بقلم : محمود حسونة
وحده الفنان الموهوب يحرص على تغيير جلده من عمل إلى آخر، ليثبت للناس قدرته على تقمص مختلف الأنماط البشرية بصرف النظر عن تناقضاتها، وحتى لا يتحول إلى فنان نمطي أسير نوع واحد من البشر ولا يستطيع الخروج منه خشية أن يفضح نفسه؛ أما الفنان المحدود الموهبة فستجد الشخصية التي يجسدها في هذا العمل لا تختلف عن تلك التي يجسدها في ذاك إلا بالاسم فقط، ولو بحثت في أرشيفه لوجدته منذ البداية وحتى النهاية محلك سر.
لا خلاف على الموهبة العظيمة للفنانة الكبيرة (يسرا)، ولا جدال على أنها حرصت منذ بداياتها على التنقل بين الأنماط النسائية المختلفة، ممثلة لها ومعبرة عن هواجسها ومجسدة لآلامها وموجوعة بأمراضها وسعيدة بانتصاراتها ومنكسرة بانهزاماتها، ولأنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد وقعت (يسرا) في فخ النمطية أحياناً، بعد أن عجز المؤلفون والمخرجون عن مجاراة موهبتها وتلبية تحدياتها في أن لا تشبه نفسها في أي عملين، وخلال السنوات الماضية وقعت في أسر المرأة الملائكية التي تعيش لأجل إسعاد الآخرين وهم لا يقابلون ذلك سوى بالجحود والنكران، وعندما حاولت خلع هذه العباءة قدموها في صورة المرأة الملائكية التي تخدم الجميع وعندما تكتشف مؤامراتهم عليها وضرباتهم لها تقرر أن ترد الصاع صاعين ويكون انتقامها منهم مضاعفاً، ومثال ذلك ما قدمته خلال العامين الأخيرين في (خيانة عهد، وحرب أهلية).
في رمضان الماضي كانت يسرا مختلفة شكلاً ومضموناً، شاهدناها في مسلسل (أحلام سعيدة) سيدة أرستقراطية كما يقول الكتاب، قمة في الشياكة والذوق الرفيع ملبساً، كلامها قليله عربي وكثيره فرنسي كأنها تنتمي إلى قمة الطبقة الأرستقراطية، تسكن في الزمالك، تهوى جمع التحف، ولا تقود سيارتها بنفسها وتفضل على ذلك سائق تاكسي تأمره وتنهره كما لو كان سائقها الخاص، لا تدوم في بيتها خادمة لعجزها عن العثور على الخادمة الأمينة النظيفة المريحة، تعيش حياتها وفق طقوس ترفض الخروج عنها، اسمها (فريدة هانم)، وينادونها (ديدي هانم)، وفي المقابل هى امرأة شكاكة، تتوهم أن المحيطين بها يتآمرون عليها رغم أنها لا تُقرّب إليها أياً كان وليس لها علاقات صداقة على الإطلاق، تعيش مع نفسها ولنفسها، تصدمها سيارة وهى تعبر الطريق، ومن شدة ارتطام رأسها في الأرض تفقد بصرها، وتبدأ رحلة الشك في شقيقها الوحيد وتتهمه بأنه كان يريد قتلها للاستيلاء على ميراثها، ويصل الأمر إلى حبسه لهذا السبب، وبعد أن تتأكد من براءته تبحث في ذهنها عن كل من تعاملت معهم، فالجميع متهم عندها والكل متآمر عليها، وعلاقتها بكل المحيطين بها متوترة باستثناء (يحيى) المحامي الذي كان حب العمر كله ولم تتزوج منه لأسباب عائلية وتزوجت من رجل سيء ثم تطلقت بعد إنجاب ابنها الوحيد، الذي ترفض نمط حياته وتمرده على استكمال الدراسة، وهو أيضاً يتعرض لعقاب قاس منها، تطرده من حياتها؛ ورغم ذلك فإن ثقتها بيحيى المحامي ليست مطلقة بل يكون بدوره محل شك في بعض الأوقات.
يسرا، تقدم هذا النموذج المعقد بخفة دم وأسلوب كوميدي، يفجر الضحك ويثير التأمل، لتدخل به القلوب وتجدد مكانتها في الوجدان الجمعي لجمهورها العريض والممتد إلى خارج مصر، ومن خلال هذه الشخصية تقدم مسلسلاً نسائي البطولة والتأليف، حيث كتبته المخرجة (هالة خليل) وتشاركها بطولته (غادة عادل ومي كساب وشيماء سيف)، ليقدم هذا الرباعي من خلاله عملاً كوميدياً تناقشن خلاله قضايا مختلفة للمرأة، ومنها تأخر سن الزواج والعنوسة وحرمان الفتاة من ميراثها وتأخر الإنجاب وتأثير الزواج من ثانية على الزوجة الأولى وعلاقات الصداقة النسائية وتولي المرأة الانفاق على الأسرة من خلال محاور فرعية درامية مختلفة، ويغوص المسلسل في العمق متعرضاً لسن اليأس عند المرأة، من خلال معاناة فريدة مع محيطها ومعاناة ثلاث فتيات ينتمين إلى طبقات اجتماعية مختلفة.
المسلسل انحرف عن المسار المقبول اجتماعياً من خلال تقديمه لنموذج (طارق) ابن فريدة هانم الذي يعيش مع صديقته وتحمل منه من دون زواج، في خروج غير مقبول عن الأعراف الاجتماعية للمجتمع المصري، ثم يعدل المسار بزواجهما في الحلقات الأخيرة بعد تغير قناعاتهما برفض مبدأ الزواج.
الشك عند (ديدي هانم) وراءه جذور، وعزوف شيرين (غادة عادل) وراءه جذور، وقبول ليلى (مي كساب) بأن يتزوج زوجها من ثانية وراءه جذور، ووراء كل حكاية رئيسية أو فرعية في المسلسل جذور يكشف عنها المسلسل في الوقت المناسب.
وباعتبار الدراما انعكاس للمجتمع فلا إبداع درامي متكامل من دون وجود للرجال والنساء معاً، فقد كان الإخراج من نصيب المخرج (عمرو عرفة) الذي قدم لوحات فنية تشكيلية تنطق تعبيراً عن المرأة وهمومها وشارك عدد من نجوم الصف الثاني من الرجال في أدوار ثانوية حتى تكتمل الصورة المجتمعية.
المهم أن بطلات المسلسل الثلاث الرئيسيات يعانين من الأرق بسبب قلة النوم، تعبيراً عن انشغال المرأة بهمومها إلى حد أن يطير معه النوم من عيونهن، ولا يعود إلا باستقامة المجتمع ومنح كل امرأة حقوقها، كما أنه لا يستقيم إلا بمعالجة النفس من أمراضها ووساوسها مثل الشك والانفصال عن المجتمع الذي تجاوز الطبقية منذ عقود، ولا استمتاع بالحياة إلا بالاندماج بين الطبقات المختلفة، والتعاون والتكامل وحدهما يفرزان مجتمعاً سوياً مليئاً بالحب والأمان والاستقرار والسلام الاجتماعي.