بقلم : محمد حبوشة
قلبي مع الكاتب الصحفي والإعلامي المتميز (خالد صلاح) في مهتمته الشاقة في التصدي لكتابة مسلسل (معاوية) الذي يحكي ويكشف أسرار في حياة (معاوية بن أبي سفيان)، تلك الشخصية الملتبثة، صاحبة الصولجان في التاريخ الإسلامي، أعلم أن خالد صلاح كاتب صحفي من طراز رفيع، وله تجارب مشهودة في الصحافة الحديثة، خاصة منها تجربته الإلكترونية (اليوم السابع) التي تشهد له بالكفاءة والتميز طوال أكثر من عشر سنوات، سبقها بتجربة مميزة للغاية في الصحافة التلفزيونية في (وكالة الأخبار العربية – ANA)، ومن قبل كان له باع طويل في الصحافة السياسية بمجلة (الأهرام العربي)، ناهيك عن برامجه التلفزيونية الناجحة، لكن تحوله للكتابة الدرامية يضعه على المحك، خاصة أنه اختار مهمة الكتابة التاريخية التي لم يعد باقيا في محرابها سوى الكاتب الأردني من أصل فلسطيني (الدكتور وليد سيف)، بعد رحيل العظيمين (يسري الجندي، ومحفوظ عبد الرحمن)، فهل يكشف لنا مسلسل (معاوية) عن كاتب فذ يضاف إلى قائمة العظماء من كتاب الدراما التاريخية؟.
ظني أن النجاح سيكون حليفا لخالد صلاح صاحب الموهبة الكبيرة في الكتابة السياسية بمبضع جراح ماهر احترف لعبة السياسة منذ بداياته طالبا بالجامعة، ويقيني الراسخ بأننا سنشهد مولد كاتب تاريخي من طراز رفيع بحكم فهمه العميق وخبرته لمجريات السياسة وأفعالها، فهو يدرك جيدا أن مواكب التاريخ مضت تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس، ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر، وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم، وهنالك شخصيات لعبت أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
أعتقد أن خالد صلاح في مسلسل (معاوية) سوف يجيب بحرفيته المعهودة لكل أسئلة التاريخ التي تتعلق بشخصية (معاوية)، وسوف ينحاز للدقة التاريخية، في أن يقدم لنا قائمة كاملة لكل استفساراتنا عن الأسرار الخفية حول نشوب النزاعات بين الدول، اندلاع الثورات التى أطاحت بأنظمة وأرست أخرى، واندثار أمم كاملة تحت أقدام جيوش التوسع وأحلام السيطرة على العالم، وعلى الرغم من أنني لم أقرأ السيناريو الذي كتبه حتى الآن، فأثق أنه سيسرد تاريخا بين صفحاته قصص قيام دول بقيت متماسكة لمئات السنوات، ثم انهارت على يد حاكم أقوى، أكثر دهاء ودراية بمقتضيات المشهد الحالى، ولكل حاكم منهم (معاوية) مجدا خاصا يستحق النظر، لذلك كان الرجوع إليهم واجبا لقراءة الإجابات، والوقوف بين السطور بحثا عن أسباب بقائهم، ومواطن قوتهم التى سمحت بانضمام أسمائهم لملفات التاريخ.
أعلم علم اليقين أن خالد صلاح مدرك تماما أنه لن ينسى التاريخ اسم (معاوية بن أبى سفيان) الحاكم الذى وضعه المؤرخون فى موضع المنتصف بين الحلم والشدة، فهو لم يكن رجلا سهل التصنيف، بدأ حكمه فى فترة سياسية عصيبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، الدولة على شفا بركان، تناثرت شظاياه وطالت آلاف المسلمين الذين سفكت دماؤهم فى المعارك بينه وبين (على بن أبى طالب)، وبدأ تكوين الدولة الأموية التى حملت لقب الأكثر اتساعا على الإطلاق فى التاريخ الإسلامى، وسيكشف لنا الأحداث الأكثر احتداما منذ استل المسلمون سيوفهم رافعين رايات الشهادة فى سبيل الله ورسوله، حين انقسم المسلمون لفريقين، يدافع الأول عن أحقية (على بن أبى طالب) فى الخلافة، بينما يحمل الثانى السلاح لنصرة معاوية بن أبى سفيان الذى رفض قرار عزله من ولاية الشام بعد تولى (على) فخرج لمقاتلته حاملا ثأر عثمان بن عفان رضى الله عنه فى مواجهة دوافع القتال.
من المؤكد أن (خالد صلاح) بحكم معرفتي بدأبه في البحث والتقصي سيقف بخطى واثقة على أسرار شخصية بحجم (معاوية بن أبى سفيان) كقائد ومقاتل، يجب الرجوع إلى هذا الفتى الذى نشأ فى أسرة لها ما لها من الشهرة والقوة بين سادة قريش، زرع فيه والداه منذ طفولته أحلام القيادة والتوسع، فمن بين قصص طفولته روى أن أبا سفيان نظر إليه وهو طفل وقال (إن ابنى لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه)، بينما لم تكن والدته (هند بنت ربيعة) ترضى بسيادته لقومه فحسب، بل تطلعت إلى ما هو أبعد عندما ردت على مقولة أبيه قائلة (قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة).
يقيني أن (خالد) عاد إلى مراجع كثيرة حول (معاوية) الذي نشأ فى ظل هذا الحث المحموم على اقتناص عرش الخلافة، ولم يكن بعيدا عن التطلع هو الآخر بطموحات خاصة، وكانت حياته منذ دخوله الإسلام وانضمامه لصحابة النبى وأحد أهم قادة جيوش المسلمين خير دليل فيما بعد على تلك الطموحات غير المحدودة، كما عكست هذه الحياة أيضا لجوء معاوية دائما للحلم والهدوء والصبر فى الحصول على مبتغاه، ولسوف نرى على جناح سحر الصورة التليفزيونية، كيف عمل (معاوية) باجتهاد صامتا للترقى لمنصب بعد آخر، بشكل عام كما تشير السير التى تناولت حياة معاوية، مال نسبه إلى بيت يتمسك بمظاهر العزة والوجاهة ولا يفضل أهله الزهد فى أمور الدنيا مثلما كان الحال بالنسبة للبيت النبوى الذى خرج منه خصم (معاوية) على بن أبى طالب.
أنني في شوق جارف لمعرفة كيف تعامل خيال (خالد صلاح) الدرامي مع الصلح بين معاوية بن أبى سفيان (والحسن بن على بن أبى طالب) الذى رفض القتال وتنازل للحكم عن معاوية عام 41، وهنا لابد أن يبرع خيال المؤلف في سرد كيف بدأ (معاوية) فى خوض التحدى الأصعب لترميم ما صدعته الفتنة، انتهى عهد الحروب، وجد (معاوية) نفسه أمام هذه التركة الثقيلة، فوضع الأسلحة جانبًا، وخفض الأصوات التى مازالت متأثرة بما حدث مع (على بن أبى طالب)، وبدأ حلقة طويلة من سياسات توازن القوى، وإعادة بناء القيادات وضبط أماكنها، اتجه لتأمين دولة مصر التى كادت أن تضيع أثناء النزاعات بعد أن أعلنت تمردها فى أعقاب تولى (على بن أبى طالب الخلافة)، ثم اتجه بعدها لسياسة أكثر حكمة بحفظ التوازن بين قيادات القبائل العربية المختلفة، تجنبا لثوراتهم أو انشقاقهم عن الدولة الأم.
أنتظر في لهفة كيف عالج خالد صلاح قصة استغلال (معاوية) فى بداية إنشاء دولته كروته الرابحة التى راهن عليها فأثبتت رجاحة وجهة نظره، وأبرزها أهل الشام التى ظل واليا عليها بالكامل لمدة قاربت العشرين عاما، فكان يضمن تمامًا ولاء أهلها له، والتفافهم خلفه، وكان دائم اليقين بأن أهل الشام فى عونه إن احتاجهم، وفى الوقت نفسه لم يعط (معاوية) أهل الشام فضلا وامتيازات عن باقى الولايات، لأنه كان يدرك جيدا حساسية خصومه ومعارضيه، والمتأثرين باغتيال (على) كرمز من رموز بيت النبى، وبعد تأمين مواطن قوته فى مواجهة الانقسامات، بدأ فى تكوين جبهة داخلية تدين له بالولاء بما لا يقبل المواربة، فاختار (عمرو بن العاص) فى مصر التى اعتبرها واحدة من أهم الولايات المحورية التى تحتاج فئات شعبها المتباينة لقائد لا يقل دهاء عن معاوية نفسه، ثم نشر أتباعه المخلصين من خير السياسيين المعاونين له وقت الأزمة على رأس باقى الولايات، وكان له فى سياسة التعامل مع أتباعه منهجا فريدا جعل التآمر عليه أقرب للمستحيل.
كثيرة هى المحايز التي تتعلق بشخصية (معاوية بن أبي سفيان)، فالمتتبع لسيرته وسياسته في ادارة الحكم الذي استولى عليه بعد مقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وبعد دفعه بالقوة الحسن بن علي للتنازل عن الخلافة له عام 41 هجرية، سيرى بأنه أسس الدولة الأموية التي جعل من دمشق عاصمة لها، على طريقة الدولة البيزنطية التي كانت تحتل الشام قبله، إذ أنشأ الدواوين المركزية، مثل ديوان الرسائل وديوان الخاتم وديوان البريد، وأنشأ أجهزة الشرطة والأمن والتجسس والوشاية والمخابرات التي اشتهرت بقوتها وقدرتها على اختراق مخالفي معاوية على الطريقة البيزنطية، وما يدل على ذلك وعلى قوة مخابراته، هو اطلاعه على المراسلات التي كانت بين الحسين بن علي وبين أهل العراق، كما أنشأ جيشا كبيرا وقويا جدا وأنشأ واحدا من أكبر الأساطيل البحرية في العالم حينذاك والذي استخدمه في غزواته الاستعمارية التي طالت بلداناً كثيرة.
وعلى الرغم من تلك المحاذير والألغام في طريق (خالد صلاح) فإنه سوف يتصدى بجسارة قلمه الرشيق لبيان كيف نشر (معاوية) الرفاهية في دولته وبالأخص في الشام لطاعتها العمياء له، وأتبع سياسة الشدة واللين واستخدام المال في تأكيد الولاء له بذكاء ودهاء سياسيين كبيرين يناسب إطار وشكل الدولة التي أسسها بعيدا عن إطار وشكل الدولة التي أسسها نبي الإسلام، ولهذا، لو تأملنا سياسته أكثر وبدقة أكبر سنجده لم يلتزم بجوهر وطبيعة المبادئ الاسلامية التي نادى بها نبي الاسلام طوال حياته، مع أنه ظل طوال فترة حكمه يتغنّى بها ظاهرا، وفي النهاية سوف يكشف (صلاح) أهم ملامح شخصية (معاوية بن أبي سفيان) صاحب فضائل قد أهملها وأخفاها كثير ممن كتب عنه، وجانب فيه الموضوعية والإنصاف، فضلا عمن غلا في تجريمه، ورماه بالفسق والفجور، ومنهج أهل السنة وسط بعيد عن الإفراط والتفريط، فلا نظن فيه العصمة، بل ننهج معه ومع غيره الموضوعية والإنصاف بغير إفراط أو تفريط؛ يقول الله – عز وجل- (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)، وهذا حتما ما سيحققه خالد صلاح مع (معاوية).. فانتظروا مسلسلا سيصنع كثير من الجدل، لكنه بالتأكيد سينحاز لمتعة المشاهدة.