بقلم : محمد شمرخ
أليس عجيبا أن حفلات الساحل الشمالى التى يحييها كبار المطربين المصريين وغير المصريين لم تعد بذلك الضجيج الذي كان يلازمها كل صيف؟!.
ألا تشعر معي بأنه لم يعد شيء فيها مبهرا كما كان؟!
وهذا لعمرك أمر عظيم ونذير خطير، فالإبهار والاستفزاز كانا معا من أهم أهداف هذه الحفلات التى كانت تعد من إحدى صور المجتمع المترف المنعم الغارق في الإنفاق بلاحدود في بلاد تئن تحت وطأة الغلاء الفاحش مع تضافر جهود جبارة من الظروف الدولية والمحلية فى إحلال الفقر بالعالم لتنضب الجيوب من الأموال لتتكدس الثروات في جيوب موزاية، فلن يتقص جنيه واحد في السوق حسب قانون الاستطراق الاقتصادي.
لكن ما معنى أن الناس لم تستفز من أسعار التذاكر؟!
ولا حتى من شروط حضور الحفلات التى بدت في منتهى (الدلع) بضرورة ارتداء ألوان ملابس معينة ولا من الحركات الدعائية (المكشوفة) في إظهار التعلق بالنجوم ولا ولا ولا؟!
لكن المتفق عليه أن هناك حالة واضحة من الزهق والملل والركود لدى الناس جعلتهم شبه متغافلين، أم أنه الأمر لم يعد فيه ما يثير بعد أن تكرر الحك فأصيبت الجلود بالبلادة؟!
لم يستفز الناس أن تذكرة حفل أحد المطربين المشاهير بلغت 2500 جنيه، بل ربما رددوا بسخرية حكاية البورسعيدى الظريف الذي أخبروه بأن (الجمبرى غلوه) فأجاب متعجبا وساخرا بلهجته المعهودة باستنكار (غلوه غلوه.. احنا بناكلوه؟!).
ولكن لا داعى للحديث عن جمبري الساحل الشمالى، فهنا ستبدو مأساة أخرى بشكل غير مباشر وهى (رخص) تذاكر الحفلات، ولو كانت لعمرو أو تامر أو غيرهما!.
فعلى سبيل المثال تم تشيير فاتورة إفطار مكون من فول وطعمية وباذنجان ومخلل لثلاثة أو أربعة أفراد بمبلغ 1500 جنيه شاملة الضريبة ورسوم الخدمة، يعنى الثمانية أفراد الذين حضروا حفلة الهضبة، ودفعوا مبلغ 20 ألف جنيه لحجز ترابيزة، يمكن أن يكونوا قد تناولوا إفطارهم بما يزيد عن هذا المبلغ على عربية فول في مراسي!
هذا عن الإفطار.. فما بالكم بالغداء والعشاء؟!
لذلك طغت صور فواتير إفطار الساحل خاصة قرص الطعمية بسمسم (أبو خمسين جنيه) على صور الهضبة وهو يصول ويجول فوق المسرح آمرا البودى جاردز بالابتعاد عن أحد المعجبين الذي قفز فوق المسرح ليحتضنه!
يعنى الأخ الطعمجي لما يمد الكبشة السلك الكبيرة، ليخرج أقراص الطعمية، يكون قد انتزع من الزيت المغلى، كمية طعمية أغلى من تذكرة حفلة الهضبة ذات نفسه!
لذلك لم يوجه أي انتقاد ذي بال إلى أسعار حفلة (عمرو) لأن ثمن التذكرة قد لا يكفي لإشباع نهم أسرة تريد أن تبدأ يومها بالفطور على فول بالزيت الحار والطعمية أم سمسم مع شرائح الخيار المخلل وطلب عيش مفقع زيادة.
تصدق أن الإخوة المطربين الكبار ممكن يصعبوا عليك من كتر تدنى أجورهم في الساحل الشمالى بالنسبة لواحد فاتح مطعم شعبي ولا حتى واقف بعربية فول قدام بوابة هاسندا باي!
والساحل الشمالى كل سنة له حكايات تتحاكى عن أوجه الإسراف والتبذير والبذخ والسفه، حيث ينفق فئات من المصريين من الأموال أضعاف ما ينفقون في بقية أيام السنة ولا يضر أن يحضروا حفلة أو حفلتين بالفكة الباقية!
لكن موضوع الساحل الشمالى كل سنة يذكرنا بالخطيئة العظمى والتى لا تتبدى فقط في السلوكيات الاستفزازية على المستويات الاجتماعية والمالية والأخلاقية، لكن فى الشكل العام لاستغلال الساحل بمصادرة البحر وسواحله بعرض الخريطة، لصالح أعداد محدودة نتيجة مزرية لتخطيط عشوائي إجرامى حسبناه من إنجازات المعمار في العهود السابقة.
وقد أصبح الساحل مرتعا للمترفين الذين يتجاهلون الواقع المؤلم لغالبية تئن تحت وطأة غلاء يومى معيشي ينهش حاضرها ويمزق مستقبلها، تحت زعم أن ما ينفقه سادة الساحل، من حلال مالهم وهم أحرار فيه، لكن لا هو حلالهم ولا هو مالهم ولا هم فيه أحرار، فهم لم يمدوا أيديهم إلى السماء ليقبضوا منها تلك الملايين، لكنه سوء وعشوائية توزيع الدخول هو المسئول عن هذا الخلل في الفهم والاستيعاب والقبول، وذلك إثر ذيوع معتقدات اقتصادية خادعة بأن الاستغلال والاحتكار وسيطرة مجموعات من الأثرياء على مفاتيح السوق، هى من أساسيات (الاقتصاد الحر) وإعادة صياغة العقل الاقتصادى حسب مصالح وأهواء التجار المستغلين الذين مدوا أيديهم إلى كل مجال يؤدى للسيطرة على الوعى العام من فن وإعلام وفكر وثقافة لتقتنع الجماهير بسلامة مواقفهم وأن ما يفعلونه من حقوقهم، فيبرر لهم التكويش على منابع الاقتصاد والتحكم في السلع والخدمات المقدمة إلى تلك الجماهير التى تراهم رجال أعمال ومستثمرين ناجحين وصالحين، بل وغاية أمانى كل أسرة أن ترى أبنائها من المستخدمين في شركاتهم ومؤسساتهم ومنتجعاتهم.
غير أنك لابد أن تعلم يا سيدى، أن ما ينفقونه من أموال سواء في شراء فيلا فاخرة في مراسي أو شاليه قديم في مارينا أو شقة ترى البحر في أبراج العلمين الجديدة، وكذلك في حضور حفلة الهضبة أو حتى في مضغ طعمياية بسمسم، كل هذه الأموال من جيبك أنت ونتيجة لكدحك الذي يضيع جراء تلك القفزات المتتالية في سعر أرغفة الفينو وكيلو الجبنة وطبق البيض لتعد زوجتك سندوتشات الإفطار لأولادك.
هنا كذلك، أحدثك عن إفطارك فقط دون تطرق للغداء أو العشاء.
لست بحاجة لأن أحدثك عما ينتزع من جيبك من جهات أخرى في المدرسة والمستشفى والصيدلية وسنتر الدروس وسلسلة السوبر ماركت ومحل الخضرى وبتاع الفاكهة!
فما تنفقه بالكاد على ضروريات حياتك هنا، يبذرونه بلا ضابط على كماليات حياتهم هناك!
فما يحدث من أشكال الإنفاق ببذخ يتجاوز حد السفه في كل موسم صيف، وأن هذا النهم للترفيه، يؤكد اختلال مبادئ المسئولية الاقتصادية لدينا، فإن كان ثمة حاجة للترفيه، فلابد أن يكون موازيا لما بذل من عمل حقيقي سبقه، فهل ترى أننا مجتمع يعمل بجديه حتى ينفق كل هذه الأموال من أجل الترفيه؟!
ولحظة من فضلك، فأنا لا ألوم فئات الساحل من المترفين وحدهم، بل اللوم نفسه موجه إليك وإلى باقى فئات الشعب التى تحذو حذوهم، فهناك من متوسطى الدخل وتحت متوسطى الدخل، من تراهم على الدرجة نفسها من السفه الإنفاقي وهم يضجون بكاءً وعويلًا طوال السنة من الإنفاق على الضروريات بعد أفلستهم الكماليات!
لكن السؤال الأجدر بالتوجيه إلى كل فئات الشعب المصري من أغناها إلى أفقرها: هل توازى حجم العمل الإنتاجي مع شكل الترفيه الاستهلاكي؟!
نظرة واحدة إلى الشارع المصرى لكى تصل إلى الإجابة، فيمكنك أن تقارن بين عدد منافذ بيع السلع بداية من الأكشاك على النواصى ونهاية بالمولات العملاقة وبين عدد الورش والمصانع والمعامل والمزارع.. هل تراهم متوازيين أو شبه متوازيين؟!
يمكنك أنت تضيف الكافيهات التى تضج بها الشوارع حتى كادت تغلقها أو المطاعم التى لا تكف عن إرسال عروضها إليك في عقر دارك!
استهلاك استهلاك استهلاك!
لكن عمل يوك، إنتاج يوك، نشاط يوك!
هل أصبحنا شعبا من المترفين؟!
مع ملاحظة أن الترف حالة لا تفترض بالضرورة مستوى الغنى الفاحش، فمازال هناك من يعيشون قرب خط الفقر ومع ذلك تراهم حريصين على هذا الترفيه ولو استدانوا أو باعوا عفش البيت!
يا سيدى رفه عن نفسك كما تشاء، لكن هل أنت تستحق بعملك هذا الترفيه؟!
الأغرب من ذلك كله هو هذا الصمت الفنى والفكرى تجاه هذه المظاهر، فلم يعد هناك فن يقدم تعبيرا عن الحال الحقيقية التى يمر بها المجتمع لا معاناة ولا رفاهية، كفت الأقلام وجفت أوراق الصحف وعقمت العقول عن تفسير هذا الاستهلاك المتوحش الذي سينتج عنه لا محالة مشاكل مستقبلية، فما هو كمالي اليوم سيصبح ضروريا غدا وما هو ترفيهي هذه الساعة سيبح غدا من أساسيات الحياة، فمن أين وكيف وإلى متى؟!