد الذين أخلصوا لتراب هذا الوطن؟
ياسادة لم تعد الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية مواد للترفيه فقط، بل إنها أصبحت تمثل إحدى أهم أدوات (القوة الناعمة) التي تمتلكها الدول وتحرص على تطويرها لدعم حضورها وربما نفوذها خارج حدودها الجغرافية، وقد تبلور توظيف صناعة السينما والدراما عالميا وإقليميا خلال السنوات القليلة الماضية بشكل كبير، لا سيما مع تطور هذه الصناعة ومواكبتها للتقنيات الحديثة، حيث اتسمت معظم الأعمال الدرامية الوافدة على وسائل الإعلام العربي بمستوى عال من الحرفية وجودة جماليات الصورة، والإخراج، والتركيز على المناطق الطبيعية الخلابة.
وهو ما جذب المتلقي ناحية المتابعة لمشاهدة المزيد من عناصر الإبهار التمثيلية والجمالية، في ظل رتابة المحتوى المقدم محليا، وتدني المستوى التقني للصورة، وهى عوامل تصب في صالح هذه الأعمال الوافدة، بل هو ما ساعد في جعلها أكثر جذبا وملاءمة للتصدير إلى الخارج، وفي هذا الإطار تنوعت أهداف الأعمال السينمائية والتليفزيونية، ما بين تنشيط القطاع السياحي في دولة ما، أو تحسين الصورة الذهنية عن تلك الدولة بالعودة إلى ماضيها العريق، أو خدمة أهداف سياستها الخارجية، وغيرها من أنماط توظيف هذه الصناعة.
دراما السير الذاتية للعظماء في تاريخنا وأيضا الدراما السياسية ياسادة مهمة للغاية في تنمية الشعور الوطنى فى ظل التحديات التى تواجه حصون الوعى، وبالتأكيد مهمة ليست هينة خاصة أنها فى معركة لمواجهة معتقدات ومبادئ تتعلق بالأرض والهوية، إلا أن البطولات العسكرية والمخابرات المصرية استطاعت تحقيق المعادلة الصعبة فى تقديم محتوى قادر على تفعيل الدور التثقيفى والتوعوى، وإسهامها بشكل كبير فى بناء عقليات ناقدة قادرة على التلقى الفعال لمضامين تلك الصناعة المصرية، بالإضافة الى الجاذبية الخاصة التى تحققها بكشف أسرار شخصياتها محور العمل، وأحداث خفية حدثت بالفعل، ودورها فى بث رسائل موجهة للجهات المعادية.. فكانت بمثابة مدفعية ثقيلة على جبهة معارك الوعى.
ظني أن انتباه الدولة المصرية حاليا في توجهها نحو توظيف القوى الناعمة كما شهدنا في الدراما الرمضانية خلال المواسم الرمضانية الثلاثة الماضية لمصلحة السياسة هو توجه سليم للغاية، ولعل الجهد المبذول من جانب الشركة (المتحدة للخدمات الإعلامية) يوضح هذا التوجه الانتاجي الواعي، وذلك بالتعاون مع بعض الشركات العاملة في نفس المجال الإنتاجي عن طريق المشاركة في الأعمال الدرامية الوطنية التي تساهم في تشكيل الهوية وتضرب الأمثلة في البطولة والفداء، كأعمال دراما المخابرات أو الدراما السياسية الأكثر تأثيرا على الجمهور لما تبثه من روح الانتماء وحب الوطن، والتأكيد على الهوية الوطنية وتقديمها للعديد من المعلومات التي تخفى على الكثيرين، عن نماذج وطنية خدمت الوطن دون أن يعلم عنها أحد، وكشف الكثير من الحقائق التي يحاول أعداء الوطن طمسها أو تزييفها، وذلك في جو من الإثارة والتشويق.
على أية حال أحب أن أشير إلى غياب القوى الناعمة طويلا عن القيام بدورها في كافة القضايا المصرية والعربية، ولم نحاول أن نستغل الأعمال القيمة بالغة الأثر في تاريخ الدراما العربية – على غرار مافعل (أردوغان) في (قيامة أرطغرل)، ومنها على سبيل المثال مسلسل (التغريبة الفلسطينية) الذي تناول النكبة الفلسطينية، وهو ما يستدعي التوقف أمامه طويلا بما يحمله من وثيقة تاريخية صورت المأساة الفلسطينية منذ مطلع الثلاثينيات حتى هزيمة يونيو عام 1967، والتي تعتبر واحدة من أهم المراحل في تاريخ القضية الفلسطينية، بانعكاسها في الصراعات والتفاعلات الاجتماعية والإنسانية والسياسية بين شخوص العمل القائمة على عائلة (أحمد الشيخ يونس) الملقب بـ (أبوصالح) محور التصاعد الدرامي للأحداث، لما تمثله من انكسارات وخيبات ومحاولات جيل كامل من الفلسطينيين البحث عن خيط نجاة، وهى بالمناسبة تفوق في مستواها الفني كل المسلسلات التركية التي تمجد الدولة العثمانية حاليا.
وفي النهاية: ظني أن هنالك حاجة ماسة لتكثيف هذا الخط الإنتاجى الوطني من السير الذاتية أو بحس سياسي أو مخابراتي، فقد ثبت أنها شديدة الأهمية وشديدة الجاذبية وفى نفس الوقت لها قاعدة جماهيرية كبيرة، ومن الضرورى الاهتمام بتنمية الحس الوطنى وتحريك الوعى لأننا نواجه معركة أساسها مشكلة لايجب غض الطرف عنها وهى آفة الجهل ومن مظاهر الجهل عدم الوعى أو الوعى الزائف، وذلك من الممكن تحقيقه من خلال المادة الموجودة فى السير الذاتية وملفات المخابرات العامة التى تركز على مفهوم الايدلوجية للأفكار والمعتقدات الكامنة فى أنماط سلوكية معينة، كذلك سياسة التعامل مع الآخر والصراع الخفى والظاهر وكافة أنواع الصراعات التى من ضمنها الصراع على الأرض والهوية والمقومات الخاصة بالثروات الطبيعية للبلد، جميعها تدخل فى نطاق السير الذاتية وأجهزة المخابرات التى تعتبر منجم ذهب للدراما، فهى تقدم المعرفة والمعلومة اللازمة لبناء مشروع قومى قوى ومتكامل.