بقلم : محمد حبوشة
يبدو الحوار جديا وعميقا في هذا المسلسل الأمريكي، ويحمل في طياته دلالات كثيرة عن أحوال غربة الفلسطيني في الغرب المبلد بغيوم التعصب الأعمى، لكن كونه جاء في إطار فكاهي وحقيقي لاتستطيع معه سوى الضحك والتفكير معا، خاصة أنه ناطق باللغة العربية الفصحى بكلنة خاصة، وهذا ينسحب على مسلسل (مو عامر) الذي يتحدث عن تناقضات يعيشها شاب مسلم أمريكي فلسطيني قضى طفولته في الكويت، قبل أن يغادر مع عائلته برا إلى العراق خلال حرب الخليج بدون أي وثائق للسفر، فتحط بهم الرحال للاستقرار في هيوستن بولاية تكساس، حيث ينتظرون أكثر من عشرين عاما قرارا في ملف قضية اللجوء.
ربما تصرخ كفلسطيني وتقول: (أخيرا مسلسل عالمي يحكي قصتنا).. حكاية المغتربين على منصة (نتفليكس)، حقا سيشعر كثير من الفلسطينيين وهم يشاهدون المسلسل بالفرحة الممزوجة بالغبن، خاصة منهم أولئك الذين قضوا طفولتهم في دول الخليج بقرب خاص من هذه الفترة، خاصة وقت حرب الخليج الثانية في التسعينيات وتصاعد التوتر، والتجهيزات لحماية العائلة، والخوف من المصير المجهول، لذلك فمن الحلقات الأولى تتنفس كفلسطيني الصعداء: أخيرا مسلسل عالمي يحكي قصتنا.
ليس فقط إلى هذا الحد سيحكي (قصتنا)، بل سيستمر المسلسل ليشعر كل فلسطيني عاش ويعيش في أوروبا وأمريكا أو أي بلد أجنبي أنه هنا، في هذا الموقف، بل حدث معه أمر مشابه تماما، يضحك ويبكي، ويشعر بالأشياء بشكل خاص، وقد يحب الإنسان الفلسطيني لأول مرة (نتفليكس) بشكل شخصي، ويشعر أنها تحكي قصته، حيث يعرض المسلسل بشكل كوميدي لكن جدي علاقات متشابكة بين العائلة الفلسطينية المسلمة والحريات في الغرب، وبين سعي الأفراد لحريتهم الخاصة وسط تناقضها مع عائلاتهم المتدينة، مثل قصة (مو) نفسه مع صديقته المكسيكية (الممثلة تيريزا روز)، أو قصة ابنتهم التي تزوجت كنديا مسيحيا، وهناك علاقة العائلة باليهود التي تشعر أنها كوميدية لكنها حقيقية، فلا عداوات إلا مع الصهاينة، وتلك جرأة خاصة بحسب سيناريو مجهز على مقاس (نيتفلكس).
يبدو لنا (مو) رفقة حبيبته المكسيكية الكاثوليكية يعيشان وسط تناقضات بسبب ديانتهما المختلفة، وهكذا بين القضايا العامة والخاصة يعرض علينا محمد عامر وباسم يوسف (يشارك في مشهدين) وبقية الطاقم والكاتب الرئيسي في جميع المشاهد المصري (رامي يوسف)؛ جميعا هموم وقضايا الجيل العربي المسلم الشاب الأمريكي الذي يعيش في أمريكا في الوقت الراهن، من خلال كوميديا بين نارين يرصد المسلسل أزمة الجيل المسلم في المجتمعات الغربية.
في تسلسل وخفة وعدم ملل طوال ثماني حلقات (تترواح الحلقة ما بين 23 – 30 دقيقة) نرى (محمد عامر) يكافح من أجل عائلته مرة، إذ يعمل في محل تصليح إلكترونيات، ومرة في ملهى ليلي، وبينهما يعمل رجل مبيعات يحتال على الزبائن بكون بضاعته ذات علامات تجارية، وأخيرا في مزارع الزيتون، وهنا تبدو رمزية استخدام مزرعة الزيتون في دلالة واضحة إلى الحنين للماضي الذي يرتبط بتلك الشجرة العتيقة في أرض فلسطين التي شهدت مرارات الاحتلال الإسرائيلي والاستتطيان وغيرها من موبقات الاعتداء على التراب الفلسطيني المقدس.
يتعامل (مو) مع كل ذلك بعباراته الكوميدية الفاضحة أحيانا، واجتهاده تقليد والده الذي قضى بالتعذيب، وبالتأكيد عبر ثلاث لغات وعدة ثقافات وتفاؤل، عبر كل ذلك استطاع (مو) الاحتفاظ بصديقته المكسيكية التي يزورها في منزلها، لكنه يعيش مع والدته (الممثلة القديرة فرح بسيسو)، والتواصل مع شقيقه (سمير) المصاب بالتوحد، ويلعب دوره ببراعة الممثل (عمر ألبا) ، وهو ذاته الممثل الذي أدى دور السائق في فيلم (توم هانكس) المثير للجدل عن السعودية (هولوغرام للملك – A Hologram For The King).
هكذا يعيش (مو) بين واجباته العائلية وشعوره بالذنب الديني – وهو ما سيفهمه معظم الجيل المسلم الشاب في مجتمعات غربية – وبين بداية إدمانه على نوع من الدواء، ثم العصابة التي تورط معها، وأوراق اللجوء التي لا يأخذها، ومساندته لصديقته المستقلة، وهنا سرعان ما يبدأ المسلسل ليأخذ منحنى إلى الانخفاض، ليصبح أشبه بمسلسلات (أكشن المراهقين) الأمريكية، لكن يبقى يخرج بين حين وآخر إلى السطح ليأخذ نفسا ويرفع معه المتلقي، إلى أن يعود إلى قوته الأولى.
من السهل أن نجد أن هناك تشابها كبيرا بين (مو) في المسلسل وسيرة محمد عامر الذاتية، وقد نشأ أفراد كثر من طاقم المسلسل في حي (إليف) المختلط من أعراق مكسيكية وأفريقية وعربية في هيوستن بتكساس، وهى ليست مصادفة، فقد كتب المسلسل لتكريم واسترجاع تلك الذكريات والأيام والمشاعر، وقد صعد نجم (مو) عامر وقتها منذ التسعينيات على خشبات المسارح الكوميدية في أمريكا، وذلك حين لم يكن أحد يسمع بكوميدي يطلق نكات إسلامية عن نفسه، إلى أن وقعت حادثة 11 سبتمبر 2001، وأصبح (مو) عامر مسموعا في كل مكان، لاذعا لكنه صادق ومضحك حد البكاء.
ويقول (مو) عامر في واحدة من مقابلاته الحديثة: هذا العمل كتبت أجزاء منه على مدى تسع سنوات، وهى المرة الأولى التي يعرض فيها مسلسل متقن واحترافي عن حياة فلسطيني بشكل مضحك، إلا أنه عميق أيضا، وقد صنعته من حياتي كلاجئ مشتت، ومن نشأتي في حي (إليف بهيوستن)، وأنا فخور بما آل إليه، كما أنا فخور بمكوناتي جميعها.
وحين تشاهد الكوميديان (محمد عامر) في عرض كوميدي حي تعرف أن هذا الرجل موهبته حقيقية وبلا حدود، ولا شيء يوقفه، لا اعتقاد الجمهور أنه عنصري، أو نكاته الجريئة، أو أن لديه حكايات عائلية حساسة، فالأمر لا يهمه، إنه بدائي تخرج النكات معه غير مشذبة فادحة الصدق، لدرجة أنك تضحك بكامل صوتك وطاقتك، لكنك في الوقت نفسه تريد أن تغمض عينيك عما يجعلك تراه من عباراته وجمله الصريحة.
أداء (محمد عامر) يثير في نفسك سؤال مهما: كيف استطاع هذا الأسد الهارب من الأقفاص أن يصنع مسلسلا؟ فيلتزم بالنص، ويمثل، ويراعي أن معه فريقا، كيف تشذبت موهبته طبيعية إلى هذا الحد، وتدجنت لتوضع في مسلسل؟، وهنا كانت الصعوبة الرئيسية، إلا أن ذلك نجح، بالتأكيد النكات ليست مضحكة بمقدار ما تكون في عروضه الحية، لكن لا ننسى أنه لم يكتبها كلها بنفسه في المسلسل، لذلك ربما جاء تكرارا لبعض الكليشيهات الفلسطينية المعروفة، مثل (أصل الحمص، أو تعلق الفلسطيني بزيت الزيتون، أو الخلط بين (بالستيان – (Palestine وباكستان.
من هنا كان يجب القفز عن هذه المتلازمات في حياة الفلسطيني التي أصبحت عابرة الآن في حياة المغتربين، والتركيز على العلاقات والتناقضات بين (مو) ومن حوله من جيرانه اليهود والمكسيكيين، وصديق طفولته الذي يلعب دوره المغني الأمريكي ذو الأصول النيجيرية (توبي نويجوي)، ومع ذلك يبقى المسلسل صريحا وجميلا ويعرض حياة الفلسطيني في أمريكا إلى حد كبير، لدرجة تشعرك بالعار من صراحته وجرأته، وهو ما لم يستطع مسلسل (رامي يوسف) الذي عرض قبل (مو) بسنوات باسم (رامي) أن يناقشه بصراحة وصدق مماثلين، فقد كانت تغلب الكليشيهات على الشخصية ذاتها.
جدير بالذكر هنا أنه يجب التذكير أن (نتفليكس) تأخرت كثيرا في عرض مسلسل كهذا، فهذه ليست هبة منها، بل أمرا محتوما حين نتحدث عن أثر القضية الفلسطينية في العالم، إضافة إلى رجل كامل الموهبة مثل (محمد عامر)، ومع ذلك يجوز وصفه بأنه أول مسلسل احترافي كوميدي على الإطلاق في تاريخ وسائل الإعلام الأمريكية يحكي قصة لاجئ فلسطيني يقف على حافة ثقافات عدة دون أوراق ثبوتية، ويكافح لدعم عائلته، وهذه المفارقات يعاني منها ملايين اللاجئين حول العالم، فهي أزمة هوية عرضها (مو) بكثير من الفكاهة والحقيقة والجرأة، دون أن تكبح جماحه كتابة رامي يوسف.
ينتهي المسلسل فجأة بعد مشهد (مو) وهو يقود دراجته النارية على طول الجدار بين المكسيك وأمريكا، وهو ما يذكر بالجدار الفاصل العنصري الذي بناه الاحتلال في الضفة الغربية، وهو ما يجعلك قريب التوقع مما سيحدث بالجزء الثاني الذي غالبا يعني أن (مو) سيذهب إلى الضفة الغربية، لتشعر أن ثماني حلقات قليلة جدا، وتوجد رغبة ملحة لمشاهدة الجزء الثاني، لكن في انتظار أن تعلن عنه (نتفليكس)، وأمنيات أن يكون ذلك أسرع من دراجة أبو حميد النارية التي يحاول من خلالها العودة مجددا إلى أرض فلسطين.